مزامير خديجة

(0)
Publisher: Dar Bassma
Year: 2023

مَزَامِيْر خَدِيجَة واكتشاف عوالم ما زالت طازجة في الروح

كتب شعبان يوسف - شاعر وناقد وباحث مصري

أكثرمن فرح ينتاب المرء عندما يكتشف أن مظلوماً قد أُنصف، وقررّت العدالة أن تُعيد له بعض حقوقه. وأنه على وشك أن يهشم القضبان، التي سيجت حريته، وبالتالي جماله وتشكُلاته.

هذا الفرح المتعدد أخذني رويداً رويداً، ثم بقوّة وأنا أقرأ هذه المجموعة القصصية المتميزّة: (مَزَامِيْر خَدِيجَة) للكاتب السوداني الصديق (أحمد ضحية).. وأسباب هذا الفرح –كما قلت– متعدّد لأنه في الأونة الأخيرّة التي تربو على عقدين، ساد اعتقاد أن الزّمن زّمن الرّواية، وطبق نُقاد وكُتاب وصحفيون هذا الشعار، على الحياة الإبداعية السردية في مصر والعالم العربي. وأصبح الاهتمام بالرّواية اهتماماً بالغاً ورئيسياً، وأُقيمت مؤتمرات هنا وهناك للرّواية، وأُنشئت مسابقات، ووُهبت جوائز. وصار اهتمام النُقاد الأول بهذا الفن.

وانتقل هذا الاهتمام إلى الكُتاب أنفسهم، فما من كاتب أو كاتبة يُصدر مجموعة قصصية إلا ولاحت له في الأفق "فكرّة رواية" فينتقل تماماً بكل آلياته وتقنياته إلى فن الرواية، وغالباً –دون عودّة– والشواهد كثيرّة، وتحتاج إلى فحص عميق.

وعادةً ما يكون الانتقال انتقالاً شكلياً، تحت وطأة الاعتقاد بأن الرواية سوف تدخل بكاتبها، إلى هذا العُرس المقام على مدى الوطن العرّبي ككل. والذي جذب له كل دوائر الاهتمام. لذلك كانت مجموعة (أحمد ضحية) القصصية بمثابة فرح أول.

أما ثاني هذه الأفراح وأسباب البهجة أن الكتابة هنا تتسم بطزّاجة غير معهودة، وكتابة ليست منهكة. فنحن أمام كاتب كبير يقدر على تطويع مفرداته وجملته في سياق متماسك، لينتهي بنا إلى (قصة قصيرة) أو (أقصوصة) أو (قصة طويلة) شديدة التميز. وهو قادر على المزج بين خبرّة الانتقاء وطزّاجة المنتقى، أى الإحكام الصارم وبكارّة الحكاية. ويستطيع أن ينقل لنا الحال التي تنطوي عليها القصة وأبطالها من وجع كان أم بهجة، وفي الوقت ذاته دون أن تفقد جماليات فن القصة القصيرة.. هذا الفن الذي يعتمد على التكثيف والدّقة والحذف والإيحاء، في مواجهة التمطيط واللا تحديد، والاسهاب والشرح.

ومن التصدير الذي يحمل عنوان: (تداع) تتضح الخيوط الأساسية التي تنطوي عليها القصص، ففي هذا التداعي يعمد الكاتب أن يضمنه تعريفات عديدة مثل: (زمن العرافين قد ولى) ويؤكد على "أن جيلنا هو جيل الشك". ثم يهدي المجموعة إلى أهله في تلك البلاد البعيدة، التي تسمى :(وديان الدّم: دارفور..) ثم إهداء آخر إلى أهل البلاد الكبيرة (السودان) وإلى (مصر) التي أحبها، ولا ينسى الكاتب أن يقتبس من الشاعر العربي محمود درويش مقطعاً شعرياً يقول في مطلعه: "لم يبق لي، غير الذي لم يبق لي.. تعب المغني والمحارب.. فليستريحا.."..

ليس عبثاً أن تأت كل هذه المعاني في هذا التصدير، الذي أطلق عليه الكاتب "تداع". فهذه المعاني التي توحي بالغربة والاغتراب والنفي والفقد والتعب وإنشاد الراحة والشك وانتهاء أزمنة اليقين! كلها تتمدد بتفصيلات سردية وجمالية في قصص المجموعة.

ففي قصة (مَزَامِيْر خَدِيجَة)، التي حملت المجموعة اسمها، والتي يستدعى فيها الكاتب طاقة الفلكلور، وامكانيات تطويع جمالياته لجماليات القص دون افتعال أو تزيد أو اقحام، نجد انسجاماً –كما يقول النقاد– بين (المبنى والمعنى)، وامتزاجاً بين الشخصية وما تفعل وما تقول. فخديجة التي تحاول طوال الوقت –الذي استغرق عمرها كاملاً– أن تنأى بنفسها وروحها عن مواطن الزحام ومواطن الارتباك، يختار لها الكاتب أغنية –أظنها شعبية– لتتناسب و تتسق مع حالها.. تقول الأغنية:

(الزارعينا في كبد البوصة نّي نّي مو نجيض الطير كلي البرسوسة * الزارعينا في كبد الغابة نّي نّي مو نجيض الطير كلي الورتابة..)..

ويستطرد الكاتب: "وظلت هذه الأُنشودة تعزّية وحدتها، منذ ذلك الوقت. وكانت حين ترغب في فصل نفسها عن العالم حولها، تتوغل متسحبةً إلى داخلها، وتدخل في حالة لا شعورية، و تبدأ في ترديد أُنشودتها المحببة.."..

الشعور بالوحدة واللا أمان يدفعان خديجة للاحتماء بتذكارات شعبية، لتؤنس هذه الوحدة. إنها تقاوم بالأناشيد والأغاني ونصائح الجَدّة، التي (تخط الودع وتقرأ الكف وتضرب الرّمل وتفتح الكتاب..) رُبما يكون في كل ذلك، هذا الظل الذي يحمّي خديجة من هذه الحياة الجافة، أو الحياة التي تجعلها (صفراً)..

 

وفي قصة (أغنية لطائرِ الحب والمطر) تلعب (القُمرية) دور التلطيف، أو التخفيف بين بطل القصة وإيمي حبيبته.. هذا البطل الوهمّي والفارس المهزوم، الذي استيقظ من غفوته فانتبه لعصاه، التي تحطمت بفعل السوس والأرضة، ما هو إلا رمزاً لشكل حيّاة كادت أن تتهاوى! بل هي تهاوت بالفعل، ولكن البطل يحاول طوال القصة، أن يعتصم بالحب والود والوئام والنُبل.. هذه المعاني التي أصبحت نائية عن الحيّاة، ولكن الراوي ينشدها ويأمل في استقطابها، ويخلق لها مناخاً يمكن أن تحيا فيه.

 

ويُنهي أحمد ضحية هذه القصة بعبارات وكلمات تعبر عن هذا الاصرار، على معنى أساسي وهو (إن العالم يمكن أن يكون جميلاً..).. تقول الكلمات:

"كان المطر قد توقف منذ وقت ليس قصيراً. حنت إيمان رأسها في حياء. غردت القمرية كما لم تغرد من قبل، ثم طارت. تابعتها بنظراتي وهي تنسرب بجناحيها في الفضاء اللامتناهي.. تتضاءل.. تتضاءل أكثر فأكثر.. غابت تماماً واحتوانا الطريق.."..

ولا تفلت قصة(النوة) من هذه المعاني التي يريد أن يؤكد عليها الكاتب، وعندما أتحدث عن المعاني فأنا لا أقصد أن هذه المعاني منفصلة عن الجماليات، فلا يوجد معنىًّ مجرداً عن جماله وصوغه. وتماسك بناءه و رِقة أو حِدة ألفاظه، وسلاسته أو تراكيبية لغته. والكاتب يوغل في كل ذلك ك"مجرب قديم" قد خبر إمكانيات اللغة، وكيف يقود مقاليدها.

وفي القصة: "حالة جذب" يستخدم الكاتب خبراته بشكل رائع، وينسج عالماً شفيفاً بين رجل مقيم، ولكنه قلق. وصديقته البعيدة التي ودعها منذ زّمن، ولم يستطع أن يعيد بينهما العالم كما كان، فينسج من تلك المسافة، عالماً مليئاً بالشجن والشعور بالفقد والحنين، وربما الخوف وأيضاً هذا الوتر الدافئ المشدود بينهما. فعليه تعزف كل الألحان وتنطفئ.. كل هذه النيران المشتعلة بالروح، عندما يظلهما سقف وتحميهما جدران، وينهي هذه القصة بفقرة ليست موجعة فقط، ولكنها مبهجة أيضاً. ففي شقته الصغيرة ب " الأندلس" –كما يقول– أجلسها على حجره "وناما بعد ذلك متصالبين، يصلبان حرمانهما. عجف الزّمن.. جور النّاس.. وقسوّة الحيّاة.. خواء الغربة، وألم الذكريات.. يصلبان أوجاعهما المقيحة في وجدانيهما المنهكين..".. أيضا تنتهي هذه القصة إلى أن الخلاص من كل العذابات يكمن في الدفء.. في التواصل الإنساني.. وفي الاجتماع البشري العادل. هذا الاجتماع العادل الذي لا يتحقق بسهولة ويسر..

وفي أقاصيصه القصيرة جداً، يبدو هذا الافتقاد للعدل وللتواصل وللدفء واضحاً جداً. إذ تنكشف هذه المعاني بشدّة..

ففي قصة (أطفال) عندما يصرخ الأطفال بسواد لون الإنسان وينادون (بونقا بونقا.. شيكولاته..).. يشعر بهذه العنصرية، التي تنبت عند الانسان منذ الصغر، فيتذكر وطنه وهو يتمتم (أنه ثمن الغربة!..).. وعندما يذهب إلى الحائز على جائزة (نوبل) لإجراء حوار صحافي معه، يكتشف أنه ليس عَلماً بل مجهول! فيتأكد تماماً أن العالم مفكك وغير متواصل وغير دافيء! فيشعر بالإحباط الشديد..

وفي قصة (أصدقاء) ذات المعاني تتكرر في جمل وعبارات توحي وترمز ولا تشرح ولا تسهب ولا تطيل..

تأتي قصص (أحمد ضحية) في لغة وكأنها لغة بكر، تبتعد كثيراً عن اليومي والمستهلك، فهو مغرم وعاشق للابتكار والنحت، وكما أسلفت يتناسب اللفظ مع المعنى تماماً. أنه كاتب موهوب وجميل..

أما فرحي الأخير.. فالكاتب يفتح لي بوابة للإبحار في مياه السرد السوداني، هذا السرد الذي تعطلت معرفتنا به في مصر لأسباب كثيرة، منها المتعمد ومنها العفوي وآمل أن نتعرف على هذه الأرض السودانية الحبيبة والحميمة، عبر هذه الكتابات الطليعية الجادة.

القاهرة، ٢٠٠٥