وحدة الإنسانية في زمن كورونا

 

هناك أمورٌ سلبيةٌ كثيرة نتجت الآن عن انتشار وباء كورونا، على الصعد الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، خاصّةً في البلدان التي تعجّ بالمهاجرين واللاجئين وبالمحرومين من العمل، وهي نتائج خطيرة تتراكم على ذوي الدخل اليومي المحدود، والذين توقّف مصدر رزقهم الآن، والأرجح أن لا يكون لديهم أيضًا أي ضمانات صحّية أو اجتماعية. وهذه النتائج ستزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ممّا يؤكّد أهمّية التركيز في مرحلة ما بعد الوباء على هذه الحقوق الصحّية والاجتماعية للناس جميعًا وجعلها معيارًا لمحاسبة الحكومات والحاكمين.

فالناس يعيشون حاليًا، في مختلف أرجاء العالم، وحدة حال لم تشهدها الأجيال المعاصرة من قبل، حيث العدوّ المشترَك الآن للإنسانية جمعاء هو وباء كورونا، ووسائل الدفاع هي واحدة في البلدان كلّها، والمتغيّرات الحاصلة في المجتمعات بفعل خطر الفيروس تحصد الكثير من العادات والتقاليد الموروثة، وكأنّ هذا الوباء يريد تثبيت وحدة الإنسانية وصياغة نمطٍ جديد من السلوك الفردي والاجتماعي، إضافةً إلى تنبيهه لمخاطر العنصرية وانعدام المساواة بين البشر، وسيّئات عدم توفّر العدل الاجتماعي والرعاية الصحّية لعموم الناس.

فيروسة كورونا جعلت مليارات من الناس يخضعون للإقامة الجبرية في منازلهم، وأجبرت أيضًا دولًا وقوًى عظمى على الانطواء على ذاتها وعلى تغيير نمط الحياة فيها رأسًا على عقب، ولم تنفع خزائن أسلحة الدّمار الشامل التي تملكها في مواجهة أخطار هذا الفيروس المنتشر عالميًا.

أولويات الحكومات والشعوب على امتداد القارّات كلّها تغيّرت الآن، وإلى مدًى زمنيٍّ غير معروف، وما ظهر من نتائج سلبية اقتصادية عالمية هو رأس جبل الجليد حتّى الآن حيث الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فإلى أين ذاهبٌ عالم اليوم؟ وكيف يمكن التعامل الفردي والجماعي مع هذا الوباء المجهول أصله وفصله؟!.

ما هو ملموسٌ وحاصلٌ الآن، أنّ النّاس في معظم البلدان بدأت تتوزّع إلى فئاتٍ ودرجات كمحصّلة للإجراءات المرافقة لانتشار الوباء. الفئة الأكثر تضرّرًا طبعًا هي التي أصيبت بالوباء وعانت وتعاني من أعراضه المسبّبة للوفاة أحيانًا. لكن مأساة زمن كورونا لا تنحصر في الإصابة بالوباء فقط، فهناك فئاتٌ عديدة من الناس تعيش الآن حالة الخوف من المرض ومن الجوع معًا.

فالتشرّد ليس مشكلة في أميركا وحدها، إذ تقديرات "مفوضية الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان" تؤكّد بأنّ هناك في العالم أكثر من مائة مليون مشرّد. فكيف يعيش هؤلاء الآن، خاصّةً في أشهر الثلوج والعواصف والبرد؟!. ثمّ كيف يعيش الملايين من اللاجئين والمُهجّرين بسبب الصراعات الدائرة في عدّة دول عربية وأفريقية وآسيوية؟!.

فئةٌ أخرى من الناس تعيش الآن همّ كورونا في منازلها، لكنّها تعجز حاليًا ربّما عن دفع إيجار المنزل أو الرهن العقاري أو عن توفير لقمة العيش والغذاء اللازم للعائلة يوميًا، بسبب توقّف الكثير من الأعمال التي يتقاضى العمّال فيها أجرًا يوميًا أو أسبوعيًا أو حتّى من أوقفوا عن العمل في مؤسّسات اضطرّت للإغلاق، فسرّحت العاملين فيها حيث أضحوا بلا معاشات وبلا ضمانات صحّية كانت تتّصل بعملهم!.

هي مرحلةٌ زمنيةٌ صعبة تعيشها البشرية الآن، وقد شهد العالم حالاتٍ كثيرة مشابهة لها في السابق وربّما أشدّ خطورةً منها، كما حصل منذ مائة عام مع ظهور وباء الأنفلونزا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وكان العالم آنذاك يكفيه ما كان عليه من حالاتٍ عصيبة بعد حربٍ مدمّرة ومجاعات وانهيارات اقتصادية، فجاء وباء الأنفلونزا ليصيب حوالي 500 مليون توفّي منهم ما بين 50 إلى 100 مليون، أي ضعف عدد ضحايا الحرب العالمية، إضافةً إلى أوبئةٍ أخرى أطاحت بملايين البشر في مراحل وأمكنة مختلفة.

الفارق المهمّ في عصرنا الحاضر هو تطوّر العلم والأبحاث ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تتيح جميعها إمكاناتٍ كبيرة لاستخدام اللقاحات المناسبة من أجل وقف انتشار الوباء، ولعلاج المصابين به وتسهيل إيصال الإرشادات المناسبة لعموم الناس، وهي أمورٌ لم تكن متوفّرة كلّها في حالات الأوبئة السابقة.

الأمر الآخر المهمّ التوقّف عنده هو عدم حتمية الوفاة لمن يصيبهم هذا الوباء، وبأنّ ما يحصل من علاجاتٍ فورية الآن قد أدّى إلى شفاء العديد ممّن تعرّضوا للإصابة به. نعم، من حقّ كل إنسان في أيّ مكان بالعالم اليوم أن يخاف هذا الوباء المجهول الذي دخل الأوطان خلسةً ولم يطرق أبوابها، لكن رغم الجهل بمصدره الحقيقي فهو أقلّ خطرًا حتّى الآن من وباء الأنفلونزا قبل قرنٍ من الزمن والذي تعايش العالم معه بعد ذلك على مدار عقودٍ طويلة وما يزال.

وصحيحٌ أنّ هذا الوباء هو كعدوٍّ للإنسانية وللحياة، ويجب مقاومته بسيف العلاج واللقاحات المتوفّرة الآن، لكن الدرع الذي يحمي صدور الناس الآن يتوقّف عليهم وعلى مقدار تعزيز قوّة المناعة في أجسادهم، وعلى مدى التزامهم بإرشادات الصحّة والنظافة في سلوكهم اليومي مع أنفسهم ومع الآخرين.

وحبّذا لو تدرك القوى الكبرى أنّ الأرض هي "بيتٌ مشترَك" لكلّ الناس عليها، وبأنّ الحريق أو الوباء في أي غرفة لن يرحم الغرف الأخرى. فالعالم يعاني قبل زمن كورونا من "الاحتباس الحراري" في الفضاء الذي يُسبّب الكثير من الويلات الطبيعية على الأرض، ومن الصراعات بين الشرق والغرب، ومن استعمار ونهب الشمال للجنوب، ومن إرهاب متنوّع الأسماء والأهداف، ومن عنصريات تنمو وتكبر في أماكن مختلفة، ومن احتلال استيطاني جاثم على أرض فلسطين كآخر مظاهر الاحتلال في العالم المعاصر.

وربّما تريد فيروسة كورونا أن تعكس ما حدث في العالم قبل مائة سنة، حيث شقيقتها "الإرهابية" فيروسة الأنفلونزا أرهبت الناس وقتلت الملايين منهم بعد الحرب العالمية الأولى، وحاولت تلقين حكّام العالم درسًا هامًّا لم يتعلّموه أو يستفيدوا منه، وهو أنّ كل أسلحتهم الفتّاكة لم تقتل كما قتل الفيروس آنذاك، فإذا بالدول الكبرى تخوض حربًا عالميةً أخرى في القرن الماضي، إضافةً لعديدٍ من الحروب الإقليمية وغزو واحتلال لشعوبٍ أخرى. وربّما أرادت فيروسة كورونا الصغيرة المعاصرة أن تستبق حربًا عالمية بين الكبار لتظهر لهم كم هم عاجزون أمامها رغم ما هم عليه من قوّةٍ وجبروت، وبأنّ أولى بهم العمل لنهضة شعوب العالم وخدمة الناس لا التنافس على القتل والاستمرار في سباق التسلّح!.