وجــــه ليبيا يرسم في أمريكا

(قراءة في قصيدة تاريخ وجهي للشاعر خالد المطاوع) بقلم: محمد الأصفر
المصدر: نادي القلم اللييبى

أيها الشاعر
نحتاج لأخبارك كل حين
فأنت أمريكي في ليبيا التي هناك ..
تلك الخلطة الترابية التي رماها القبلي..
لتغوص وتـتنازعها التيارات ..
ليبيا بركان التراب الذي مسح جباه الهنود..
ترابها ماء ..
زيتها نور ..
أيها الشاعر
عاشق الأمكنة حيثما كانت وتكون ..
الذي كلما جاء جاءنا ..
وكلما غادر لوّح لنا بغصين مليح ..
أيها الشاعر العزيز الأعز
أهديك هذه الأغنية المرسكاوية :
أصحاب الغلاء وايش حالهم يا قبلي .. جيب الخبر الصاح ما تكذبلي .

في صيف من صيوف الألفية الجديدة كنت في زيارة إلى مقر مجلة الفصول الأربعة وأثناء صعودي الدرج التقيت بالأستاذ الكاتب رضا بن موسى ومعه شاب ملامحه الليبية مبرقشة ببعض حمرة الامريكان قدمه لي .. الشاعر خالد مطاوع .. ليبي مقيم في امريكا واستاذ إبداع في إحدى جامعاتها وكان في يدي مخطوط لرواية المداسة قبل أن تطبع فأهديته له على الدروج وصعدنا إلى مكتب مجلة الفصول الأربعة .. دفع رضا بن موسى باب المكتب بكتفه ودخلنا .. لم أجلس معهما وصعدت إلى المقهي أدردش مع الصديق الروائي الارتريي ابوبكر حامد .. جلسنا في الشرفة نحتسي القهوة وندخن .. منظر البحر جميل .. لكن رائحة قلي السمك في المطعم البحري الذي أسفل الرابطة تزعج المزاج كثيرا ..

منذ تلك اللحظة لم التق الشاعر خالد مطاوع إلا بعد سنوات .. مرة في المنتدى الإذاعي صحبة بعض الكتاب تحدثت معه كلمتين وصعدت الى مبنى الاعلام احضرت له رواية نواح الريق كنت قد اهديتها لإحدى الشاعرات .. استأذنتها وشطبت اسمها ووضعت اسمه .. قلت لها الاستاذ مسافر وربما يترجم لي الرواية للانجليزية وانت باقية هنا ساحضر لك نسخة اخرى لاحقا .. بعدها التقينا في وليمة عرسه بإحدى صالات الفويهات .. حيث أول مرة في حياتي أدخل إلى مثل هذه الأجواء وأرى هذا الكم من الكاطات والكرافتات والكرنفال الإناقوي .. حضرت صحبة الصديق نوري الصلابي وهو زميل لخالد في مدرسة توريللي في المرحلة الإبتدائية .. الوليمة سيئة .. الموز نيء .. اللحم شارف وبه شحم كثير.. العصبان به رائحة فرث .. الباقلاوة يابسة .. المسير ليس حارا .. الرز من الحب الطويل وليس القصير .. القازوزة ساخنة .. الجو صاخب .. وزمنه ثقيل الدم .. والندل ليسوا لطفاء .. خرجت سريعا وسلمت على خالد في مدخل الصالة وباركت له .. وتحدثنا قليلا عن روايتي شرمولة التي قال عنها تستطيع ان تقرأ من أي صفحة تفتح عليها وأضحكتني كثيرا شخصيات زرزور و زعبوربالذات لو صار امين رابطة سأطلب عضوية فورا بالفاكس .

لم اشعر بيني وبين خالد بأي صداقة .. حتى رسائل النت المتبادلة لا نتبادلها إلا بعد زمن طويل .. العلاقة التي بيني وبينه حدثت عبر الكلمات .. وبالخصوص عبر قصيدته تاريخ وجهي التي قرأتها في النت وفي مجلة عراجين وبدأت بها روايتي نواح الريق .. حيث وجدت في هذه القصيدة بانوراما شعرية لبعض ملامح تاريخ ليبيا .. ورغم اننى لا أصدق أي شيء من التاريخ واعتبره نوعا من الكذب والعهر لأنه مكتوب بأقلام القوة .. حتى أنني أشك في أن الحرب العالمية الثانية قد وقعت وأن برجا منهاتن قد تهاوتا .. وأنني أنا .. وأنك أنت .. إلا أن التناول الشعري لهذه المرحلة من تاريخ ليبيا عبر قصيدة تاريخ وجهي اقنعني قليلا بأن في الكلمات بصيص قليل من الحقيقية التي لا أرغب طبعا في أن أصلها أو أمسها .

فيما بعد صدرت القصيدة في ديوان اسمه خسوف الاسماعيلية نشرته دار نشر مصرية .. لم يهدني الديوان واهداه لكثير وكثيرات من بنغازي وطرابلس .. وتحصلت على نسخة استعرتها من صديق اسمه بالعيد يبيع الكتب القديمة قرب ضريح عمر المختار .. قرأت الديوان مرة في المقهى ومرة في حافلة الربع دينار وأخرى في طابور المصرف وانا نتظر وصولي الى شباك الخزينة .. الديوان خسوف الاسماعيلية قصائد كتبت بالانجليزية وترجمت الى العربية بواسطة الشاعر نفسه مع مساعدة بعض الكتاب والشعراء المعروفين .. ورغم انتقال القصائد من لغة الى لغة جديدة فلم يتضرر النص الأصلي الذي ابدعه الشاعر .. ربما لأن الشاعر ترجم النصوص بنفسه .. لكن أعزي السبب لمواضيع القصائد وتعلقها بالتاريخ والأمكنة في مصر وليبيا وبعض مناطق العالم التي زارها أو تخيلها الشاعر .. أيضا لتحصنه بتقنية قصيدة النثر التي تمنح امكانيات لا محدودة لأي شاعر أو كاتب ولا تقيّّده بشيء .. فهذه الحرية تجعل النص الاصلي ينفتح اكثر عبر اللغة الجديدة ولا يتضرر خاصة ان قام بالترجمة الشاعر نفسه او شعراء متمرسين يمتلكون اللغة والموهبة ..

وكون الشاعر ليبي امريكي او امريكي ليبي _ الآن اختلط لدينا كل شيء _ .. ويشتغل استاذ في جامعة امريكية .. وقام بترجمة أشعار شعراء مكرسين كبار أمثال سعدي يوسف والعزاوي .. فقد تمّ الإحتفاء به في كافة المطبوعات العربية والمواقع الانترنيتية والمطبوعات المهتمة بالترجمة .. وطبعا لو كان من كتب هذا الديوان أي شاعر أو كاتب آخر ولا يملك هذه المعطيات الأمركة والترجمة والأستذة فلن يلتفت الى عمله الا من جهات يهمها النص فقط .. ومن وجهة نظري أن كثيرا من القصائد التي قرأتها في ليبيا أو خارج ليبيا عبر المطبوعات والشبكة لا تقل ابداعا عن قصائد الشاعر خالد مطاوع وخاصة بعض قصائد صالح قادربوه وصلاح عجينة وسالم العوكلي وعبدالسلام العجيلي وسعاد يونس وغيرهم من الشعراء العرب الشباب .. وهذا الرأي ليس طعنا في اشعار خالد لكنه رأي مساعد يمكنني من تناول بعض قصائد هذا الشاعر بالقراءة والبحث والنقد .. لا اريد ان اتكلم عن اشكالية الترجمة واكليشياتها الجاهزة من انها خيانة وانها انتاج نص اخر من خلال مادة غامضة وان المترجم هو الشاعر الحقيقي وان الترجمة الحرفية هي الامانة وانتاج الكلمات عبر فهم النص هو الافضل الى نهاية هذه الأراء التي نقرأها حول الترجمة الابداعية .. أنا قضيتي في الكلمات المكتوبة الآن في قصيدة بالعربية .. ربما يكون بالانجليزي هوميروس فتلك القضية تهم من يملكون اللغة الانجليزية ومن هم على دراية بالأدب الانجليزي الذي يعتبر الامريكي المكتوب بالانجليزية أحد روافده الجديدة .

الشاعر خالد مطاوع استفاد كثيرا من كونه استاذا لمادة الابداع ويتبع في تدريسه حسب ما قرأت له في لقاء اجراه معه القاص غازي القبلاوي طريقة الورشة .. والورشة في مفهومنا هي الاشتغال على النص أكثر من مرة وصقله وتشذيبه وتلميعه وتنظيفه وغسله من كل العيوب المعروفة في دنيا الابداع .. أي عدم التسرع .. والشك في حقيقة كل الهام .. واخضاع النص لشروط لغوية وايحائية صارمة .. وتجلت هذه المعرفة المسبقة في ذهن الشاعر في معظم نصوصه .. فنجد في هذه النصوص آخر ما وصلت إليه قصيدة النثر من تطور .. الصيغ السردية التي نجدها عبر قصائد كتبت بسطور متصلة كأنها قصة أو مقالة على طرقة كاتب الارغواي ادواردو جيليانو .. تشطيرات الهايكو القصيرة .. الايحالات الى الاماكن ذات الدلالة التاريخية أو النفسية .. تناول التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية عبر عدة حقب شهدت احداث تاريخية مهمة في الشرق الأوسط .. مس المسكوت عنه بالطريقة العربية اجرح وداوي .

وكون الشاعر يعرف كيف يكتب الشعر وكيف ينتجه دون عيوب فسيكون شعره وان بان قويا الآن ضعيفا نوعا ما .. والسبب هذه المعرفة ,, هذه الانتهازية النائمة في سرير ملكته .. كلما ولدت ومضة بكر لوثتها ولو بنظرة .. هذا التجويد هو قولبة .. في احدى الجرائد شاهدت تمثالا حجريا لم يعالج بأي ازميل .. صخرة طويلة منفرجة من تحت مكونة ساقين واعلاها كرة رأيتها كرأس .. الصخرة رأيتها انسان حي .. رغم انها غير مهذبة او مصقولة او معالجة .. ولو ان هذه الصخرة اخذت الى المحترف وتم الاشتغال عليها لرأيتها كأي قطعة تجارية تافهة تباع في سوق التحف .. كذلك النص .. جماعة الورش معظمهم كتاب مصنعون .. الالهام كما الفقاعة ان مسته الصلابة انفجر وتلاشى .. لذلك لا يوجد كتاب وشعراء كثيرون على مر التاريخ .. اكثر الورش المستخدمة الان ورش صلبة .. الورشة الشفافة يجب ان تكون مخلوطة باللإلهام .. تولد معه .. النص يتشذب داخليا عبر الزمن الفائر في داخلنا .. في العملية الابداعية هناك زمن يجب ضبطه .. النص يولد في لحظة الصفر .. ان ضبطت الوقت سيولد النص حيا .. وان لم تضبط الوقت فسيجهض او يولد مريضا ولن تنفعه اي ورشة بعلاجها .. فالابداع مرض يتعلق بروح الحياة التي ينفخها الإله فينا .. النص الحي هو النص الذي عندما تقرأه يغرقك بالاختلاجات ويؤثر فيك داخليا وخارجيا .. وتتمنى ان لا ينتهي هذا النص .. وان انتهى تتذكره مجددا او تعيد قراءاته

في قصائد خالد مطاوع لا يحدث هذا الأمر الا في مقاطع قليلة .. اي ان قصيدته مبرقشة بالحياة والموت .. لا يترك الكلمات تأخذ مداها .. يلويها الى اتجاهات يرسمها في خياله .. الكلمة ادرى بنفسها من رأي الشاعر .. فالكلمات مخلوقات تفهم بعضها اكثر منا .. كل من يسألني لماذا فعلت كذا .. أو كتبت كذا .. لا أرد عليه .. بالعربي لا أملك الرد .. انه الابداع .. الكلمات تريد ذلك .. من غلاف الديوان تبدأ الرسالة .. كوابل الضغط العالي الكهربائية .. وطبق الالتقاط الفضائي .. اي ان الشعر شرر غالي وعالي وان الشعر من السماء والى السماء .. شاعر يريد ان يوصل رسالته .. ضابط اتصال بين الشعر والانسان .. كهرباء .. صحن فضائي .. عنوان الديوان أيضا موظف بقصدية .. خاصة كلمة خسوف التي لها علاقة بالضوء والزمن والحجب واظهار البصيص البصير الذي يقودنا عبر الزمان الى تاريخ الوجه .. هذا الوجه الذي به كل شيء من نطق وسمع وتذوق وبصر وتفكير .. ونطح ودوار .. الوجه به كل شيء لكنه غير خصب .. وغير حنون .. ومتقلب ومتغير .. ونائم وعاض .. ومكشر ومبتسم وباكي جدا وضاحك حد القهقهة والهسترة وغامز في مكر ومرقص حاجبين في سعادة .. في الوجه يوجد كل شيء الا الحب والخصوبة .. فالحب في القلب .. والخصوبة في منتصف الكائن البشري .. الشاعر يكون وجهه من تاريخ كل الحواس ويدخر حاسة البصر ليستخدمها بحرفنة الورشة في انهاء القصيدة عبر تقنية اللمسة الأخيرة .

وتقنية اللمسة الأخيرة يفتقدها الكثير من كتابنا الليبيين فأغلبهم يكتبون نصا الا ربع .. ووجدت هذا الأمر ( نص الا ربع ) في بعض نصوص القاص احمد يوسف عقيلة والشاعر صالح قادربوه .

تاريخ ليبيا على مر الزمن لم ينعم بكل حواسه مجتمعة ولو لدقيقة واحدة فإن رأى جاع .. وأن سمع خرس وإن شم عضته نيوب الكحة والعطس .. تاريخ مشوّه .. انعكس هذا التشوّه على حالة الأدب والكتابة عندنا .. لا استطيع ان اكمل اي رواية على نفس النسق وانساق لمنطق الحكي المتعارف عليه .. الشاعر خالد ايضا يفعل ذلك .. يخدد وجهه بخناجر لجحافل عدة جيوش .. فشفتاه الكبيرتان نسبيا من اصول زنجية جاءتا مع قافلة للعبيد كان يملكها السنوسي الأكبر .. بعد ان وصلوا الى الحاضرة .. واحة الجغبوب اعتقهم .. ورمت بهم المقادير في منطقة الصابري على شاطئ بنغازي .. سكنوا زرائب القش ثم تفرقوا في احياء بنغازي المختلفة .. تكلم الشاعر عن شفتيه ولم يتكلم عن لسانه العاجز عن البوح بسبب العبودية .. بعد العتق صار يغني ويصدح بالشعر .. الشفتان اللتان رافقتا القافلة وتيبستا من قيظ الصحراء وملوحة البحر .. وابتسمتا عند العتق اختزلتا الكثير مم يريد ان يقوله الشاعر عبر رحلة المعاناة الانسانية .. الشاعر المدسوس الآن لحظة بوحه بهذا المقطع في لحظة الولادة .. مدسوس في كلمة ظرفية مكانية محددة ( حيث ) .. من كلمة حيث يتطلع الشاعر ويكتب قصيدته .. حيث هي عشه .. وهو عصفور يرفع منقاره ويزغرد بلسانه هذه القصيدة الجميلة .. الشعور بالشفتين عبر هذا المقطع جميل جدا .. وهذا هو الشعر الحي .. اي لو نحذف كلمة شفتاي فالنص سيسقط ولن تكون له قائمة :

شفتاي جاءتا مع قافلة للعبيد
كان يملكها السنوسي الاكبر
في الجغبوب اعتقهم
مازالوا يقطنون الربع الفقير ببنغازي
قرب المستشفى حيث ولدت
في المقاطع الشعرية السابقة حدثنا الشاعر عن حقبة تاريخية بكامل ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية ..
قافلة العبيد الجغبوب الربع الفقير حياة اجتماعية
السنوسي الأكبر سياسة ودين
كان يملكها قافلة للعبيد حياة اقتصادية
حيث ولدت حياة شعرية تفتقية ضمنية في القصيدة

والذي لاحظته في شعر خالد مطاوع أن معظمه يرتكز على خلفية تاريخية كبيرة .. فلا توجد له اي قصيدة ليس بها تاريخ .. استطيع ان اسميه شاعر التاريخ والتاريخ اقرب للسرد الشعري الملحمي من الشعرالبسيط المعروف .. فبعض قصائدة نستطيع ان نعتبرها رواية شعرية .. سيرة ذاتية وسيرة مكان وتاريخ يمثل الزمن ..فقصيدته بها كل شيء .. قصيدة مملوءة برؤوس الاقلام .. خاصة قصيدة خسوف الاسماعيلية وقصيدة بالبو 1938 وقصيدة احلام سنية .

في الشطرة الثانية من قصيدة تاريخ وجهي نقرأ :
اولئك الاغريق
الذين اهدوني حاجبي ( كلمة الذين بمفهوم الورشة تعتبر زائدة لأن كلمة اولئك تكفي للتحديد )
ما كان ببالهم البقاء بتوكره
لكنهم شموا ذات يوم
رائحة المريمية البرية
واعلنوا بلادي مسقط راسهم

في المقاطع الشعرية السابقة نجد ان الاغريق اتوا بالجمال والوسامة الى ليبيا فالتقاط الشاعر لحواجب الاغريق وزرعها في وجهه يحيلنا الى جمال قوريني وابولو وبقية الالهة الميثولوجية الاغريقية في مدن ليبيا .. والحواجب ليس كالشفتين اخذها الشاعر عن طريق العتق والمنة لكنها اهدت اليه وينساب مونولوج القصيدة في شاعرية جميلة فمن اهداء الحاجبين نصل الى كلمة رقيقة دستها حرفية الشاعر في النص وهي كلمة ببالهم .. فالبال او الخاطر مكانه القلب والروح وليس العقل .. اى ان الاغريق لم يفكروا استعماريا لسرقة خيرات ليبيا مثل بقية المستعمرين لكنهم لانهم شعب يعشق الجمال والعطر والاشياء الجميلة فقد ابقتهم في توكرة رائحة المريمية ) القميلة ) التي مزجت حاسة الشم لديهم في تراب البلاد وصاروا بواسطة الرائحة والمناخ مواطنين .. اعلنوا بلادي مسقط رأسهم .. يعني ان رائحة زهور ليبيا انعشتهم واعتبروا ان لحظة الشم هي لحظة ولادتهم .. وهنا تكمن قوة القصيدة .. وحياتها .. ففي المقطع الاول تناول الشاعر حاسة الكلام .. المقطع الثاني تناول حاسة الشم .. تكلم ثم شم .. وتحسيس القصائد اي ربطها بالحواس بغية يسعى للوصول اليها كل شاعر وكاتب .

فرسان القديس يوحنا
غزوا طرابلس
فطلب سكان المدينة النجدة من اسطنبول
في عام 1531
جاء الاتراك بأنفي

وهنا يأتي الاستعمار على مطية الدين عبر مغامرين .. وفرسان القديس او فرسان الهيكل تاريخهم في التراث المسيحي معروف ومنظمتهم الغامضة معروفة جدا .. وقد ارتكبوا الكثير من الجرائم باسم المسيح .. ويقولون هم اول من اسس البنوك الحديثة .. ونظام الحوالات المصرفية .. وفي المقاطع السابقة يتجلى الصراع الاسلامي المسيحي عبر طلب السكان المسلمين النجدة من السلطان العثماني في اسطنبول .. وهنا يقول الشاعر جاء الاتراك بأنفي .. والأنف هنا لا يرمز الى استنشاق الرائحة او نسيم الحرية .. فالاتراك طردوا فرسان القديس يوحنا وبدأوا في سلب الناس قوت يومهم عبر الاتاوات الكبيرة التي يجبونها بالقوة والبطش .. فهم يشمون المال اينما وجد .. يتوغلون في الدواخل وينظمون الحملات الارهابية على الواحات الصحراوية .. سلبوا اوجلة ومرزق وقرى الجبل الغربي وغيرها .. انف كبير لا يشم رائحة الالم .. انف يخون ويركع امام المال .. الأنف الذي ثبته الشاعر في وجهه .. انف مريض مزكوم يسيل بمخاط التخلف والجهل .. الحرية المشتراة دائما مريضة .. والحرية المباعة ان غادرت القلب لا تساوي بارة .

والشاعر خص الاغريق بالحواجب لكن الرومان منحهم شعر الرأس .. ربما لعددهم وامبراطوريتهم الممتدة الكبيرة .. جاء شعر الرأس عبر احدى جواري الامبراطور سبتموس سيفيروس المولود في مدينة لبدة ..
يعود شعري
الى احدى جواري
سبتموس سيفيروس
كانت تهيء له فطوره
وانجبت له اربعة ابناء

ربما تكون هذه الجارية ليبية من السكان المحليين وكل ذلك لا يهم .. المهم هو ابراز سطوة هذا الامبراطور الذي ولد في لبدة ووصل منها حتى مدينة يورك في الجزيرة البريطانية .. وروما القديمة التي تستمتع باستعمار العالم وتدميره هي امريكا في الوقت الحاضر .. ولن استغرب ابدا ان جاء يوم وقال احد قادة امريكا ان ليبيا ارض امريكية مثلما قالها قادة الاستعمار الايطالي ان ليبيا ارض رومانية او شاطئ رابع لهم .. الشاعر يقول لنا عبر شعره او شعره ان شعره الناعم جاء اليه عبر خنوع وعبر جارية مغلوبة على امرها تمنح نفسها للمستعمرين وتعد لهم وجبات العصيدة لإفطارهم الصباحي .. وهؤلاء المستعمرون استولدوها اربعة ابناء .. على عدد الاتجاهات ( مكان ) والفصول ( زمان ) الاربعة ليعم الخنوع .. وتستمر هذه الحقبة الرومانية المظلمة حتى يأتي عقبة بن نافع ليفتح ليبيا ويطرد الرومان من باب التاريخ الواسع ليدخلوه فيما بعد من شبابيك كثيرة .. في القصيدة خلخلة تاريخية تدل على تبرم الوجه وتغير مشاعره مع كل حدث .. عقبة طرد الرومان .. فرسان القديس يوحنا طردوا المسلمين خاصة بعد سقوط الاندلس .. يقفز لنا الشاعر الى الوراء ليجلب لنا الاتراك .. ويعود في نهاية القصيدة ليختمها بالتغير التاريخي الكبير الذي حدث لهذه الارض وتغيرها من العبادات الرومانية الوثنية والمسيحية عبر فتح عقبة لها إلى الاسلام ..

فتح عقبة مدينتي
باسم الله
نجلس الآن على حافة قبره
وأغني لكِ :
” يا ذات الأهداب الحلوة
الحادة كالسهام
أهذا وجهي الذي أراه
منعكسا في عينيك ؟

لكن من فتح المدينة رحل عن عالمنا .. الشاعر يجلس على حافة قبره يتغنى بالماضي .. يتغني بليبيا التي سماها ذات الاهداب الحلوة .. وفي نفس الوقت الحادة كالسهام .. اي ان الحلاوة شائكة .. ليبيا التي جعلها رؤيته ومرآته .. لكن هو يشك في هذه المرآة .. وهذا الضوء الذي يجعل المرآة والعين تعملان .. يشك في وجهه التاريخي الذي كونه الزمن عبر تناطحات ودماء غزيرة .. ليبيا الآن حبيبته التي يرى في دموعها وجهه .. غزارة الدموع لا تتركه يتأكد .. ينهي القصيدة بسؤال لا إجابة له ..أهذا وجهي الذي أراه منعكسا في عينيك ؟ .

نهاية مفتوحة ستجيبه عينا ليبيا عنها .. ان كانت القصيدة قصيدة فسيرى وجهه حقا وان كانت القصيدة محض تشاعر فسيرى غبش المرايا وغضون الرداءة .. في القصيدة خص وجهه بالشفتين والحواجب والشعر والانف لكن تركه بدون عينين .. ترك العينين لحبيبته ليبيا .. ترك العينيين ادخورة ابدية يتحصن بها ويقيس بها صدق وجهه في لحظات الضعف .. ترك العينين في وجه الأم ليبيا .. يحب ان يكون اعمى امامها .. هو يخجل أن يراها عارية او باكية أو متألمة .. فضل أن تراه هي وتواسيه وتجيبه عن كل اسئلته .. هي لم يكوّن وجهها أحد .. وجدت هكذا في قلب العالم .. سرة لكل البلاد .. وواحة ملح لا تعفنها نوائب الزمان .

هذه القصيدة تاريخ وجهي من قصائد الرحيل .. قصيدة تجر عربة التاريخ وتدفعها نحو البحر لتغرق أو تغتسل .. وجهنا تاريخ يمكننا قراءته .. تاريخ بدون عيون .. افواه اذان انوف .. معارك حواس طاحنة في الظلام .. العيون علينا ان نتلمسها .. نضعها على الوجوه قبل النظارات الشعرية التي ستساعدنا على رؤية وجهنا الباطني .
في الديوان قصائد كثيرة جميلة مثل قصيدة زي الهوا وخسوف الاسماعيلية ومرسى مطروح 1970 وغيرها .. سأعود إليها متى توفر المزاج الرائق و الوقت غير المخصص للروايات والتسكع ...