الحقني يا جاهين

هذه الصرخة المكتومة .. وهذا النداء الإنساني أردده كثيرا مع نفسي في مواقف كثيرة من حياتي ــ وذلك منذ أيام شبابي. خصوصا حين أكون محاصرا بسحب الكآبة أو أجد نفسي حائرا أو محبطا في دوامة الملل أو اليأس ..
"يعني ما لقيتش الا جاهين" .. قالها أكثر من صديق عندما اعترفت لهم بسر "الحقني يا جاهين" ..ولم ينسوا بالطبع أن يذكروني كيف تلجأ إليه وأنت تعرف أنه عانى من الاكتئاب .. باعترافه واعتراف المقربين اليه.
لم أحاول أبدا أن أفسر أو أحلل سر لجوئي لجاهين طالما بكلماته ورسوماته بيطبطب عليا وبيقول لي عنك أشيله .. ويزيح همي أو غمي .. وألاقي نفسي بأضحك ويمكن أتنطط معاه .. جاهين بابداعه وعفرته وشقاوته وعبقريته له سحر وبصمة وله نسمة أول ما تشمها تحس انك عاشق لها .. وانك كنت من زمان بتدور عليها ومش لاقيها..
من يوم ما سحرتني عبقريته .. وأدمنت شقاوة روحه وبساطة ابداعه وعمق نظرته للحياة والبشر لم أتردد للحظة واحدة في أن أكون في صحبة ابداعه وكلماته وحواديته ومن عاشوا وأبدعوا معه .. وأن أستمتع بحضوره في مكان ما ولو من بعيد .. أو حتى من قريب .. متأملا المبدع وتفاعله مع من حوله .. وتواصله مع الموقف الذي هو فيه .. تعبيرات وجهه ودهشته وحركة يديه .. وملل رجليه ولغة جسده .. وبالطبع بريق عينيه .. أو سرحته لمدة قد تطول.
نعم كم من أسئلة طرحت على الأستاذة سناء البيسي وكم من المرات سمعت منها عن تجربتها مع هذا العبقري .. أثناء تحضير حلقات هو وهي.. بطولة سعاد حسني وأحمد زكي. صلاح جاهين كان له مكانه ومكانته في بالي دائما وأنا أسأل عنه وأنا أريد أن أعرف عنه .. والحمد لله حدث لي هذا مع الأستاذ إحسان عبد القدوس والأستاذ أحمد بهاء الدين ومع كل من كانوا معه في صباح الخير وفي مشاوير حياته والحالة الجاهينية الخاصة التي خلقها بروحه وبريشته وقلمه .. ..
وقد التقيت به في منزله .. بحضور ابنته سامية (الصغيرة آنذاك) وهي جالسة على الكنبة المجاورة لنا .. كنت أريد أن أعيش وأمتص من هذا المبدع رحيق تجربته .. وأعرف أكثر عن بداياته مع مجلة صباح الخير بعد ثلاثين عاما من ميلادها ( وكان حينذاك في ال٢٦ من عمره) ورحلته أيضا مع خلق البهجة والفرحة وولادة الأغنية والليلة الكبيرة وتشكيل الكاريكاتير والقفشة الساخرة .. نعم كنت مع فيلسوف الدهشة وفنان البهجة وموسيقار الخيال قبل عدة شهور من رحيله عن دنيانا .. في أبريل ١٩٨٦ قبل أن يكمل عامه ال ٥٦ من عمره
“انا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتو ليه خفتو ليه؟؟
لا فى ايدى سيف ولا تحت مني فرس ـ
بالمناسبة ما من يوم يمر في حياتي إلا وأنا أقرأ رباعية أو أكثر من رباعياته. انها كما قلت وأقول وسوف أقول روشتة نفسية تطبطب عليك وعلى قلبك وتريحك. عجبي. كما أن كلما مررت بتجربة غضب أو حزن أو طريق سد أو فقد عزيز في حياتي أجد نفسي أبحث عن بيانولا صلاح جاهين .. وأبدأ مع التسجيل بصوته هو .. ثم استمع لنفس الكلمات بصوت الموسيقار سيد مكاوي .. وأختم هذا الطقس النفسي مع سامية جاهين ابنته وهي تؤدي الأغنية بطريقتها الخاصة ..
يا لها من متعة لنفس تشتاق الى رفقة الحبيب واحتضان الحياة من جديد .. بدءا من "أنا دبت وجزمتي نعلها داب من كتر التدوير ع الأحباب ". وصولا الى . .."باتنطط واتعفرت واترقص كدهه كدهه" ..
صلاح جاهين من زمان كان معي وأنا أسمع اذاعة الشرق الأوسط في شبابي .. ونصيحته الغالية الآتية بصوت ايناس جوهر
غمض عينيك وامش في خفة ودلع
الدنيا هي الشابة وأنت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع ـ عجبي
وان كنت فيما بعد اكتشفت أن الرباعية كما كتبها جاهين تقول: غمض عينيك وارقص
وأذكر هنا أيضا أن هذه الكلمات والنصيحة الجاهينية كانت معي وأنا أسير في شوارع القاهرة والاسكندرية وباريس ونيويورك وواشنطن ويريفان ووارسو .. أينما كنت في شارع كبير أو مدق صغير .. وأنا أغمض عيني وارقص ..أو امشي بخطوات سريعة..
ــــــــــــــــــ
"الحقني يا جاهين" .. أقولها هامسا وأقولها صارخا لأن هذا المبدع العبقري كتب ورسم الكثير الذي شكل وجداننا .. وحرك مشاعرنا وحرر أفكارنا .. وصرنا نطير وننطلق معه.ونشعر أننا ولدنا من جديد مع رسوماته الكاريكاتيرية وكلمات أغانيه وأشعاره ورباعياته