My Cairo

فسيفساء مكان وزمان لم تكتمل بعد
يقوم بتشكيلها : توماس جورجيسيان
نشرت لاول مرة في مجلة فنون ــ عدد أغسطس/ سبتمبر ٢٠٢٢

قاهرتي..
الحواري والأزقة .. هي ميدان رمسيس وميدان التحرير وميدان العتبة وما بينها من شوارع أمشي فيها كثيرا وأعيش فيها وبها دائما..أحيا فيها وبها سنوات عمري الثرية ببساطتها وتنوعها وبأحلامي الكبيرة وبصداقاتي الجميلة العزيزة على نفسي والباقية دوما في ذاكرتي..انها البلكونة وأغاني الصباح من الراديو ونهارك عسل على الصبح .. وطبعا الرغيف البلدي السخن..
وهي دائما قاهرتي..منبع ومصب سرحاتي ومغامراتي ..انتصاراتي وهي ليست بكثيرة وطبعا انكساراتي وهي ليست بقليلة ..
ـــــــــ
قاهرتي..
انها عبق وسط البلد ـ القلب النابض والحياة المتدفقة .. وهي مدرسة كالوسديان الأرمنية بشارع الجلاء وهي كلية الصيدلة ومبنى روز اليوسف بشارع قصر العيني وهي شارع شبرا الشريان الأكبر للحي العريق المليان ناس وحيوية .. وأيضا شارع عماد الدين حيث تاريخ الفن والفنانين والسينمات والمسارح وحيث الأجزاخانة التي عملت فيها كصيدلي لسنوات عديدة أصرف الأدوية وأسمع الحواديت وأطبطب على النفوس .. وهي شارع رمسيس حيث كنيسة الأرمن .. لقاء الأحباب والأقارب والصلوات والأفراح وبالطبع الجنازات ..
ـــــــــــــ
قاهرتي..
هي المشي على الرصيف ووسط الشارع أحيانا والفرجة على الفتارين في شارع ٢٦ يوليو والفرجة على البشر ـ الرايحين والجايين .. وهي سور الأزبكية والغطس في أكوام الكتب والمجلات لعلي أجد كنزا لا أعرفه قد يكون مدفونا في صفحات الماضي وقد غطاها التراب .. وبالطبع هي أن أشتم رائحة البخور مع اقتراب موعد صلاة الجمعة .. وأستمتع برائحة التقلية من مدخل العمارات ..
ــــــــــــ
قاهرتي..
انها سندوتشات الفول من العربات الواقفة على ناصية الحواري .. وطبق الكشري من عند جحا والتحرير .. وأيضا محلات عصير القصب وتفانين الفواكه والفخفخينا.. وعربات الدرة المشوي والبطاطا والحلبسة أينما كانوا.. وأحيانا أكل الايكلير والمولفوي في الاميركان والايس كريم في جروبي.. وكما اعتدنا ورا كل أكلة حكاية ومع كل حكاية أكلة تحلي بها بقك.. وغالبا هناك صديق يرافقك في هذه الأكلة أو صديقة تقسم معاك اللقمة .. بالهنا والشفا وابتسامة الرضا..
ــــــــــــ
قاهرتي ..
فرشة الجرايد والقعدة على القهاوي على امتداد المدينة .. أهلا واتفضل. وقزقزة اللب وأكل الترمس على كورنيش النيل.. وقول اللي في قلبك وأدينا قاعدين ورانا ايه..
هي الترام ومحطة الأتوبيس ومترو مصر الجديدة ..والتروللي باص وكوبري قصر النيل وحديقة الأندلس وتمثال أحمد شوقي.. هي موقف أحمد حلمي والمشي من فوق كوبري الليمون للوصول الى محطة مصر أو ميدان رمسيس ومنه الانطلاق الى الأسكندرية أو الذهاب الى شارع المكتبات في الفجالة.. واما المشي برضه عبر نفق شبرا للوصول الى مشارف وسط البلد .. وشارع الجلاء ..
ـــــــــــ
قاهرتي..
هي القاهرة الأرمنية ـ اذا جاز هذا التوصيف .. هي حضانة الأطفال.. الحضانة الأرمنية في شارع الترعة البولاقية بشبرا والمتواجدة في هذا المكان من ١٩٣٥ الى ١٩٦٣ ـ حيث كانت خطواتي في التعلم واكتشاف الذات والغير .. ثم جاءت سنوات الابتدائي والاعدادي بمدرسة كالوسديان ـ بشارع الجلاء بجوار مصنع الثلج الشهير وهي كمدرسة بمبانيها وملاعبها مارست دورها التعليمي والتربوي بدءا من ١٩٠٧ .. بين جدران كالوسديان كانت سنوات النشاة والترعرع والانطلاق والتحليق والخيال المجنح باللغة الأرمنية ولغة الضاد معا .. حيث تشكلت في فترة الستينيات وبداية السبعينيات هذه الأجواء الأرمينية المصرية المحيطة بي ومعها عشقت اللغات وأبجديتها والابداع الأدبي والفني وبدأت محاولاتي الأولى للخروج من صمتي وتأملي والتحرر من شخصيتي الانطوائية .. هي بيوت الأرمن في وسط البلد وشبرا والظاهر والفجالة وغمرة ومصر الجديدة وهي غالبا في الأدوار العليا (لا أعرف السبب) وفيها تكررت الزيارات والدردشات وتقديم الحلويات والمربات (بالطبع شغل بيتي) .. مع شرب القهوة وقراءة الفنجان ..
قاهرتي الأرمنية في شبرا هي نادي الشرق الأدني للعب السلة وكمان استوديو فوبيس لالتقاط صور عائلية غالبا سنوية ترسلها والدتي للأقارب للسؤال عنهم وطمأنتهم علينا.. ومحل بطانيان للزراير وخيوط الخياطة والتريكو .. وقاهرتي الأرمنية في وسط البلد هي استوديوهات تصوير جارو وانترو وألبان وغيرهم بمروري أمام صور لمشاهير من الفنانين والفنانات وأصحاب المناصب ..
ـــــــــــــ
قاهرتي..
شارع الجلاء بالنسبة لي كان مشاويري ومحطاتي الصحفية بدءا بمبنى هوسابير ــ حيث توجد مكاتب جريدة هوسابير الأرمنية اليومية والتي صدر أول أعدادها في عام ١٩١٣.. أن أكون في حضرة كبار وعظام أرمن رغم غيابهم .. فهم تركوا بصمات فكرية تتردد على ألسنة من قرأوا كتاباتهم الملهمة .. أهمية الكلمة والاحتفاء باللغة ورائحة التاريخ والكتب القديمة وطباعة الصحف.. كل هذا عشته في هوسابير الصحيفة وهوسابير النادي الثقافي والاجتماعي في المبنى ذاته .. وفي شارع الجلاء كان مشواري الى أخبار اليوم ـ بشارع الصحافة مع مروري على الأهرام ..
قاهرتي هي الدور الرابع من الأهرام في مكتب الأستاذ كمال الملاخ وهو من نجح في أن يحول الصفحة الأخيرة من الصحيفة الكبرى الى الصفحة التي تقرأ أولا وقد قام بتقديم وتحرير مضمونها الشيق والممتع باسم من غير عنوان .. وأيضا كان الدور السابع من مبنى روز اليوسف مع الأستاذ لويس جريس .. من فتح لي صفحات مجلة صباح الخير منذ أكثر من أربعين عاما.. وحجرات المجلة المليئة بالابداع والمبدعين وشقاوتهم وعفرتتهم الصحفية.. وكيف أنسى الدور التاسع بمبنى أخبار اليوم ومكتب عملاق الصحافة مصطفى أمين .. وأنا أسمعه وأتعلم منه أكثر وأكثر عن ألف باء الصحافة التي تقرأ .. وتزيد من معرفة القارئ بما يحدث حوله.. وفمهه له ..
ـــــــــــــ
قاهرتي .. هي من غير ليه .. ونبتدي منين الحكاية
فذاكرة القاهرة وحكاويها بالنسبة لي هي قاهرتي التي عرفتها وعشقتها بكل تفاصيل حياتي ـ طفلا وصبيا وشابا. عشت وعشقت ناسها وشوارعها ومواصلاتها ودكاكينها وأصوات آذانها وأجراس كنائسها وأيضا نداءات الباعة الجائلين وبياعي الروبابيكيا .. وألعاب الحاوي وحواديت صندوق الدنيا ومزيكا البيانولا .. كل ما أريد أن أتذكره وأذكره عن قاهرتي عشته وذقت طعمه ..وتلذذت به .
بالتأكيد تغيرت القاهرة التي عشتها وعشقتها .. تغيرت وتبدلت وممكن القول بأنها تبهدلت أيضا ولم تعد كما كانت. وبالطبع لم أعد أنا كما كنت .. تغيرت بالتأكيد ونظرتي للأشياء وللأماكن وللأفراد تغيرت أو فلنقل تبدلت زوايا رؤيتها ومعايير تذوقها أو الافتتان بها.. عفوا هذه سنة الحياة وهذه هي حياتنا كما تمر بنا .. أو كما نمر بها ومن خلالها الى أن نرحل عن دنيانا ..