يبيعون براءتهم على قارعه الحزن

في آخر مرة تحادثنا فيها أيها العالم، أخبرتُك أنكَ كاذبٌ بالقدر الذي يُمكنكَ فيه أن تُخبرني أن "الدنيا لسه بخير"، وحين تقمّصتَ دور الحكيم لتخبرني أن عليّ أن أنظر لنصف الكأس الممتلئ، وأن أرى الدنيا بلا نظارات سوداء، بصقتُ في وجهك، ورحلت.

حسناً، أنا لا أمتلك نظارة سوداء أصلاً، كل ما لديّ صندوق العلكة الذي تمر عليه كل صباح، أبتسمُ لك، ليس لأني أريد أن أبتسم، بل لأني قرأتُ ذات مرة أن الابتسامة مفتاحُ القلوب، غير أنّي لم أعلم أن قلبكَ مُغلقٌ بالشمع الأحمر، وأن كل المفاتيح التي بحوزتي لم تُفلح في أن أدخلَ إلى رصيفكَ الذي يمرّ عليه العابرون. أبتسمُ لتشتري، وكعادتكَ تمضي سريعاً، تنظر في هاتفك المحمول، تتقّي أشعة الشمس، وتلبسُ نظارةً سوداءَ بالكاد يُمكنني أن أرى عينيك فيها وهي تنظرُ إليّ بشفقة، وحين قابلتُكَ قبل المرة الأخيرة على إشارة مرور، أنزلتَ شُباك سيارتكَ الجميلة، وازدادت ابتسامتي. تقول سيمفونيتك التي تتقن العزف عليها: هذا العالم يا صغيري يدان، يدٌ عليا، ويدٌ سُفلى، وقد جرت العادة أن تمتد اليد السفلى، ثم ترجع في أحيانٍ كثيرة خائبة. وحين مددتُ إليكَ يدي، مع العلكة، وباكيت المحارم، وبلالين الأطفال، إلى قرب النافذة، لم تمتد يدك العليا بشيء، سمعتُ ما اعتاد الآخرون قوله .. "الله يعطيك".

أتعلم؟
لم أكن أنتظر منكَ أن تُخبرني أن الله سيعطيني، لو لم أؤمن به، وأتوكل عليه، لما خرجتُ من السادسة صباحاً إلى العاشرة مساءً كي أواجهك كل يوم. تقول حكمتُكَ: المنتصر، مَن يبتسم أخيراً؛ وحين أعود بالـ٣ دنانير إلى البيت، هي حصيلة ربحي اليومي، أعلمُ كيف تنتصر العلكة على ذلّ السؤال، كيف تكون البلالين البسيطة التي أبيعها سبباً للفرحة على وجوه الأطفال، البراءة الوحيدة المتبقية في ظل هذا العالم المُجرم، كيف يُمكنني آخر النهار أن أمسح عن جبيني، بباكيت المحارم، كل القذارة التي ألقيتَ بها عليّ، وكيف أن اليد السُفلى الممتدة بالبكاء إلى الله ترجعُ وهي تضحك.

تعرفُ أيها العالم كيف يُمكنك الحديث عن أوجاعي طويلاً، أن تعقد باسمي المؤتمرات التي تتحدث عن حقوق الطفولة، أن تصرف على البوفيه المفتوح الذي أقمتَهُ على شرفِ ورشة عملٍ تناقش أوضاع المهمّشين أمثالي في أحد الفنادق ما يكفيني وأسرتي لمدة شهر، وأن يتكلم عليّة القوم، النخبة كما تسمّيهم، عن أحلامي وفي فمهم بقايا من دولار، وأن يجتمعوا في غداء عملٍ كي يُخبروني أن الأمم المتحدة كفلتْ حقوقي، وضيّعها الطبّاخ الذي نسي إضافة "السوشي" إلى قائمة غدائكم.

اسمي ايمن ، وأنا لا أريد أن يشفق عليّ أحد، أريد أن أكون إنساناً، وأن لا يُخبرني أحدهم، كما أخبرني العالم ذات سُخفٍ، أنّ عليّ النظر إلى نصف الكأس المملوء، لأن كأساً مملوءة ببعض السمّ لا ينفع الحديث عن نصفها الفارغ، سأموت بنصفها الممتلئ فقط.