كاتب ومدينة - الحلقة الأخيرة من ثلاث

أنا والاسكندرية.. ذكريات لم تسقط من ذاكرتى:

لكل مدينة مفرداتها وأبجديتها التى تحل رموزها وتكشف أسرارها وتحكى تاريخها الا أنت يا اسكندرية. أيتها الغامضة المفعمة بالألغاز. تختصرين تاريخك كله فى غيومك الرمادية الحبيبة ..عباءة تطرحينها فوق الناس والبحر والمبانى والطرقات كتومة لاتبين ولا تفصح،  كوجه عذراء يطل فى استحياء على الكون الفسيح . رغم ذلك فتقاطيع وجهك الجميل كتقاطيع وجه رجل عجوز تنبئ بالحكمة وخبرات السنين.

    غيومك يامدينتى ليست كأى غيوم. تتجمع وتتجهم وتتمخض ، فيهمى غيثها مطرا مدرارا .. غيومك أسرار وأحاجى ورسائل موحية تبشر بأن التاريخ لن يقسو عليك أبدا، فهو ممتن لك ويحفظ فضلك، فأنت التى صنعته وزينت حواشيه بالأصالة والرقى والضياء . لن أندم يوما على أننى أنفقت عمرا فى حبك، وأننى جعلت زادى من حسنك ومداد كلماتى من عطائك ، وأبليت أيامى هائما فى طرقاتك أستنطقها وأحاورها وأجادلها فتقبل على أحيانا وتدير لى ظهرها عابسة عازفة عن البوح أحيانا أخرى. واذا كان الجنون هو انفصال عن الواقع، فأنا مجنون بعشقك وأزهو بجنونى هذا مستغنيا عن الواقع المرير، وكل أمنياتى أن تضمى عظامى فى ثراك دون حتى أن تلهجى بإسمى أو أن تخلدى ذكراى.

غيومك يا مدينتى ليست كأى غيوم .. غلالة شفافة من الشجن الدفين تلف الشوارع والمبانى والوجوه. غيوم خريفية رمادية بشارة من الشتاء القادم.
على أجنحة الخيال أسير فى طرقاتها فأعانق الحجارة 
والحوائط والبيوت. أنشر جناحى وأحلق فوق البحر. أصاحب النوارس فى بحثها عن الرزق اليسير، ولكنها تتركنى فى المساء عندما تؤوب الى أعشاشها المجهولة.
مدينتى تسكن فى أعماقى قبل أن أسكن فيها، وتسرى فى عروقى وتشكل أحلامى.
تشهد طرقاتها كم مشيت عليها أجرى فى حبور وأهرول فى شوق ، وأمشى متثاقل الخطوات أطرق أبواب الماضى وأغنى لها أغنيه الحنين. 
مدينتى صفاء ،أيامها رخاء، وماضيها يسكن فى نخاعى. عشت هذا الماضى منذ أن صاحبت الفتى المقدونى وهو يتأمل شواطئها فى عشق ويقول لى :

    - هنا سأبنيها ساحرة معطرة الأريج تسطع بالجمال والرقى والحضاره .. وستولد فيها وتحبو على أرضها وترضع من عبقريتها وتنتشى بسحرها ولن تستطبع منها فكاكا.. لاتبحث عن مدن أخرى ولا تفكر بالرحيل عنها، فإنها ستسكن داخلك أينما حللت، فلا تفلت يداك من قيودها، وتمسك بها الى أن يضمك ثراها.
     مدينتى والغيوم أسطورة فى كتاب دفين ونبوءة عراف مقدونى عجوز تقول:

    - من أحبها فلن يموت، وسيحيا حجارة فى طريقها، أو غيمة فى سمائها، أو موجة فى بحرها. 

****

المناشر القديمة:  

 سماء الاسكندرية غائمة شاحبة حزينة، تتعانق سحبها الهائمة فى الفضاء مع صفحة البحر الساكنة ذات اللون الأزرق البللورى الساحر. راحت النوارس تحوم حول صخور الجزيرتين الصغيرة والكبيرة صائحة فى بهجة ، وقد بدأت نسمات الخريف الشجية تعلن عن وجودها المترع بالحزن النبيل ، وفاحت فى الجو رائحة حب متبادل بين السماء والسحب والبحر ونسمات الخريف. خفت حدة المصطافين كثيرا بعد دخول المدارس والجامعات، وبدا الشاطىء خاليا مهجورا الا من أصحاب المناشر الجالسين أمامها فى انتظار من يجىء من زبائن من أحياء الاسكندرية البعيدة عن بحرى للاصطياف.

   منذ سنين عديدة ابتكر بعض الصيادين هذه المهنة حين كانت تمنعهم ظروفهم من النزول الى البحر للصيد، كأن تكون مراكبهم تحت الاصلاح، أو تكون شباكهم قد تمزقت فجلسوا يخيطونها ويجددون ما تلف منها. يتكون المنشر من أربعة أوتاد خشبية تغرز فى رمال الشاطىء على شكل مستطيل، ثم تربط فيها حبال طولية وعرضية يعلقون عليها"المايوهات" التى يستأجرها الغرباء لقاء قروش زهيدة، ثم يعيدونها الى صاحب المنشر بعد خروجهم من الماء وقبل مغادرة الشاطىء. يغيرون ملابسهم داخل صندوق خشبى مستطيل له باب أو شبه باب ، مكتوب عليه غرفة تغيير الملابس. كما تعلق على هذه الأوتاد عوامات مطاطية دائرية سوداء هى فى حقيقتها اطارات داخلية للسيارات وقد استهلكت ولم تعد صالحة لاستخدامها كأنبوب داخلى للإطار الخارجى . يحتوى المنشر أيضا على نصبة خشبية متواضعة يوضع بها موقد كيروسين وإبريق كبير لصنع الشاى، وبضعة أكواب مختلفة الأشكال والأحجام، وصناديق مختلفة بها زجاجات المياه الغازية. توضع كذلك مجموعة من"الشماسى" القديمة للحماية من الشمس ، وتستأجر هى الأخرى ومعها مقعدين أو ثلاثة- صنعت من نفايات خشب المراكب القديمة- لقاء مبالغ بسيطة.

   وقد جرى العرف بين أصحاب المناشر ألا يتعدى أحد على منطقة الآخر، فالداخلون فى حيز منطقة كل منهم لايقوم على خدمتهم سوى صاحب المنشر بمفرده أحيانا وبمساعدة زوجته وأولاده أحيانا أخرى. يؤجرون لهم المايوهات والشماسى والمقاعد والعوامات ويحفظون لهم ودائعهم وملبوساتهم طيلة بقائهم بالشاطىء.

****

مراكب الصيد القديمة"الجرافة":

 الجرافة هى مركب صيد كبيرة مزودة بشبكة ضخمة يسحبها الصيادون عند الشاطىء بحبلين من الجانبين وهم يقفون فى صفين متوازيين حتى تصل الى الرمال فيفرغون محتوياتها من الأسماك فى مشنات ويبيعون منها للمطاعم والجمهور.

"الجرافة" تستعد لتفريغ شحنتها من حصيلة الصيد. الأطفال والصبية يتجمعون حول الصيادين وهم يسحبون الشبكة الكبيرة من البحر بأذرعهم المفتولة و يرددون نداءات منغمة لتوحيد الحركة:

هيلا هيلا...صلى عالنبى

وصلى صلى... صلى

عالنبى صلى... صلى

تتشبث أقدامهم برمال الشاطىء الخشنة تحت اصرار جذب للحبال المعروقة لايلين. تبرز عروق نافرة. ترسم خطوطا متشابكة على سيقان تنوء بحدة التصلب والاشتداد وثقل محتويات الشبكة من رزق الله. بعض النسوة تتجمعن حول القارب ممسكات بأوان مختلفة الحجوم، غالبا ما تكون مصفاة. هكذا جرت العادة دون سبب واضح، اللهم الا اذا كان الغرض من ذلك هو سهولة غسل السمك من الأتربة العالقة به ، بماء البحر قبل العودة الى منازلهن. يعبىء الصيادون حصيلة الجرافة فى "مشنات"مخصصة. لايعبأون بالنظر الى مفاتن النسوة الملتفات فى ملاءاتهن السوداء التى اشتهر بها  نساء بحرى ، والتى يمكن أن تكشف عن أعالى هذه المفاتن فى يسر.

يتطلعون الى المصطافين الغرباء بعيون الرجاء والأمل لأنهم يدفعون أكثر من أهالى بحرى ولايفاصلون كثيرا مثلهم فى الثمن.

شروة بطاطه وشراغيش حلوة يابيه

لأجل خاطرك من غير فلوس

   -  هات ثمانية شلم واتكل على الله

 - خذ ياوله. بع البسرية  للنسوان  وهات الباقى على "حلقة السمك"

****

حلقـــة السـمك:

تقع الحلقة في منطقة الجمرك بالأنفوشي، في مثلث عمراني مميز، بجوار قلعة قايتباي التاريخية، على بعد غير كبير من قصر رأس التين . وتعتبر معلما أثريا، حيث شيدت في عام 1834م، إلا أن مبناها لم يعد يحمل تاريخ إنشائها، فكثير من آثاره محيت نتيجة عوامل التعرية، لكن يمكن لأى عابر  بالمنطقة أن يتعرف على مكانها قبل أن يصل إليها عبر رائحة الأسماك النفاذة التي أصبحت تميز المنطقة. . تحول المشنات الى حلقة السمك حيث ترص الأصناف المتشابهة كلّ فى صندوق خشبى طويل مفتوح لتعرض على الزبائن حيث تسمع نداءات :«ألا أونا.. ألا دوي.. ألا تري» مع بزوغ الفجر منبعثة من أشهر وأقدم سوق للأسماك بالمدينة، منادين على أسماكهم الطازجة بأشكالها وألوانها المتعددة والتي لم تفارقها رائحة البحر، فيما تتفرسها عيون عشاق المأكولات البحرية.

وتعتبر حلقة السمك جزءا لا يتجزأ من تاريخ الإسكندرية، فهي لم تبارح مكانها منذ قرابة مائتي عام. تبدأ الحلقة نشاطها من مطلع الفجر وتستمر حركة البيع والشراء فيها على مدار اليوم بلا انقطاع.  جاءت تسميتها من وحي تجمع التجار والباعة الذي يأخذ شكل الحلقة حول طاولات الأسماك المعروضة من كل ما لذ وطاب من المأكولات البحرية. يتوافد عليها أفواج من السواح للاستمتاع بمشاهدة المزادات الساخنة فجرا، فعند مدخل بوابة الحلقة يوجد مكان يشبه الصالة، به فتحات تنفذ منها أشعة الشمس والهواء، تتراص فيها صناديق الأسماك بانتظام في

انتظار من يزايد عليها.وتصل الأسماك باكرا في الرابعة صباحا، على شاحنات تضم حصيلة ما قام الصيادون بجمعه من مختلف السواحل السكندرية أو التي تأتي من الأقاليم المصرية، أو من البلاد المجاورة حيث يذهب أغلب الصيادين في رحلات صيد قرب الحدود مع ليبيا. يفتتح مزاد البيع. ينادي القائم على المزاد بسعر محدد للكيلو، لنوع ما من الأسماك، ومن يزايد بسعر أعلى تكون «الشروة» من نصيبه، ويكون المزاد في ذروته من الساعة الرابعة فجرا وحتى الثامنة صباحا، حيث يخلو المكان تدريجيا من الزحام حتى تباع الطاولات المتبقية من المزاد على الرصيف وحتى الخامسة مساء.

    وحلقة السمك هي ثاني أقدم سوق سمك بالإسكندرية فقد كان بالمدينة سوق آخر بـ «المنشية» يعرف باسم سوق السمك القديم، والذي يعود تاريخه لأواخر القرن السابع عشر، لكن الحلقة التى تأسست قبل 200 سنة أصبحت هي السوق الرئيسي للسمك.

   ومثل معظم الأماكن الأثرية بالإسكندرية ارتبطت الحلقة بالعديد من الخرافات، من أشهرها شرب دم الترسة، حيث كان مشهد الجموع المحتشدة حول بائعي الترسة البحرية مثيرا، فقد كان معظم أهالي الإسكندرية يعتقدون أن من يشرب دم الترسة يصبح أكثر خصوبة سواء كان ذكرا أو كانت أثني، وأنها تشفي من فقر الدم أو الأنيميا.

وعندما كانت تجلب الترسة من البحر كان أهالي بحري يتزاحمون عليها حيث يتم ذبحها بطريقة لها طقوس معينة، تتطلب قلبها على ظهرها، ثم يتم صب دمها في أكواب وتشرب في رشفة واحدة. إلا أنه تم منع ذبح الترسة حفاظا عليها من الانقراض ومنعا لانتشار هذه العادة السيئة.

****

مقابر البطالمة :

تقع تلك المقابر أمام مدخل رأس التين ، وهى خمسة مقابر، اثنين منهم تعتبران من أهم المقابر بالمنطقة ، وقد تم اكتشفها عام 1901 ويرجع تاريخها إلى العصر البطلمى فى القرن الثالث ق0م وتتميز المقبرتان بنقوشهما الجميلة وتصميمهما البنائى الفريد0وقد تم بناء هذه المقابر في فناء مفتوح تحيط بها غرف تحتوي على أكثر من مكان للدفن ، وتوضح زخارف الجدران التفاعل بين الفن اليوناني والمصري والمعتقدات الدينية للمدينة القديمة. والناس الذين دفنوا في مقابر الأنفوشى يمثلون الصفوة ، إما لأجداد مختلطة أو للمتأثرين باليونانية من المصريين.

****

مصطلحات أهل بحرى:

● الشلم:

هكذا ينطق أهل بحرى "الشلن" والذى يعنى خمسة قروش وكان قديما من الفضة الحقيقية .

●المشنة:

قفص من الخوص الطرى منسوج بطريقة تسمح بتصفية الماء منه ، وهو مصنوع من حجوم مختلفة.

●البياصة:

ساحة متسعة تتوسط عدة أزقة أو شوارع.

****

ميدان المساجد وسيدى ياقوت العرش:

كان هذا الميدان يحوى العديد من مساجد وأضرحة لأولياء الله الصالحين، ولكن بشكله القديم العتيق الذى يضج بزخم بالتاريخ قبل أن تناله يد الهدم وتغير معالمه الروحانية الغارقة فى الصوفيه .كان يطيب لى أن أصعد المنحدر أو "الدحديره" الخلفيه لمسجد أبى العباس - كما تعارف على تسميتها الأهالى - وهى مكان مرتفع عن الأرض، أول مايقابلك فى مطلعه قطيع من الخراف وبعض الرعاة الذين استوطنوا المكان منذ زمن بعيد. ثم الضريح والمقام العتيق للسيدة مندره القرشى عمة سيدى ابراهيم الدسوقى. ثم بضعة بيوت عتيقة جدا، واسطبل للخيل .كنت أنحدر من الدحديرة حتى أنتهى الى الباب الخلفى لسيدى البوصيرى، ثم الى مكانى الأثير بجوار المقام. أسند ظهرى الى السور الحديدى أمام الميضئة الأثرية غارقا فى السكينة ، سابحا فى الملكوت حتى يرفع الأذان ، فأسير متعديا الضريح الى داخل المسجد لأصلى . يأخذنى الحنين دوما الى زيارة سيدى ياقوت العرش فى مسجده العتيق ، فأتوجه اليه بادئا بزيارة المقام .

    كان المقام مهيبا يكتسى كله بالخضار، وتفوح رائحة المسك قوية نفاذة من مكان خفى. الأضواء باهتة ولكنها كاشفة للمكان. كنت اشعر أننى فى حضرة صاحب الكشوفات والكرامات وأحد العارفين السالكين من علية المتصوفة الواصلين. 
 

****
●كوزموبوليتانية أنت ياحبيبتى:

 عاش فيك أجانب من مختلف الجنسيات و انصهروا فيك حتى الموت..تعانقت فيك حضارات الدنيا بأكملها منذ جاء اليك الفتى المقدونى يلقى بتعليماته لمهندسه دينوقراطيس.
وهو يبنى له مدينة تاريخية تحمل اسمه وتخلده .

معالم سكندريـة تصعلكنا فى أرجائها:

●قهوة خبّينى:

يرتبط تاريخ معشوقتى الاسكندريه الحديث بمقاهيها العديدة المتناثرة فى أرجائها . من أشهر هذه المقاهى قهوة فاروق والقهوة التجارية وقهوة على الهندى التى أطلق عليها روادوها قهوة" خبينى" لأنها تقع فى الساحة الداخلية لأحد المبانى التراثية التى بناها الايطاليون بالمنشيه . لكن هناك العديد من المقاهى التى اندثرت وتاهت من ذاكرة الكثيرين ومنها قهوه النجعاوى التى كانت تقع فى محيط شارع فرنسا،  فى شارع متوارى يقع بين سوق "الكانتو" وهو جزء من "زنقة الستات" وبين خلفية مبنى الأوقاف ، وهو شارع صغير يمتلئ بتجار الخردوات ومستلزمات الحياكة وأدوات التجميل .
   كان المقهى الذى يشبه الى حد كبير مقهى الفيشاوى بالحسين ، يتسم بسحرخاص وجو ساحر مفعم بعبق الاسكندرية القديمة تنتشر أغلب موائده على طول الشارع،ويقصده بالنهار المحامون وأصحاب القضايا لقربه من المحكمة، وكذلك التجار المتعاملون مع محلات زنقة الستات، فضلا عن رواد المكان الذين اعتادوا الجلوس عليه.

   أما فى المساء فكان ملتقى معلمى ميناء الاسكندرية وتجار سوق راتب، والأفندية ومحبى جو الاسكندرية العتيق، يجلسون فى هدوء ووقار، يدخنون الشيشة ويتحدثون فى كل الموضوعات. وكان المقهى يغلق أبوابه عند العاشرة مساء ،لأن السوق المحيط به يغلق محلاته مبكرا، لتصبح المنطقة مقفرة خالية من المارة.
    أغلقت المقهى أبوابها فى نهاية الستينيات تقريبا ،لوفاة صاحبها النجعاوى الكبير، وحلت محلها المحلات التجارية، ولم يبق منها ولاحتى صورة واحدة، وان كانت ذكراها تعيش فى قلوب من عرفوها وعشقوا جوها.

●سوق العيــــــــــــــــد:

ساحة كبيرة تتوسط بيوت عتيقة تقع فى أول شارع راس التين، متفرعة من شارع اسماعيل صبرى. كما أنها تؤدى الى سيدى الأباصيرى وميدان المساجد. تعارف الناس على تسميتها بسوق العيد منذ زمن بعيد. كان للساحة اسم آخر متعارف عليه أيضا هو" الخمس فوانيس" لتواجد عامود انارة فى أوله يحمل خمسة فوانيس. 
   على يسار الساحة يقع مسجد "سيدى على تمراز" الذى بناه حسن باشا الاسكندرانى قائد الأسطول فى عهد محمد على. أما سيدى تمراز نفسه فالمعلومات عنه شحيحة، وسبب التسمية أنه فى هذا المكان وطوال شهر رمضان وفى الأعياد ، يكون مسرحا مفتوحا مليئا بكل وسائل التسلية للصغار والكبار: 
المراجيح بأنواعها والنيشان واختبار القوة بدفع عجلة حديدية عليها أثقال فوق حامل خشبى، والشيكا بيكا أو الدمية المتكلمة و خيال الظل وخيمة الأراجوز وباعة الطراطير والبخت وعربات الكسكسى والفشة والممبار.. مولد كبير صاخب لا أول له ولا آخر. كان أغرب وأهم مايميزه هو الخيمة التى يعرض فيها بعض الرجال المخنثين المتشبهين بالنساء وقد تلطشت وجوههم بالالوان الصارخه وبرزت صدورهم كالنساء. يرتدون بدل الرقص ويرقصون بمجون ويغنون لقاء قرش واحد للتذكره .. هؤلاء المخنثين الذين اختفوا من الوجود حاليا كان الناس ينعتونهم بالخولات.
وتبدأ الجولة مع الأصدقاء باستئجار بسكليت من عم بسطاوى العجلاتى ، والانطلاق بها حتى ميدان المساجد والرجوع ، ثم المرور على كل الألعاب دون المخنثين الذين حذرنا آباؤنا من مشاهدتهم ، الى أن ينتهى آخر مليم من مصروف العيد ، والذى لم يكن يتجاوز شلنا فضة  يحمل صورة بارزة للملك فاروق.

● المسرح الرومانى:

هو المسرح الروماني الوحيد في مصر وقد تمت إقامة هذا المبني في بداية القرن الرابع الميلادي .يتكون من أثنى عشر مدرجا من الحجر الجبري علــــى شكل نصف دائري، و يضــــم حمامات رومانيـــة من العصر الروماني.

●جبانة كوم الشقافة:

 يرجع تاريخ مقابر كوم الشقافة إلى القرن الثاني الميلادي وهى مقابر رومانية ، والمقبرة نحتت في الصخر تحت الأرض، وهى فريدة من نوعها وتتميز بالنقوش البارزة وتجمع بين الفن المصري القديم والفن اليوناني الروماني.

●مقبرة الشاطبي :
تقع جنوب شرق لسان السلسلة و شمال مدرسة سان مارك من ناحية البحر ، تم اكتشافها عن طريق الصدفة عام 1893م و تؤرخ لنهاية القرن الرابع و بداية القرن الثالث ق. م .
و تعتبر من أقدام الجبانات البطلمية في الإسكندرية لوجودها خارج أسوار المدينة.
●مقابر مصطفي كامل:

تقع بشارع المعسكر الروماني برشدي وهى عبارة عن أربعة مقابر من العصر البطلمي.

●مدينتى كنز من الآثار والمتاحف:

أخشى من الاستفاضة فى ذكر المعالم الأثرية بمعشوقتى الكوزموبوليتانية ، حتى لا أحول رواية صاحبنا المؤلف الى تقرير جاف عن تلك المعالم يسهل الحصول عليه من أى مكتب تابع لمصلحة الاستعلامات. لذلك فسأكتفى بذكر بعض الأسماء العالقة بذهنى دون تفاصيل ، لمجرد أن أرضى ضميرى ولا أبخس مدينتى حقها.

   هناك قلعة قايتباى وعامود الصوارى، ومعبد الرأس السوداء ومقبرة اللاتين
 بطريق الحرية أمام قسم باب شرق، وصهريج الشلالات، والمتحف اليونانى الرومانى، ومتحف الفنون الجميلة، ومتحف ومعهد الأحياء المائية، ومتحف المجوهرات الملكية، ومتحف كفافيس،ومتحف محمود سعيد.

●مدينتى مدينة الحدائق والقصور والمساجد، ليس كمثلها مدينة فى الدنيا:

اللهم صل على جمال النبى!.. علمتنى أمى أن أردد:"ماشاء الله لاقوة الا بالله" لدرء الحسد. ماشاء الله لاقوة الا بالله. عندنا حدائق المنتزه ، وحديقة النزهة، وحديقة أنطونيادس، وحديقة الورد ، وحديقة الشلالات ، والحديقة الدولية. عندنا قصر المنتزه ، وقصر السلاملك، وقصر الحرملك ،وقصر أنطونيادس، وقصر الصفا ، وقصر رأس التين. عندنا مسجد سيدى أبى العباس المرسى ،ومسجد الإمام البوصيري، ومسجد سيدى ياقوت العرش، ومسجد سيدى جابر الأنصارى، ومسجد سيدى بشر، ومسجد القائد ابراهيم.

****

●إنذار حاسم من الاسكندر للاسكندرانية:

عندما تخذلنى الاسكندرية أحيانا ولا تمنحنى عطور ماضيها القديمة المتخمة بعبق عظمتها ومجدها ، يصيبنى الألم وأنا أهيم بشوارعها.. أبحث عن ضالتى المفقودة وسط طرقاتها المحبطة التى افتقدت سحرها وجمالها وهدوءها، وتغيرت ألوانها ومعانيها ووقارها، وانسلخت عن ماضيها وتاريخها . أشعر أحيانا بالنقمة على الفتى المقدونى الذى بناها لكى يحقق أحلامه ويخلد اسمه ،ثم مضى واندثرت أمجاده كلها الا مدينة واحدة لاتزال تصارع الوجود وتلعق جراحها ، وتصارع جحود أبنائها، بينما تتوالى عليها الطعنات من كل يد فاسدة وكارهة للتاريخ والجمال. تتلقى الطعنات وتدمى وهى تقف بكبرياء فى شموخ وإباء ، فالمدن العظيمة لاتموت. 
    بناها المقدونى ومضى وتركها لنا لنبتلى بعشقها ونعانى من عذابها، ويصك أسماعنا فى كل حين أنينها المفعم بالكبرياء وهى تتلقى طعنات الجهلاء وأحقاد المغرضين .. تركها لنا وديعة غالية وإرثا لا يزول ..غصة فى الحلوق ووجعا فى القلوب، ونحن نرقبها تتغير وتتبدل وتتشكل من جديد، قبيحة مشوهة، بعد أن نزعوا عنها رداء ماضيها العظيم وطرحوا عليها أسمال الحداثة الرخيصة ، الفقيرة من كل معانى الرقى والجمال. 
هل كانت الاسكندرية هى خطيئة الفتى المقدونى الكبرى قبل أن تكون أعظم انجازاته ؟ ألم يكن قائدا فذا ثاقب الرؤية عرف من معلمه الأكبر أرسطو متغيرات التاريخ و قسوته؟ .التاريخ لايعيد الدرس مرتين، ولا يعبأ بالأغبياء الذين يفرطون فى ماضيهم من أجل مستقبل رخيص باهت وزائل . هل ترى دار بخلده عندما أعطى الأمر لمهندسه دينوقراطيس ببنائها ،أنها ستؤول الى ماآلت اليه الآن: عجوز أعياها الاهمال والعقوق والجحود. تفككت مفاصلها وأصابها الوهن وفقدت ذاكرتها المضيئة بالفن والجمال !
انهم لن يستبينوا الرشد الا ضحى الغد كما قال الشاعر الجاهلى ، بعد أن تضيع من بين أيديهم، ولا يتبقى منها الا بنايات أسمنتية قبيحة فظة القلب ميتة المشاعر. 
وانا أستعد الان لاستقبال الفتى المقدونى عندما يزورنى فى منامى غاضبا ثائرا ليقول لى: أخبرهم انهم لن يهربوا من عقابى ولن يحميهم أحد من لعناتى وأنت أولهم لأنك لاتملك الا الكلام والعويل.

●مصطلحات سكندرية:

- الضرب بالروســــية: أى بمقدمة الرأس من الجبهة وهى ضربة تحدث دوارا شديدا لمتلقيها يصل الى درجة الاغماء و السقوط على الأرض، فضلا عما تسيله من دماء.

- الفلافــــــــــــــــــل:هى الطعمية بعينها والتى يكتبها بعض أصحاب المحلات من غير السكندريين "طع100".

- الشكشوكة: أرز( وأحيانا حمص) مطبوخ بالصلصة والبيض والفلفل والبصطرمة.

- البصــــارة: تصنع من الفول المدشش بعد نقعه فى الماء وطحنه مع بصل وتوابل.

- البـــــورى: يطلق اسم سمك البورى الشهير على الماسورة التى تنتهى بفم الشيشة.

- البمبوطية: هم تجار البحر الذين يعملون على المراكب مع السفن العابرة في قناة السويس. كلمة البمبوطية إنجليزية الأصل (مان بوت) أو رجل القارب boatman وتحرفت (مان بوت إلى بمبوط ، وقد عرفت مدن القناة تلك المهنة منذ افتتاح القنال عام 1869 فكان بعض أبناء المدن يتجهون إلى الموانئ وفور رؤيتهم لسفينة ترابط يتجهون لها بمراكب صغيرة يبيعون ما معهم من بضائع، وكان الأجانب فور رؤيتهم يسعدون ويقولون (المان بوت) ويأخذون ما معهم من بضائع وأنتيكات وتحف ويعطونهم بعض الهدايا من الملابس أو الأجهزة الكهربائية أو النقود في بعض الأحيان. البمبوطية يتقنون عدة لغات يتعاملون بها مع السياح والسفن، الأجنبية العابرة لقناة السويس رغم أن غالبيتهم لم يحصلوا على أية شهادة دراسية ومع ذلك أتقنوا اللغة وبرعوا في التجارة والبيع والشراء فوق السفن.

****

●أيووووووه: مصطلح للتعبير عن الدهشة.

●أحييييييييييه:  مصطلح للتعبير عن المفاجأة، وفى الأغلب تستخدمه النســـــــــاء.

●أحّــــــــــــه: مصطلح يستخدمه الرجال – وأحيانا بعض النساء -  للتعبير عن الاستنكار ، وغالبا ما يلازم الشخرة الاسكندرانى التى تعبر عن نفس الشعور.

****

 الفرح الاسكندرانى:

فى البياصة الكبيرة بالأنفوشى رشت الرمال ورصت المقاعد ، وجىء بفرقة موسيقا حسب الله الشهيرة، ودارت الجوزة وزجاجات البيرة بين المعازيم.وانطلقت الأغانى ولعلعت فى المنطقة بفعل الميكروفونات العديدة التى تم تركيبها على أسطح كل البيوت المحيطة بالبياصة.

اقروا الفاتحة لابو العباس/ يا اسكندرية يا أجدع ناس

والفاتحة التانية لابو الدردار/ واللى يعادينا يولع نار

والفاتحة الثالثة لسيدى ياقوت/ واللى يعادينا يطق يموت

                 والفاتحة الرابعة لسيدى بشر / واللى يعادينا يلم القشر يلم القشر

والفاتحة الخامسه لسيدى جابر/ واسكندرية بلد الاكابر بلد الاكابر

والفاتحة السادسة مانعرفهاش/ واللى عارفها مايقولهاش مايقولهاش

والفاتحة السابعة برضومانعرفهاش/ واللى عارفها برضو مايقولهاش
وصلى صلى ..صلى ..على النبى صلى ..صلى 
واللى مايصلى ..صلى 
أمه يهوديه ..صلى 

وأبوه أرمنى ...صلى 
والفرخة واقفة/ على الجدار

والديك قاطرها /على الجدار
واحنا شايفينه /على الجدار

                                          ومطنشينه/على الجدار 

جلس العريس بجوارالعروسة فى حنطور مزين بالورود . كشابين صغيرين كانا مبتهجين يصفقان على رقص "سيد حلال عليه" بمطواته الشهيرة، وعلى رقص" سعيد مباحث" بالكرسى المثبت بين فكيه.

   ثم انه لابد من بعد ذلك أن تسير الزفة على الكورنيش حتى تزور العروس احدى المناطق الاثرية ويؤخذ لها الصور التذكارية فى منطقة السلسلة أو القلعة أو الكورنيش أو سيدى المرسى أبو العباس.

****

●شخصيات سكندرية لاأنساها:

● المعلم حبشى المنياوى ومعنى الرجولة:

كان المقهى الصغير المتوارى فى أحد أزقة الأنفوشى هو المحل المختار والمكان الأثير للمعلم حبشى المنياوى، أسطورة الأنفوشى وحى بحرى كله.
كانت شهرته تملأ الآفاق ، وسيرته تتداولها ألسنة الصغار والكبار . كنت أسمع عنه ولم أره. دلنى عليه أحد أصدقائى الصيادين وأخذنى لمقهاه المفضل وعرفه بى قائلا:

واحد من أحبابك ياسيدنا سمع عنك وتمنى رؤيتك.

 أجلسنى المنياوى بجانبه وطلب لى فنجانا من القهوة وشيشة.
جلست قباله أتأمله بإمعان .أحاول جاهدا أن أقرأ خريطة وجهه المتغضن بخطوط الزمن وعينيه الخابيتين اللتين لاتزالا تحتفظان ببريق ملغز.. طويل القامه مفرود الظهر عريض الصدر، له لحية مهيبة وحضور طاغ يتحدى عمره الذى تجاوز المائة عام بعامين. أكبر أبنائه تجاوز الثمانين .

   المعلم حبشى المنياوى حكاء من الطراز الاول اذا بدأ فى الحكى سيطر على عقول وقلوب الحاضرين.. كان من أكبر المعلمين أصحاب أسطول عربات الكارو التى كانت تعمل فى الميناء فى الشحن والتفريغ، وكان يملك مايربو على ثلاثين عربة، واسطبل كبير بجوار صالون الحاج محمد المطاهر الذى يحمل له كل رجال بحرى ذكرى ختانهم. وقد خصص المنياوى الاسطبل لخيوله وحميره التى تجر عرباته فقط .

    أصبحت مدمنا له ولحكاياته. كانت أولى تلك الحكايات التى سمعتها منه عن قرش ضخم اقتنصه صيادو احدى البلانصات، حين تجمع عليه أكثر من أربعين صيادا لينقلوه الى الاسواق لتهيتئه الى شرائح وبيعه. غير أن محاولاتهم قد باءت بالفشل لأنه كان لايزال حيا، فتصدى له المعلم المنياوى مع اثنين من أبنائه ، وباستخدام ماسورة حديدية كبيرة هوى المنياوى على رأس القرش بضربات متلاحقة حتى خمدت حركته. وباستخدام عربة كارو طويلة تم تحميل القرش بمعاونة حبال وبكارة فوق العربة التى افترشها بالكامل، وتدلى ذيله من آخرها مقتربا من الارض .

   كانت أجمل حكايات المنياوى عن الاسكندرية منذ سبعين عاما ... وكان متزوجا من نساء ثلاثة . يحكى عن قيامه بمهمة احضار خزين كل بيت من المواد الغذائية  كالسكر والسمن البلدى والدقيق والأرز والحبوب وسمك البكالاه المجفف والزبده والقشطه واللحوم والدواجن.
كانت ميزانية كل بيت من بيوته خمسة ريالات فضية، يتوجه بها الى سوق راتب فوق عربة كبيرة من عرباته، فيكدسها بالمشتريات ويعود بها ليفرغها أبناؤه الذين تعدى عددهم العشرين، أغلبهم من الذكور فى منازلهم .

   عندما يحكى عن الميناء نكتشف أن المعلم الأمى يجيد أكثر من عشرة لغات ، بما فيها الصينية ، وأنه كان صديقا حميما لكل قباطنة السفن الاجنبية التى كانت تتردد على ميناء الاسكندريه بانتظام .. وفى احدى المرات سألنى قائلا:

عارف ياأستاذ رجولة يعنى ايه؟

 سكت منتظرا سماع الاجابة منه. بعد أن سكت طويلا حتى ظننت أنه شرد منا ، قال:

الرجوله يعنى الأمانة فى القول والعمل ياأستاذ..

 وصفق بيديه مستدعيا صبى المقهى قائلا: هات قهوة مضبوطه للأستاذ بسرعه ياحوده، وغير له مية الشيشة.

● التمن العربجى وسبحان مغير الأحوال:

 كانت العاصفة على أشدها، والبحر مهتاج على شاطئ الانفوشى . جباله تعلو وتهبط مستجيبة لاحدى نوات شهر طوبة العفية ، عندما علا الصراخ والشجار بين التمن العربجى وهو ممسك بحماره الهزيل قرقر ، وبين مجموعة من الصيادين .التمن مصر أن ينزل بقرقر بين الأمواج  ليمنحه حمامه الأسبوعى، والصيادون يحاولون منعه من خوض الأمواج، لأنه سيغرق حتما ومعه قرقر .

   اعتاد أهل بحرى أن يطلقوا تسمية "النّص" على كل رجل قصير هزيل، لأنه فى اعتقادهم لم يبلغ مبلغ الواحد الصحيح من الرجال . لكنهم وقفوا حائرين أمام مسعود العربجى القصير الهزيل الخائر القوى،الذى يعانى من سوء التغذيه هو و حماره معا.اختاروا له اسم التمن( بضم التاء) امعانا فى التحقير. 

كان التمن صعلوكا أصيلا من صعاليك الأنفوشى . حاز هذا اللقب بجدارة  بسبب فقره وهزاله وحالته المزرية. من العجيب أنه اختار لحماره الذى لايقل عنه هزالا اسم قرقر على سبيل التدليل . كان مسرح عمليات التمن أمام باب حلقه السمك. يقف منتظرا بعربته المتهالكة وحماره الهزيل حتى ينتهى مزاد الاسماك داخل الحلقة ، ليقوم بنقل طوايل الأسماك التى فاز بها المعلمين الى الاسواق المختلفة بالاسكندرية. كان يرضى بأجر بخس مع حفنات من الأسماك كهبة من المعلم ، ثم يعود الى الحلقة ليعاود الكرة ، وفى نهاية اليوم تتجمع معه تشكيلة من الأسماك يقف بها أمام الحلقة ليبيعها للنسوة الفقيرات.
    فى المساء يفك قرقر من العربة، ويضع أمامه كومة من البرسيم أوحفنات من التبن، بينما يقوم بإعداد الجوزة والمعسل ، ويجلس ليشد الأنفاس فى كركرة متلاحقة وسعادة الدنيا والآخرة تشمله. لم يتزوج التمن لأنه لايقوى على الزواج جسديا وماديا ، ولأنه كان يعول أمه العجوز . يردد دائما:

كفايه على أصرف على روحين .

مضت به الأيام على هذا الحال ،الى أن أتاه ذات يوم "حوده جراد" ، أحدالصيادين الذين تحوم حولهم الشبهات ، وعرض عليه أن يدس له داخل طوايل السمك لفافات تحتوى على المخدرات على أن يوصلها الى زبائن جراد لتضليل مكتب المخدرات الذى لن يشك يوما فى التمن.
وتحت ضغط العوز والفاقة وإلحاح جراد ، قبل التمن أخيرا بالمهمة بعفوية وبراءة لاتثير الشكوك .

    تبدل حال التمن تماما ، وجرت فى يديه النقود. قام بتغيير عربته المتهالكة ، لكنه احتفظ بقرقر ولم يتخل عنه. ثم تزوج أخيرا من بنت عزيزة العمشه داخل حجرتين فى بيت قديم بالسيالة .

أصبحت قعدة التمن المفضلة لديه فى قهوة الصيادين ، مرتديا جلابية سكروتة ملونة ، طارحا فوق عنقه لاسة حريرية ، واضعا ساقا فوق ساق . ينادى صبى المقهى الذى يلبى النداء وهو يصيح عن عمد بصوت عال :

    - وعندك قهوه مظبوطه وشسيشه عجمى للمعلم التمن

 يبتسم التمن بسعادة ، ويمنحه نصف ريال فضة على سبيل البقشيش.

 

****

●الحاج محمد المطاهر والاستعداد للرجولة:

فى مواجهة ورش بناء السفن على شاطئ راس التين تقع أشهر حارة من حوارى الانفوشى.  على يمينها صالون الحاج محمد حلاق الصحة ، الذى يحمل له جيل الخمسينات والستينات من رجال بحرى ذكرى أليمة ومخيفة. مازالت تحمر وجوههم جزعا اذا مروا صدفة أمام المحل.
صالون حلاقة عتيق ببابين .على اليمين كرسى الحلاقة وأمامه مرآة قديمة وبضع كراسى متهالكة. بينما يتوسط الصالون ترابيزة خشبية بيضاء طويلة ، مغطاة بملاءة تزينها بقع الدم وصبغة اليود .

   على هذه المائدة سيق قصرا أغلب أطفال بحرى للختان ، ليبدأوا خطواتهم الأولى نحو الرجولة. من النادر اذا مر أحد صباحا  - وحتى الظهر-  أمام الصالون ولم يسمع صرخات الفزع والخوف والقهر من الأطفال ، تدوى داخل محيط الحارة، مختلطة بصوت الأمهات المطمئنة والمواسية لأطفالهن وهم ينتظرون دورهم فى الختان. 
وأمام مائدة العمليات يقف الحاج محمد بسنواته التى تعدت السبعين، مرتدبا بالطو أبيض وعلى رأسه طربوش أحمر قصير، وبجواره مساعده الحاج جابر زوج ابنته، الذى يكبل الأطفال ويشل حركتهم حتى ينتهى الحاج محمد من مهمته.  لم تكن العملية الجراحية تستغرق من الحاج محمد أكثر من دقائق معدودة، مستخدما أحد أمواس الحلاقه بعد أن يعقمها بالسبرتو وبدون بنج .

    يبدأ الأمر بأن يساق الطفل الى الصالون بعد أن تشترى له أمه حلوى فى الطريق لاغرائه على السير بهدوء وهو لايدرى شيئا ، وما أن يقترب الطفل من المكان ويتناهى الى سمعه صراخ أقرانه من الأطفال، حتى يبدأ فى الصراخ هو الآخر ، وهو يتملص من يدى أمه، وقد يطلق ساقيه للريح هاربا فى بعض الأحيان ، لكنه يحمل فى النهايه فوق المائدة ليبدأ الحاج محمد فى تهدئته قائلا:

"ماتخافش ياحبيبى احنا النهارده حنقيس بس ومش حنعمل حاجه"..

 وهى عبارة اشتهر بها الرجل، وان كان الجميع لايعرفون ماذا كان يقصد بكلمة القياس حتى اليوم.

بعد أن ينتهى الحاج محمد من مهمته، يعقم الجرح بصبغة اليود ويلفه بالقطن والشاش وينصح الأم قائلا:

   -   بعد ثلاثة أيام نزّلى الولد البحر وخليه يلعب ويستحم حتى يدبل الجرح.
وفى المساء يخلو الصالون الا من زبائن الحاج محمد الذين يحضرون لحلاقة رؤوسهم أو ذقونهم ويتبادلون معه الحديث عن أحوال الدنيا .

****

ملاحظة: معظم هذه الموضوعات مقتبسة من روايتى"صعاليك الأنفوشى".


Further Reading