إناث الدار، محمد الهجابي

(0)
Publisher: Afrique Orient
Year: 2011

كتب بوشعيب الساوري

" لكل عمل روائي بلاغته الخاصة به، ونعني بذلك الإواليات البنائية التي يسخِّرها الروائي لتشكيل عالمه الروائي وتبليغه إلى المتلقي وإقناعه والتأثير عليه، وكل ذلك في ارتباط كلي برؤية الكاتب للعالم، دون أن ننسى خصوصيات الجنس الروائي.

 وقد اختار محمد الهجابي بناء تقابلياً لروايته الأخيرة إناث الدار(1)، جاعلاً الرواية بمثابة لوحة، يتقابل قسماها. والتقابل آو المقابلة هو طباق، لكنه بصيغة الجمع بين عدة طباقات ليصير تقابلات، تستجيب لحاجة جمالية يفرضها سرد الرواية، ونقصد بالتقابل هنا بوصفه ازدواجية تباينية تُقدمها العلاقة بين عنصرين متباينين في مقام مشترك. يقول الجوهري: «المقابلة: المواجهة والتقابل مثله.»(2) ويقول ابن منظور: «المقابلة: المواجهة، والتقابل مثله. وهو قبالك وقُبالتك أي تجاهك.»(3). يتبين مما سبق أن معنى التقابل في اللغة المواجهة التي تتم بين شيئين يكون الأول منهما يواجه الثاني ويتقابل معه.

 وسيلاحظ القارئ أن التقابل، بهذا المعنى، يهيمن على الرواية، انطلاقاً من عتبتها الشعرية للشاعر المغربي محمد الميموني، المبنية على عدة تقابلات، وأيضاً في العتبة الثانية وهي عنوان القسمين ("بالأبيض والأسود"، و"بالسكوب والألوان".) والتي تبدو للقارئ المتسرع دون جدوى. لكن لا تتضح أهميتها التقابلية، بشكل كبير، إلا بعد الانتهاء من قراءة القسم الثاني من الرواية، لأن المتلقي سيخيب أمله في إيجاد التقابلات السردية داخل القسم الأول، أو في القسم الثاني لوحده، وإنما سيلمس التقابل حين يحاول إيجاد خيط ناظم بين القسمين، فيتضح له أن التقابل يستمد صيغته من التعارض بين عالمين للبطل "حميش"؛ عالم الطفولة بأحلامه وهمومه البسيطة وعالم النضج بتعقيداته، وذلك انطلاقاً من إشكال مركزي مؤسس بطريقة، غير مباشرة، للرواية وهو سؤال المصير، والتحولات المفاجئة والصادمة في حياة الشخصيات وما تتعرض له من انقلابات صادمة.

 تتأسس رواية إناث الدار، كما أشرنا أعلاه، على قسمين متقابلين، وهو اختيار جمالي مقصود. وهما "بالأبيض والأسود"، و"بالسكوب والألوان" على شكل تقابل يقيمه الكاتب بين فترتين زمنيتين تفصل بينهما أربعة عقود، يجمع بينهما قاسم مشترك وهو الشخصية المحورية "حميش"، وهي فاصل زمني كان كافياً لزيادة التقابل. الأول يعالج زمن حرب الرمال سنة 1963 من خلال تسليط السرد على دار أُسر جنود مغاربة مشاركين في الحرب المذكورة والثاني يعالج نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.

 ونلاحظ أن القسم الأول قد حظي بأكبر عدد من الصفحات وهو يتكون من 13 فصلاً، إذ قدم لنا بتفصيل عوالم صبا "حميش" داخل دار أسر الجنود وبإناثها وعوالم طيش "حميش" ورفاقه بحس بيكاريسكي، وخارجها بمدينة تطوان. في حين أن القسم الثاني لم يحظ سوى ب 67 صفحة ولم يتجاوز فصلين، والذي ركز فقط على تحولات الشخصيات ومصائرها، وبشكل خاص شخصية "حميش" بمدينة الرباط. وهذا التقابل مقصود في الرواية فقراءتها تؤكد أن القسم الثاني هو صدى للقسم الأول ونتيجة صادمة له، انطلاقاً من توجيه مصائري، بالتركيز على ما آلت إليه الشخصيات.

 وهناك تقابل آخر وهو أن السرد في القسم الأول تم بضمير الغائب، في حين أن السرد في القسم الثاني جاء بضمير المتكلم (بتناوب بين حميش والهلالي الذي كان غائباً في القسم الأول).

 ونجد أن القسم الأول مليء بالأحلام الكبرى المرافقة للطفولة، على الرغم من صعوباتها وعوائقها، أما في القسم الثاني فيؤكد، من خلال ما آل إليه “حميش”، انكسار الأحلام وتلاشيها، إذ كان "حميش" في القسم الأول بارعاً في ثلاثة فنون وهي الرسم والكتابة والحكي بإيعاز من مشاهدته للأفلام بالسينما، وأيضاً كان يعتبر والده مثلاً أعلى، لنجده في القسم الثاني يتخلى عن كل مواهبه، ويخلص إلى عادات كان يرفضها في القسم الأول بإيعاز من توجيهات والده، إذ أصبح يقبل عليها كشرب الخمر والتدخين. ففي غياب الوالد بسبب الحرب كانت له مجموعة من الأحلام وبحضور الوالد انكسرت تلك الأحلام برفضه تسجيله بمدرسة الفنون الجميلة، ليسجل بمعهد الزراعة ويشتغل فيما بعد بوزارة الفلاحة وهو الأمر الذي كان صادماً لرفيق طفولته الهلالي ومعه القارئ.

 في القسم الأول هناك تركيز على ما هو خاص وحميمي بالنسبة للبطل وهو يتفتح على العالم، في طفولة يغيب فيها الوالد الجندي إلى حرب الرمال، طفولة بطيشها ومعاركها وأحلامها وأسئلتها البريئة، وهي تواجه صعوبات الحياة، رغم صغر السن بالاعتماد على الذات وشطارتها لتعين أسرتها، وذلك بتسليط الضوء على الحياة من داخلها. في حين أنه في القسم الثاني هناك تركيز على تحولات مصائر الشخصيات، بعد ثلاثين سنة، وإبراز آثار الأحداث الأولى على مصائر الشخصيات وبشكل خاص على “حميش”، الذي كان يعمل بالسوق وينقب في المزابل عن أسلاك النحاس ليبيعها ليعين والدته وليوفر مصروف الجيب، ويؤدي أدواراً أكبر من سنّه بمواساة الوالدة والتخفيف عن غياب الوالد في حياة تبدو صعبة، ويقوم بدور حماية الدار، متقمصاً دور الأب، وكان خاضعاً فيها لعدة إكراهات، فرضتها حرب الرمال والسن والمدرسة. بينما يبدو في القسم الثاني غير مبال. فبعد أن كان ملتزماً بشؤون الوالدة وإناث الدار التزاماً كان يفوق سنه، أصبح منفلتاً من الالتزامات ومنخرطاً في اللذة بالإقبال على الخمرة، في حياة ينعم فيها بالاستقلال والحرية. وأيضاً فبعد أن كان حريصاً على فهم كثير من الأمور المتعلقة بالكبار، بدا في القسم الثاني غير مهتم ولا مبال، ودخل في شبه عزلة بعد أن كان يعيش وسط الآخرين رفاق وأسرة في القسم الأول.

 في القسم الأول يغيب الأب للحرب وتحضر أفكاره وتوجيهاته، ويتم العمل بها والامتثال لها، في القسم الثاني يغيب الأب ويتم ضرب أفكاره عرض الحائط بالإقبال على عكس توجيهاته، كنوع من التمرد والسخط على إقبار أحلامه. يبدو حميش غير مهتم بما جرى له وبمصائر تطوان وشخوصها مقارنة مع رفيق طفولته الهلالي الذي كان يلح عليه بالكشف عن مصائر الشخصيات، بل قام بخمس زيارات لتطوان لتفقد الأماكن وتحولاتها. ويبدو هذا التمرد في كون "حميش" يتعمد نسيان ماضيه، حتى أنه رفض زيارة تطوان، ولم يزرها حتى نهاية الرواية رفقة صديقته نوريمان التي سيكتشف بعد الرحلة أنها عتيقة التي كانت أثيرته من بين إناث الدار.

 في القسم الأول ينشغل السرد بالأماكن وحميميتها، بينما في القسم الثاني صار منكباً على مصائر الشخصيات.

 وهناك علاقة أخرى بين القسمين، وتتمثل في كون الثاني يضيء الكثير من الأمور التي توقف عنها السرد في القسم الأول.

 لقد قدمنا في هذه القراءة فكرة عن هيمنة التقابل السردي على رواية "إناث الدار" الذي تؤشر عليه العتبات النصية وأيضا المقارنة بين قسمي الرواية التي يفرضها الانتهاء من قراءة القسم الثاني."

الهوامش:

1- محمد الهجابي، إناث الدار، دار إفريقيا الشرق، الدر البيضاء، المغرب، 2011.

2- الجوهري، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفار عطار، الشركة اللبنانية للموسوعات العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1958.

3- ابن منظور، لسان العرب، مادة قبل.

جريدة "بيان اليوم" المغربية بتاريخ: 29 أبريل 2016