كاتب ومدينة - الحلقة الأولي من ثلاث

الطفــــــــولة:

كنا نسكن فى بيت سكندرى شعبى نمطى ، يطل على البحر حيث شاطىء رأس التين بالاسكندرية ، وتبتعد حارتنا الجميلة عن قصر الملك فاروق بمسافة صغيرة . كان ايجار شقتنا فى الشهر ريالين أى أربعين قرشا، وكان باب البيت الخارجى مصنوعا من الخشب السميك المنقوش بزخارف كلاسيكية ، تتوسطه يد حديدية على شكل قبضة اليد..يطرقها القادم فيشد أحد السكان الحبل الطويل الذى ينتهى عند الدور الثالث والأخير، ليفتح الباب ويدخل الطارق فى أمان. أما الدور الأرضى فكان محلا صغيرا للتصوير الفوتوغرافى يملكه ويديره ابن صاحب البيت القاطن بالدور الثالث..ولما مات المصور فجأة وهو فى ريعان شبابه ، استأجر المحل شاب إخوانى أذكر– أيام صباى -  أنه كان يتم القبض عليه قبل مرور موكب عبد الناصر بعدة أيام ثم يفرج عنه بعد ذلك.

   كانت غرف بيتنا كبيرة جدا فى طولها وعرضها وبصفة خاصة فى ارتفاعها..لكنى لا أتذكر على الاطلاق شيئا عن أثاث البيت ولو قطعة واحدة منه ، وأغلب الظن انه كان بسيطا متواضعا، فقد كان مستوى معيشتنا يتأرجح حول حد الستر بالايجاب أحيانا وبالسلب أحيانا أخرى. لم تكن لدينا "فرندات" وإنما شبابيك زجاجية طويلة مقسمة الى مستطيلات عديدة ذات أطر خشبية جميلة بيضاء، منها شهدنا – حين كنت فى التاسعة – دبابات الثوار وهى متجهة الى قصر رأس التين لحصاره صباح26 يوليه1952.

   لقد توفى والدى وأنا فى الثانية من العمر تقريبا ، حيث تولت أمى باقتدار عظيم ادارة شئون الأسرة بمساعدة شقيقى الأكبر "كمال" وهى فى الخامسة والعشرين ولم تتزوج مرة ثانية . عشنا نحن الذكور الثلاثة والفتاتين – وكنت أصغرهم سنا -  مع أمنا داخل هذه الشقة الفسيحة المكونة من أربعة غرف وصالة كبيرة نسميها الفسحة- بفتح الفاء والسين – وكان لأخى الأكبر غرفة خاصة ، أما أنا فأذكر جيدا أننى كنت أنام فى حضن أمى ، وأحيانا كنت أنام بينها وبين صديقتها العملاقة أم رجب ، التى كانت تطفش كثيرا من زوجها وتختار أن تغضب منه عند أمى ، حيث أحظى بنصيب وافر من اللحم الحنون لو تقلبت عن اليمين أو اليسار.

  كان خال أمى يزورنا بين الحين والآخر ومعه عوده الجميل المزركش بالصدف ، ليعزف لأمى التقاسيم والبشارف والسماعيات القديمة التى كانت تعشقها وتتمايل طربا لسماعها . أصابتنى تلك العدوى ، وكنت أنتظر زيارة الخال "حنفى بسطان" بفروغ صبر لأكون بمثابة عبده الطائع الذى يناوله الطعام والشراب ، فيشكرنى قائلا:

   - عفارم عليك ياصمير ( بفتح الصاد قاصدا سمير)..

كل جماعة زمان الكبار كانوا ينادوننى هكذا..وبالمناسبة فكان راحلنا الحبيب نجيب محفوظ ينادينى بسعيد ، ولكن بتسكين السين أحيانا وبكسرها أحيانا أخرى، ولم أسمعه يوما ينادينى بالسين المفتوحة.

   عموما لقد ورثت حب العود والموسيقا الشرقية عن أمى وخالها، ومازلت أعزف عليه سماعيا من حين لآخر، وأحب أن أراه فى غلافه الجلدى أمام عينى بغرفة المكتب كل يوم حتى لو مرت شهور دون أن أعزف عليه.

   كانت أمى رحمها الله تهددنى دائما بأنها ستعمل لى "طرنبة" إذا ما "اتفرعنت" أو عملت "خبث"، والطرنبة هى الحقنة الشرجية الزجاجية العتيقة بخرطومها الطويل، المعلقة دائما فى الحمام كأداة إرهاب. أما الأخباث البريئة فكانت عديدة، أذكر منها أننى انتهزت مرة فرصة نسيانهم لسلم البيت الطويل بإحدى الغرف حيث ينتهى جدارها فى أحد الأركان بشباك مهجور يطل على المنور، وكنت أرى اليمام الوديع يحوم دائما ويرفرف حول هذا الشباك، وأنا مبهور بجماله وندائه المحبوب"وحدوا ربكوا".تسلقت السلم ومددت يدى الى عش اليمام مستخرجا منه بيضتين صغيرتين وأنا فى غاية من السعادة ، لكن أمى نهرتنى و حذرتنى من احتمال أن يكون هذا البيض "بيض حنش"!!..وفى مرة حاولت تقليد الخال حنفى بوضع"النشوق" فى فتحتى أنفى ، بأن أخذت من الأرض كومة من رمل بنى اللون كان عامل الطلاء يستخدمه فى ذلك اليوم على ما أذكر - مالم يكن مصدر الرمل مكان آخر- وحشوت بها فتحتى أنفى فظللت أعطس حتى انكشف أمرى.

والحق أننى قد عشت حياة جميلة وسط أسرة متحابة متضامنة ، تلقيت منها تعاطفا خاصا بسبب يتمى المبكر..

****

البـحــــــــــــــــر:

   كان البحر عشقى الأكبر أنا وكل أندادى فى الزقاق ، فهو أول ما تراه أعيننا فى الصباح ،وكنا متيمين جميعا بحبه منبهرين بعشقه سواء أكان صافيا هادئا ، أو ثائرا هادرا مزمجرا..كان البحر أول خبراتنا بطبيعة الكون والحياة وتقلبهما الدائم.. وهو الذى ترسلنا اليه أمهاتنا وبيد كل منا مصفاة وقرشين لنشترى السمك من صيادى "الجرافة" الذين يسحبون الشبكة الى الشاطىء فى صفين متوازيين بحبال مربوطة حول وسطهم، ونعود به الى البيت متقافزا ، ألحق ببعضه قبل أن يودع الحياة فأضعه فى حلة وأضع بها ملحا لأستمتع بأسماك المرمار والبطاطة والشراغيش وهى تعوم وقد عادت اليها الروح.

   وأغرب ما كان يثير خيال طفولتى فى البحر هو نهاية حدود رؤيته عند انطباقه مع الأفق، حيث قيل لى ان هناك مخلوقات من أجناس أخرى تعيش خلف هذا الخط ، ومنهم هؤلاء السواح الملونين الذين يسيحون فى قصر رأس التين، وأن الوصول اليهم بالباخرة يستغرق أياما طوال..ولطالما تمنيت وحلمت واشتقت الى السفر الى هذه البلاد ، ولكنه لم يخطر ببالى أبدا ان يتحقق الحلم كما تحقق فى الواقع كما وكيفا.(مجموعة اقاصيص من السويد-هيئة الكتاب2005).

   بسبب وفاة الأب المبكرة ، لم يكن هناك من يجيب على تساؤلاتى الحيرى الكثيرة فى طفولتى والناتجة عن عشقى الشديد للتأمل والتفكير فى معضلات انسانية تفوق قدراتى العقلية كصبى، مثل الحياة والموت والحب والزمن والرزق والجريمة والسعادة والحظ والعدل والظلم والكثير من المتناقضات المحيرة فى الحياة لعقل مراهق صغير. ، فكان أن لجأت للقراءة من صغرى عسيا بالعثور فيها على الاجابة. وفى بداية الشباب كنت أكتب ما يشبه المذكرات التأملية والتى تحولت بالتدريج الى القصة فالرواية وكان أول من علق على أعمالى الأولى نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويوسف الشارونى وعلى الراعى، مما جعلنى أشعر بفداحة مسئولية الكتابة. وتوضح السيرة الذاتية تواريخ نشر أعمالى كلها.   

   لو سئلت ماذا يمثل البحر بالنسبة لى لقلت اننى أرى فيه الله. الحب. البراءة.الصفاء.القسوة. الهياج.الهدوء. النورس.الحياة. الرزق.الموت.الانسان.الصراع.السمك وإخوتى فى الله من المخلوقات المائية الجميلة. الصبر.الاتساع اللانهائى.سعة الصدر.حب المرح.عشق الحياة والجمع المذهل بين هذا الحب والزهد فيها. قوة التحمل. حب التأمل فى خلق الله وكونه وطبيعته.الايمان بالقضاء والقدر.الرضا بقسمة الله. التفاعل الانسانى مع الصيادين وصناع شباك الصيد ومراكبه.

   البحر اذن هو الحياة وهو العنصر الأساسى فى الاسكندرية كمكان ووجود.. ولكون العمل الروائى بناء عضوى متكامل ، فإنه مالم يكن المكان يشكل عنصرا جوهريا من عناصر هذا البناء، فإنه لايزيد على كونه مجرد حلية كمالية للعمل. وأنا حين أكتب عن الاسكندرية فليس بالضرورة ان أكتب عن شوارعها ومبانيها وبحرها وشواطئها، لأننى أتناول الانسان فيما أكتب سواء أكان يقيم بزقاق فى حى الأنفوشى أو فى هوليود بوليفار..رغم ذلك فإن كثيرا من أعمالى ابتداء من"جلامبو" و"بوابة مورو" وانتهاء ب"المقلب" و"الحب والزمن" ، كان للبحر تواجد هام فيها ، تتفاوت درجات حضوره تبعا لأهمية تبادله التأثر والتأثير مع الشخوص والأحداث.

   بالمناسبة أحب أن أقول ان الاسكندرية – رغم عشقى الطاغى لها-  لم تعد اليوم تغرينى أدبيا كمكان ، بعد أن أخذ طابعها الجمالى المتفرد فى الانهيار والتشويه البشع على أيدى السادة المحافظين الذين تناوبوا رئاستها على مدى مايقرب من نصف قرن. لم يمتلك أحدهم الحس الجمالى الذى يدفعه الى الحفاظ على جمال المدينة الكوزموبوليتانية الرائعة وحسن رونقها، كما لم يمتلك واحد منهم الذوق الفنى الذى يجعله يدرك أهمية حماية تراث المدينة العتيق وتنسيقها المثالى الفريد. هدموا القصور الجميلة ذات الحدائق والأشجار والطرز المعمارية النادرة وأقاموا مكانها عمارات أسمنتية ضخمة بشعة المنظر تسد مجال الرؤية على جميع المنازل التالية لها، كما انتشرت القاذورات  والمخلفات على أرصفة الشوارع ، ليس فى الأحياء الشعبية فحسب ، بل وفى أرقى احياء المدينة. لقد كنت أود لو ترك هؤلاء المحافظون مدينتنا على حالها القديم على الأقل وأبقوها عليه، لكنهم نجحوا فى تشويهها وتفرغوا للظهور فى المهرجانات وبرامج التلفزيون وعلى صفحات الجرائد والمجلات بصورة فجة مقززة ليتقيئوا علينا أكاذيب دعائية جوفاء تقربهم من السلطة.

****

التكــــــوين:

هناك عناصر عديدة ساهمت فى تكوينى ككاتب روائى:

1●الموهبة: وهى منحة عظيمة من الخالق احتاجت منى الى عمر طويل من الجهد والصبر والعمل الدءوب لصقلها ورعايتها ، ولاشك أن الموهبة لاتتصل بالدرجة الأولى بكونى سكندريا ، رغم أن طبيعة المدينة توحى بحب الفن والجمال وقد أنجبت العديد من الكتاب والفنانين المشهورين فى مصر والعالم العربى.

2● فقدان الانتماء الانسانى الأول بفقد الأب وتحولى كيتيم الى شخصية تأملية كثيرة التفكير ، كما تعلمت الصبر فى مدرسة الصيد منذ طفولتى فقد اكنت أقضى الساعات الطوال دون أن أدرى وأنا جالس أصطاد على صخرة ولا اهتم بأن يدركنى الليل فى بعض الأيام.

3● البيئة الساحلية زرعت فى شخصى صفات ابن البحر كسعة الصدر وحب الناس والشهامة والمرح، كما دفعتنى الى التأمل فى اتساع الكون وعظمة خالقه ، فغرست فى قلبى إيمانا فطريا عميقا. كما كنت أتأمل أيضا فى قضايا انسانية وحياتية كبرى تفوق قدراتى العقلية، بينما أتأمل حياة الصيادين فى بحرى والميناء الشرقى ، وكانت قضية الرزق على رأس هذه القضايا. كما كنت أجول فى المناطق السياحية الشهيرة كقلعة قايتباى وقصر المنتزه وقصر رأس التين وكوم الشقافة وكوم الناضورة وعمود السوارى والمتحف البطلمى ومنطقة المساجد بسيدى ابى العباس، وغيرها. ..وكان يلفت نظرى بصفة خاصة المبانى العتيقة ذات الطرز التى تمثل المراحل الحضارية المختلفة التى مرت بها الاسكندرية من فرعونية ورومانية ويونانية واسلامية.

 كنت اتطلع الى خط الأفق البعيد المنطبق مع سطح والبحر وأتخيل الناس الذين يعيشون وراءه وأتمنى زيارة بلادهم.لذلك كنت أحب مخالطة السواح والحديث معهم على قدر معرفتى البسيطة بالانجليزية. ولقد تحققت امنيتى فيما بعد وسافرت الى الخارج كثيرا. . وكانت هناك فرقة موسيقا الجيش ذات الملابس المزخرفة تعزف الموسيقا أسبوعيا فى حديقة قصر رأس التين فنتجمع حولها ويتغذى وجداننا على الفن منذ الطفولة، كما كانت مهرجانات الورود ومواكب الزهور تطوف سنويا بالكورنيش ويندفع اهل المدينة للترحيب بها والتصفيق لها.

4 ● النشأة الدينية فى مدرسة أبى شوشة الأولية لتحفيظ القرآن الكريم وعشقى لموسيقا القرآن وجرس لغته. كنت أستشعر علاقة حميمية وثيقة بين موسيقا تلاوة الشيخ رزق للقرآن والموسيقا التى أسمعها من عود الخال حنفى الذى عشقت البشارف والسماعيات التى كان يعزفها على عوده الأنيق المطعم بالزخارف الصدفية.

5●ندرة وجود أصدقاء لى من نفس العمر ، فكنت مضطرا الى مجالسة الكبار سواء فى البيت أو على الشاطىء ، والاستماع الى حكاياتهم وتجاربهم التى علمتنى الكثير ودفعتنى الى البحث عما  لا أفهمه منهم عن أمور غامضة على  - خاصة عن عالم الحب والمرأة والجنس - فى المجلات والكتب والجرائد، فكانت بدايات اتجاهى للبحث والقراءة.

6● معاصرة أحداث محلية وعالمية هامة مثل:

ثورة يوليه52- العدوان الثلاثى  56عقب تأميم قناة السويس -  الوحدة العربية 58– التأميم – مجانية التعليم التى أتاحت لى الالتحاق بالجامعة – نكسة 67 – نصر اكتوبر73 – حادث المنصة واغتيال السادات81.. وما تلى ذلك من أحداث سياسية عالمية وعربية ومحلية اهمها ثورتا يناير2011 و30 يونية 2013.

7● طبيعة تكوينى الذهنى كمهندس كيمائى ساهمت فى إثراء تجربتى الحياتية مما أثر على كتاباتى بالتركيز والتكثيف والتحليل والتركيب والتفاعل ، وكلها عناصر مشتركة بين الهندسة الكيمائية والهندسة الروائية.. " وروايتى"الفصل والوصل" هى أفضل تطبيق لهذه المقارنة بين سحر الكيمياء وفن الرواية اذ تعرضت لتحليل المسافة الفاصلة الواصلة بين كل من:

الماء المالح حين يمتزج بالماء العذب عند نقطة التقاء البحر بالنهر

الوجه والقناع عند الانسان

الطبقة المزججة الفاصلة الواصلة بين الطلاء الزجاجى وسطح المعدن

فضلا عن احتكاكى اليومى بالطبقة العمالية الكادحة وطبقة الموظفين المطحونين وطبقة رجال الأعمال الأثرياء المتعاملين مع المؤسسة. لقد حصلت على الماجستير فى الهندسة الكيمائية ثم سرقنى الأدب فلم أكمل الدكتوراه ولست نادما على ذلك.

8●أضاف سفرى الى الخارج الكثير الى رصيد تجاربى الحياتية بالتعرف على طباع الشعوب المختلفة وسلوكياتها والاطلاع على أسباب تقدمها وتحضرها ، فقد سافرت الى السويد والدنمارك وقبرص وألمانيا وسويسرة وأمريكا ، كما سافرت الى بعض البلاد العربية كالعراق وسورية والأردن والسعودية ، وكان لكل سفرية ظروفها الخاصة : بعضها علمى وبعضها مهنى وبعضها أدبى.

9●هوايتى المحببة فى محاربة الفساد أينما تواجد من خلال اندماجى العملى فى المؤسسات العمالية بالقطاع العام من جهة، وتوعيتى للجماهير من البسطاء بأهمية مقاومته وضرورة فضح لصوص المال العام ، وذلك من خلال المسلسلات الدرامية الاذاعية الشهرية التى كتبتها لاذاعتى القاهرة والاسكندرية من صلب أحداث الواقع، حتى أن أحدهم هددنى بالقتل فأبلغت النيابة وتبين أن زوجته قد توجهت الى مدير الاذاعة للتأكد مما اذا كان زوجها قد تزوج عليها – طبقا لما جاء بالمسلسل – أم لا. ومن بعد هذه الحادثة بدأت الاذاعة تأخذ على تعهدا كتابيا كلما تقدمت بمسلسل جديد ، بأن شخوص المسلسل غير حقيقيين وانما هم من وحى خيال المؤلف.."روايات بوابة مورو والفلوس والأزمنة والمقلب والكيلو 101 ..وغيرهم".

10●الازدواجية المثيرة المحيرة التى أعيشها بطول عمرى بين عشق الحياة الدنيا والالحاح على طلب المنزلة عند الاله فى آن واحد."قصة المعضلة الكبرى"ضمن مجموعة"الكشف"الصادرة عن هيئة الكتاب 2013 ، هذا على مستوى الفرد الازدواجى الذى يعانى من الوجدان المعذب، اما على مستوى المجتمع فقد استهوتنى المتناقضات الثنائية الأخرى كالدين والدولة والمطلق والنسبى والأصولية واللبرالية والتراث والحداثة والفرد والمجتمع والحلال والحرام وغيرها."روايات حالة مستعصية (دار الهلال) ، و الفصل والوصل(هيئة الكتاب).. وكذلك فى العديد من مجموعاتى القصصية الأحد عشر.

11●كانت تجربة الحب الأولى فى حياتى ذات تأثير جوهرى عميق على كتاباتى بما منحته لى من اشباع عاطفى وتوازن نفسانى وجسمانى وشعور بالرضا والثقة والسعادة.. وبالمناسبة فقد انتهت تلك التجربة بالزواج الذى كان من أجمل ثماره حفيدى الجميل ياسين أحمد سعيد سالم.

12● تجربة التجنيد أتاحت لى فرصة مخالطة أبناء مصر من كل الأقاليم ومعرفة طباعهم وعاداتهم، كما خلقت بينى وبين البيئة الصحراوية تآلفا خاصا أضيف الى تآلفى مع البيئتين البحرية والزراعية.

13● كان لتنوع مصادر ثقافتى العامة أثر كبير على كتاباتى، فقد انقضى الجزء الأعظم من عمرى فى تعاطى ثقافة الغرب فقط بشقيها العلمى فى مجال الكيمياء والهندسة والأدبى فى مجال القصة والمسرح والرواية، حتى تنبهت يوما لضرورة أن أتعايش ايضا مع فكر الشرق الذى أنتمى اليه فدرست احياء علوم الدين وألف ليلة وليلة وقرأت فى التصوف والشعر القديم والملاحم وغيرها من كتب التراث وعالم الجن ، ثم درست الأديان الثلاثة دراسة مخلصة وتنوعت قراءاتى فى التاريخ والفلسفة وعلم النفس، وأحمد الله أن نجحت فى تحقيق الجمع بين التراثين الغربى والشرقى قبل أن تقدمت فى السن وأصبحت أتسكع فى النادى مع أرباب المعاشات.

14● تشجيع كبار الكتاب والنقد لى منذ نشرت رواياتى الاولى وعلى رأسهم نجيب محفوظ ويوسف ادريس والدكتور على الراعى والدكتور صلاح فضل وغيرهم بعد ذلك.

****

   لقد نتج عن تضافر وتفاعل كل تلك العناصر التى ذكرتها أن تكون بداخلى مصهور ثقافى يحتوى الشرق والغرب ممتزجا بالدين والفلسفة، ورغم ما قد يبدو من تناقض بين مكونات هذا المصهور، الا أنها كونت طبيعتى الفنية الخاصة والتى كان لها انعكاسات واضحة على القضايا التى أثرتها فى أعمالى والتى أختار منها النماذج الآتية من واقع مجمل آراء النقاد كما أوجزها الدكتور محمد زكريا عنانى فى بحث له، فضلا عن آرائى الخاصة حول نفس الموضوعات :

****

(تتعرض أعمال سعيد سالم الروائية والقصصية والدرامية للعديد من القضايا والأفكار المعاصرة ذات الطابع الانسانى من خلال لغة سردية عالية تجمع بين التفلسف والسخرية، يتخللها حس صوفى ازداد ظهوره فى إبداعاته الأخيرة. وإذا كانت لغة الواقع هى اللغة السائدة فى معظم أعماله فإنه يمزج بها الخيال والفانتازيا أحيانا فى أشكال فنية متعددة دائمة التطور والتغير بما يتلاءم مع طبيعة المضامين الفكرية التى يتناولها.

  وهو لايعتمد بصفة أساسية على السرد،وإنما يستخدم بتلقائية فنية وسائل متنوعة يطوع فيها سائر الفنون الأخرى لخدمة فنه الروائى،فنجده يستخدم الحوار الاذاعى والمسرحى والمونولوج الداخلى والرسائل المتبادلة وحديث الشخصيات والسيناريو السينيمائى وتيار الوعى فى مزيج يشعل من لهيب العمل ويزيد من جاذبيته.ومن ثنايا حديثه لنادى روتارى شرق الاسكندرية فى8/1/2001 نتلمس إحساسه بأهمية الرواية كفن أدبى ودورها المؤثر فى المجتمع من حيث مخاطبتها للعقل والوجدان،رافضا مذهب الفن للفن،فالفن عنده وسيلة لتحقيق التناغم والتصالح بين الانسان ونفسه من جهة،وبينه وبين الحياة والكون والخالق من جهة أخرى،وهو يرى أنه رسالة تحمل من الدلالة أكثر مما تحمل من الفكر.

  والمتابع لمراحل التطور الفنى لأعمال سعيد سالم يمكنه أن يقسمها الى مراحل خمس.من هذا المنطلق نجد أعماله الأولى"جلامبو-بوابة مورو-عمالقة أكتوبر"تتناول قضية الانتماء، لابدرجاته المتصاعدة ابتداء من ثدى الأم وانتهاء بالكون العظيم والخالق الأعظم، وانما باختيار الانتماء للوطن بصفة خاصة.وفى مرحلة تالية:"آلهة من طين ومجموعات قصصية أخرى"يتناول فكرة خلاص الانسان من خلال الدين والفن،ثم يقترب من الفانتازيا فى مرحلة ثالثة:"عاليها أسفلها-الأزمنة-قبلة الملكة –الموظفون-رجل مختلف"-يتعرض فيها لقضايا أخرى كهوية الثقافة المصرية،وظاهرة الفساد الذى استشرى فى المجتمع،ومفهومه للحرية،ورؤيته للوجود الانسانى..ماذا يريد الانسان من الحياة وكيف يحقق سعادته..ويغلب على هذه المرحلة طابع التأمل والتفلسف والتساؤل.

  وفى المرحلة الرابعة يتركز اهتمامه بالقضايا السياسية القومية والعالمية من منظور انسانى ، كما يتعرض فى هذه المرحلة لتناول فكرة المال وعلاقته المعقدة بالانسان، ويلاحظ غلبة التحليل النفسى على معظم أعمال هذه المرحلة:"الشرخ- الفلوس- الأزمنة-حالة مستعصية-الجائزة".

  وفى المرحلة الخامسة يتصاعد الحس الرومانسى والصوفى فى روايات:"الكيلو 101"و"كف مريم"، و"الفصل والوصل"ويتسع أفق رؤيته للإنسان والكون والحياة، وتتبلور رؤيته لطبيعة التناقض بين العديد من الثنائيات الفكرية كالأصالة والمعاصرة، أوالفرد والمجتمع، أو الدين والدولة،أو الأصولية والليبرالية، من خلال تناوله لقضايا معاصرة كالاغتراب والإرهاب والعلمانية والفتنة الطائفية، وفى "كف مريم" بصفة خاصة كان أمرا مثيرا للدهشة أن يتم تناول مثل هذه الموضوعات الشائكة من خلال قصة حب رومانسية شديدة الخصوصية بين رجل وامرأة من ديانتين مختلفتين وقد تجاوزا مرحلة الشباب.

  ومن الممكن أن نلقى بنظرة عاجلة على تلك المضامين التىتناولها سعيد سالم بجرأة شديدة ومكر روائى كما وصفها الدكتور صلاح فضل ،وذلك من خلال آراء النقاد والكتاب الذين أدلوا بدلوهم فيما كتب) .

●قضية الانتماء:

الانتماء عندى هو عقد مواطنة شرعى موقع من طرفين هما الوطن والمواطن، وغياب أحد التوقيعين يعنى بطلان التعاقد. ولما كان الواقع يؤكد غياب توقيع الوطن مثلما يؤكد حال التعليم والصحة والبطالة والاسكان وشيوع الفساد، فإن ذلك قد أدى الى اغتراب كثير من الشباب إما خارج الوطن لهاثا وراء الحلم الأمريكى، وإما داخل الوطن بالانحراف أو التطرف الدينى، وإما داخل الذات فى صور اكتئابية وأمراض نفسية وعصبية..(روايات جلامبو وبوابة مورو وعاليها واطيها).

●قضية المطلق والنسبى:

من الطبيعى ألا يقاس النسبى الا بما هو نسبى ولا يقاس المطلق الا بما هو مطلق ، ولا يجوز الخلط بين المقياسين فالأول إما متغير أو زائل والثانى ثابت لايتغير. والكارثة التى تعيشها أوطاننا تتمثل بصفة أساسية فى الجريمة الكبرى التى يقترفها جماعة الاخوان المسلمين الذين يخلطون الدين بالدولة عن عمد واضح وقصد مغرض تحقيقا لميولهم المريضة بالقضاء على فكرة الوطن وإنكار الانتماء اليه ، امتثالا لتعليمات التنظيم الدولى الفاشى الذى ينتمون اليه بغية فرض عقائدهم على العالم بالقوة .(روايات الشىء الآخر والشرخ والحب والزمن). ان شيوع هذا الخلط المقصود يؤدى الى إقصاء الرأى الآخر وأحيانا تكفيره ، كما يؤدى الى سيطرة الفكر التفاضلى على الفكر التكاملى القائم على الاختيار والانتقاء والتكامل بين النقائض المتصارعة.

●قضايا الفساد:

أعود الى قضية أوليتها اهتماما كبيرا فى معظم اعمالى،(روايات والأزمنة والمقلب والشىء الآخر و الحب والزمن). وقد أشار الدكتور حامد أبو احمد فى حوار له بجريدة الأهرام الى مقولتى فى"الشىء الآخر" التى صدرت عن مكتبة المعارف عام2004:  "ان هناك عصابة مكونة من اربعين شخصا هى التى تحكم مصر الآن، وان هناك عجز مطلق لدى الشعب عن مقاومة هذه العصابة".. لقد قامت أعمالى الروائية الثلاثة الأخيرة على طرح أشكال الفساد والانهيار الشامل لكل أحوال البلاد فى عصر أسميته بعصر الفساد الأعظم، وعن دهشتى لتخاذل الشعب واستسلامه لدنس السلطة الطاغية، حتى أننى لم أصدق نفسى عندما قامت ثورة 25 يناير وكأننى كنت أحلم بأن تحريضى الرمزى والعلنى على المقاومة قد أتى بثماره، رغم أننى لم أتنبأ على الاطلاق بوقوع الثورة.

يقول الدكتور مصطفى عبد الغنى الناقد الأدبى بجريدة الأهرام فى كتابه"قضايا الرواية العربية".الدار المصرية اللبنانية 1999 عن تناول سعيد سالم لظاهرة الفساد فى أعماله"ويكون الراوى من الفطنة بحيث يربط بين الفساد الداخلى وعلاقة القوى الغربية به ، فكل أولئك الذين ينهشون جسد مصر كل يوم إنما يعيشون تحت تبعية القوى الامبريالية ، فهذه القوى تسعى إلى حماية النظام السياسى الفاسد لكى يحقق طموحها المستمر فى الهيمنة خلال خلق مجموعة من الفاسدين المستفيدين من ذلك، وبهذا تستطيع أن تحقق أهدافها.إن الكاتب كان دائم العود إلى العدو الخارجى وربطه بما يحدث فى العالم مستخدما كثيرا من اساليبه الفنية من التقطيع السينمائى والاسترجاع والتسجيل وما إلى ذلك."

  وتكاد تكون قضية معالجة الفساد الذى يستشرى فى المجتمع المصرى والعربى أن تكون هواية سعيد سالم المفضلة والتى لايكاد يتركها فى عمل حتى يعود إليها فى عمل آخر.فرغم نجاح المصريين فى عبور خط بارليف الرهيب باقتحامه ثم تدميره ، إلا أنهم لم يحققوا نفس النجاح فى تصديهم لخط بارليف الفساد الداخلى الذى ظل ينخر فى جسد القطاع العام حتى أتى عليه..ذلك الفساد الذى يحول دون تقدم الأمة وانطلاقها إلى آفاق العصر الحديث ، والذى يتعرض له من جوانب مختلفة فى رواياته:"عمالقة أكتوبر" و"الأزمنة" و"الكيلو 101"وهو حين يتعرض لفساد أصحاب الثروة والسلطة من المتاجرين فى قوت الشعب وأراضى الدولة حينا وفى السموم والمخدرات حينا آخر ، فإنه لايكتفى بإلقاء الضوء على وقائع الفساد وإنما يتغلغل فى أعماقه وجذوره ودوافعه ، ليكشف لنا عن ضعف الرقابة على المال العام وعدم مراعاة العدالة فى توقيع العقاب على المفسدين.وهو يعرى لنا تكنيك هؤلاء المفسدين فى توريطهم لمسئولين من السلطة لضمان السكوت وتوزيع المسئولية عند السقوط ، كما يفضح قدرتهم على التمويه باستخدام الإعلانات والتمسح بالدين وبناء المساجد وتوزيع ممتلكاتهم المسروقة بأسماء أقاربهم ، ويسخر من وقاحتهم حين يبررون الفساد بادعائهم أن العمولة أمر معترف به عالميا وأن لكل إنسان ثمن مهما ارتفع ، وأنه مادام الكبار ينهبون فلا مانع من مشاركة الصغار ، وأنه بدون سلطة أو ثروة تستحيل الحياة الكريمة..ولقد أفاض سعيد سالم-بحكم عمله فى الصناعة-فى شرح هذه الأمور خلال لقاءاته المختلفة فى المنتديات الأدبية.

  وفى مسرحيته الكوميدية"الدكتور مخالف"المأخوذة عن روايته عاليها أسفلها يطرح لنا تبريرا كوميديا للرشوة كمذهب يعتنقه بعض الموظفين وهو ما أسماه بمذهب "التكافل الاجتماعى الإجبارى". ذلك أن الأغنياء لايساهمون فى التكافل الاجتماعى السماوى ممثلا فى الزكاة والصدقات ولا فى التكافل الاجتماعى الأرضى ممثلا فى الضرائب ، ولذلك وجب على الموظفين أن يجبروهم على المساهمة رغم أنوفهم بدفع الرشوة.

●الكذب والنفاق:

  ونعود إلى شهادة سعيد سالم بمجلة فصول.خريف1992 لنجده يتحدث بجرأة بالغة عن ظاهرتى الكذب والنفاق من حيث ارتباطهما بالفساد فيقول:"إن الكذب فى حياتنا قد بلغ ذروته حتى اصبح وجه مجتمعنا قبيحا كأمعائه..وحين اطالع الجرائد والمجلات أصاب بحالة من القرف والاشمئزاز لشدة النفاق الذى يحول الشىء إلى نقيضه بجرة قلم،ويكفى أن أدلل على ذلك بالتصريحات الكاذبة لبعض الوزراء والمسئولين الذين يتعاملون مع الواقع كأنه وهم ومع الوهم كأنه واقع كما لو كانوا يخاطبون شعبا قد فقد عقله وذاكرته وإحساسه،ففى اليوم الذى يصرح فيه أحدهم بثبات سعر سلعة ما ، نجدها قد ارتفع سعرها فى اليوم التالى مباشرة ، وكأنما امتزج الكذب بالصدق امتزاجا"جنسوكيمائيا"يصعب معه إعادة فصلهما مرة ثانية،مثلما يصعب فصل المزيج الكيمائى المكون من مادتين،وإنما تسفر هذه العلاقة غير المشروعة-حيث الكذب هو العنصر الفاعل والصدق هو المفعول به- عن وليد مشوه هو واقعنا الهلامى العجيب الذى تحولت فيه القمة إلى قاع و القاع إلى قمة ."

  وقد عبر الناقد السورىشوقى بغدادى فى مقدمته للطبعة الثانية من رواية"آلهة من طين" عن رأيه فى هذه الروايةبقوله:"إن سعيد سالم شخص لايمكن نسيانه بعد الآن.لقد صار لكلماته معناها الحى الحاضر فى الذهن وكأننى أعرفه شخصيا منذ سنين عديدة،ذلك أن الرواية لم تكن مجرد متعة فنية،بل كانت أيضا وثيقة شخصية فى اعتقادى على صاحبها ، فالاسكندرية كبيئة والتخصص العلمى كخلفية والخصوصية المتفردة كأداء ، كلها كانت حاضرة فى الرواية بشكل أو بآخر كى تزيدك معرفة لابالفنان وحده ،بل بالانسان الذى يحمل إسم سعيد سالم ، ذلك الكاتب الذى يتميز بالاندفاع الشديد المتدفق بوتيرة متسارعة يلهث فيها القارىء والكاتب معا ، وكأن المخزون العاطفى والفكرى عنده يخضع لعملية انفجار أكثر منها عملية تأمل ،ولا تستطيع مناقشة الكاتب فى هذه المسألة ، ذلك لأنها تعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة تكوينه كإنسان ذى توتر داخلى بالغ الشدة."

  ولأن الشكل الفنى التقليدى قد لايتلاءم أحيانا مع طبيعة مضمون شديد الأهمية والحساسية كالدين ، فإن سعيد سالم-كما يقول الدكتور محمد مصطفى هداره فىكتابه:النثر العربى الحديث 1994-"لايعتمد على سرد الحكاية فقط وإنما يستخدم المونولوج الداخلى استخداما جيدا بلغة شاعرية شديدة التكثيف سريعة الإيقاع، ويوظف الرمز بصورة إيحائية تستثير الفكر وتجعله دائم اليقظة،وهو يجنح قليلا الى السيريالية فى بعض الأحيان ولكن دون إغراق فى الغموض . ولاشك أن عينه الناقدة التى تعى جيدا ظروف مجتمعها كانت موجودة فى أقاصيص قصيرة تناول فيها بعض قضايا المجتمع المصرى ولكنها لم تكن مرتبطة بفرد بل بمجتمع وأمة على المستوى الإنسانى العام".

● قضية الشكل والمضمون

يرى البعض أن الشكل هو الوعاء الفنى الذى يصب المضمون بداخله. أما أنا فأنضم الى هؤلاء الذين لاينظرون بصورة منفصلة للشكل عن المضمون، اذ أننى أرى فيهما مصهورا متجانسا أذابه الصدق الفنى. ويمكننى ايضاح ذلك بطريقة اجتماعية مرة وبطريقة كيمائية -بحكم مهنتى- مرة أخرى. فأما التفسير الاجتماعى فهو يشبه زواج -رجل بامرأة على أن يكون الصدق الفنى هو المأذون الذى يعقد عليهما. وأما التفسير الكيمائى فهو أن المصهور أو المزيج يصعب فصله الى مكوناته ، على عكس الخليط الذى يمكن فصله الى العنصرين المكونين له.ويواصل الدكتور محمد زكريا عنانى فى دراسته الشاملة:

  وسعيد سالم يعشق التجديد فى الشكل:" الظاهر والباطن.ملحق الأهرام29/9/2000"وقصة"رحيق الروح.ملحق الأهرام 28/12/2001"(وهما تنتميان إلى مجموعة رحيق الروح)حيث نجد القصة مكونة من مجموعة مختلفة من الأقاصيص،كل أقصوصة قائمة بذاتها، لكن مجموعة الأقاصيص فى مجملها تشكل محورا فكريا ووجدانيا مشتركا.كما نجد أن رواية"آلهة من طين"-التى سبق أن تقررت دراستها فى منتصف الثمانينات على شعبة السيناريو بمعهد السينيما تحت إشراف الدكتور محمد كامل القليوبى-تجمع بين السرد والمونولوج الداخلى والرسائل المتبادلة والحوار الإذاعى والمسرحى.وقد كتب عنها الناقد السينيمائى الدكتور رفيق الصبان فى مجلة روز اليوسف27/3/1989 قائلا إنها"لو وجدت طريقها الى الشاشة فسوف تترك فى النفوس أثرا يماثل إن لم يفق الأثر الذى تركه قنديل أم هاشم يحيى حقى أو شحات نجيب محفوظ."

  وفى رواية"الأزمنـــة"نجده يدخل-لأول مرة-السيناريو السينيمائى فى نسيج العمل الروائى بتلقائية شديدة ودونما افتعال،بينما نجده يترك شخصياته تكشف عن خبايا نفسها وعن علاقتها بالآخرين بضمير المتكلم فى روايته"كف مريم".ورغم أن هذا التكنيك ليس من ابتكاره إذ سبقه إليه البعض ،إلا أننا نجد جمل الحوار عنده مختلفـة حين يرويها طرفـا الحواركل من وجهة نظره .

● الثنائيات المتناقضـــة:

مثلما اعترض سعيد سالم على مايمكن أن يشكل تناقضا بين الدين والفن، فالفن جمال والله جميل،نجده يرفض وجود جبهتين فكريتين متصارعتين تكاد تكفر كل منهما الأخرى باعتبارها صاحبة الحقيقة الواحدة والمطلقة، ذلك انه يؤمن بالحل الذى يقوم على التكامل لاعلى التفاضل ،فهو يرى مثلا انه كلما تعمقت الأصالة تألقت المعاصرة"فى حديثه لمجلة الشراع اللبنانية27/12/"1981- حيث يتوقف الأمر على حسن انتقاء مايلزم ورفض مالا يلزم،بما لايتعارض مع القيم الانسانية النبيلة من جهة أو مع قيم الحداثة والتقدم من جهة أخرى،بذلك تكون الحصيلة تكاملية لاتلفيقية.أما التشبث بالماضى بحذافيره دون اعتبار لمرور الزمن و تجدد متغيراته ،أو الأخذ بأسباب المعاصرة من الغرب المتقدم كما هى بخيرها وشرها فذلك كله مرفوض.وهو يرى أن تبنى هذا الفكر التكاملى يؤدى الى ازالة الكثير من التناقض بين اتجاهات وتيارات فكرية عديدة سبق الاشارة اليها، مازالت فى جدل عقيم حتى الآن ،وهى تتقاتل فى ضراوة، مكرسة حالة من الانفصام الفكرى على مستوى المجتمع والفرد تؤدى فى النهاية إلى التردد والعجز عن اتخاذ قرارات مصيرية أصيلة قائمة على المبادرة بالفعل وليس على رده فقط:"رواية حالة مستعصية".ولعل حيوية الدراما فى مجمل أعمال سعيد سالم ترجع بالدرجة الأولى إلى احتدام الصراع الفنىوالفكرى بين العديد من المتناقضات التى نراها ممثلة فى شخوصه وأحداثه.

●الديــــن والفــــن:

  لعله من الملفت للنظر ألا تكاد رواية من روايات سعيد سالم تخلو من إشارات فنية إلى مقدسات دينية إسلامية أو مسيحية أو يهودية، إن لم تتناول أعمال بكاملها:"آلهة من طين-الكيلو 101-كف مريم" التعرض لفعل الدين عند الانسان،إذ يرى سعيد سالم أن "خلاص الانسان فى الأرض لايتحقق إلا بالحب،وأن خلاصه فى السماء لايتحقق إلا بالدين، وأن الفن هو الجسر البرزخى الذى يصل بين الخلاصين". وهو ككاتب مسلم يعترف بالأديان الثلاثة ، يؤمن-كما يتبين من كتاباته- بأن النصوص الدينية الثلاثة أشبه بطبعات ثلاث متتالية لكتاب واحد آخذة فى التطوير والتنقيح حتى انتهت إلى طبعتها المثالية الإسلامية.فإذاكانت الديانة اليهودية تمثل عالم الملك والقوة والمادة والإله الجبار،فإن الديانة المسيحية تمثل عالم الملكوت والتسامح والروح المتسامية والإله الرحيم، بينما تمثل الديانة الاسلامية وسطا متوازنا رائعا بين عالمى الملك والملكوت،وبين القوة والتسامح،وبين المادة والروح،ولا عجب فهى ديانة الإله العــــادل".(حوار بندوة روتارى شرق الاسكندرية).

  وعلى ذلك فإن العبرة عنده بجوهر الأديان الواحد بما تدعو إليه جميعا من حق وخير وجمال، الأمر الذى تؤكده دعواه الفنية المتكررة بنبذ التعصب والتطرف من جهة، وعدم الخلط بين المطلق والنسبى من جهة أخرى"مقالة المطلق والنسبى-نشرة اتحاد الكتاب.فبراير2001"-ورواية"حالة مستعصية". ومن خلال روايته"كف مريم"الحاصلة على جائزة اتحاد كتاب مصر لعام2001 يصف الدكتور السعيد الورقى-"الأهرام11/11/2001"-سعيد سالم بأنه"حكواتى مثقف يملك تلقائية الحاكى الذى يظل مسيطرا على ذهنك حتى نهاية الحكاية، وهكذا كان يوسف إدريس العظيم.وقد استطاع سعيد سالم أن يصنع نسيجا سرديا مثقفا، فيه شاعرية الأداء والتصوير،وديناميكية الحركة المتدافعة،وسحر اللغة الصورة، وعمق الفكر، فى جدل الحوار الذهنى.وقد تناول الكاتب قضية الإرهاب –وهذه براعة منه-دون تحديد قاطع لهويته ،مع أن القتلة ملتحون والقتيل مسيحى،إلا أن الكاتب مسها وكأنها قضية صراع طبقى وثورة الاحساس بقهر الحاجة وتمرد المتخبط بين ايديولوجيات الفكـــر. وقد استغل الكاتب قصة الحب الشائكة بين حليم ومريم بما فيها من رومانسية شاعرية رقيقة ليطل على عدد من القضايا الواقعية والفكرية كتلاقى الأديان وذوبانها فى دين واحد،وهل يمكن لمريم المسيحية وحليم المسلم أن يذوبا فى كيان واحد ووجدان مشترك، وهل يستطيع الحب والتسامح أن يحققا هذا؟..كما تناول قضية الاغتراب خارج الوطن وداخله. ولاتقف براعة سعيد سالم-فى روايته كف مريم-المانع المانح على قدرته فى وضع تصميم بنائى محكم لعمله،ولا على دقته فى رسم شخصياته،وفى تكوين علاقات هذه الأشخاص ببعضها وبنفسها وبالحدث، ولا على منظومة القضايا والأفكار التى كانت حاضرة فى ذهنه وحركها من خلال شخصياته،ولا على التوازن الحسابى الدقيق لاستحضار أصوات شخصياته وتناسب حجمها مع حضورها،  وإنمــا يقف على قمة براعته الأدائية لغـــة السرد لديه بما فيها من شاعرية مثقفة وما فيها من قدرة حركية تمتلك خصوصيات السرد".

  ويلاحظ أن نفس الناقد قد سبق له أن تناول أولى روايات الكاتب"جلامبو" بالنقد منذ خمسة وعشرين عاما على وجه التحديد.

●قضية الفصحى والعاميــة:

معنى القصة العربية أنها نوع من فنون الأدب المكتوبة باللغة العربية، واللغة فى ذاتها هى إحدى مكونات الجمال الفنى فى القصة، وهى أحد العناصر الأساسية فى إنشاء القانون الفنىالمختص بذات القصة والنابع من جوهرها وشكلها.فإذا ماخلطنا العامية بالفصحى فى عمل قصصى فإننا نكون كمن أصدر قانونا ثم قام بالخروج عليه،هذا من حيث المبدأ، أما من حيث النتيجة فإن الخروج على القانون-مثلما يشكل جريمة فى عرف المجتمع-يشكل فى عرف الفن جريمة أيضا،وأقصد بذلك جريمة القبح والتشويه وعدم التجانس والنزول بالفن إلى درجة سفلى.

  وإنى أتفق مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهما من الكتاب المعاصرين الذين انتهوا من هذه المشكلة بنجاح فيما يسمى باللغة الثالثة التى تستخدم فى الحوار فقط،وهى لغة ذات جرس أو رنين أو إحساس عامى لكنها فصحى فى الأصل،أما السرد فيظل على عرشه الجدير به،إذ أن الحوار وحده هو الذى يتعرض للتعبير عن متحاورين تتفاوت مستوياتهم الثقافية والمعرفية والتعبيرية. 


Further Reading