نيرمانا كهوية شعرية

قراءة في ديوان البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية ل شريف الشافعي

محمد سمير عبد السلام
في ديوانه " البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية " – الصادر عن دار سندباد للنشر بالقاهرة 2010 - ينشئ شريف الشافعي حالات شعرية ، و نصية ، و إنسانية ، و كونية تتطور من خلال اتحاد الصوت المتكلم بنيرمانا ؛ و كل منهما يعاد إنتاجه في أخيلة النص ، و إحالاته المتغيرة ؛ و لهذا يظل الشاعر في حالة بحث عن الذات ، و عن التحقق الافتراضي – التاريخي لنيرمانا دون نهاية ؛ لأنه في تلك الفسحة من البحث الآلي ، أو الداخلي يتداعى النص في مقاطع توليدية لدوال الذات ، و الوعي ، و الأنثى في اتحادها المادي ، و الخيالي بالكون ، و الثقافة ، و الأشياء الصغيرة .
ثمة انتشار خيالي في الديوان يؤجل نقطة الوصول لنيرمانا ، أو المتكلم من داخل عملية البحث نفسها ، و كأن انفتاح النص على الأنا ، و الآخر ، و العناصر الكونية مشروط بهذه الاحتمالية التي تتطور ، و تتشابك ؛ لتؤول الدال ، دون أن تكشفه .
و بهذا الصدد يرى رولان بارت في لذة النص أن النص يتخذ شكل النسيج في خاصيته التوليدية ، و من ثم تنحل فيه الذات مثل العنكبوت ( راجع / رولان بارت / لذة النص / ترجمة د منذر عياشي / مركز الإنماء الحضاري بحلب مع سوي بباريس / ط 1 / 1992 / ص 109 ) .
هكذا يعيد شريف الشافعي قراءة الذات من خلال الانتشار اللانهائي لدال الأنثى نيرمانا ، و تعدد السياقات المادية التي يتوحد فيها كل منهما بالآخر بدرجات متفاوتة .
إننا هنا نعاين التجربة الشعرية في تطورها خارج الأصول ، و المرجعيات الأولى ، و كأن تلك المرجعيات في حالة لعب ، و تغير دائم يمنح الأصالة للخيال ، و الآلية الزائفة التي يفجرها النص في سياق صوفي مضاد للسيطرة الميكانيكية من داخلها .
و يمكننا تحليل ديوان البحث عن نيرمانا من خلال ثلاث تيمات هي :
أولا : التوحد بنيرمانا داخل الذات ، و خارجها .
ثانيا : تعدد صور نيرمانا .
ثالثا : البحث المستمر عن الكينونة .
أولا : التوحد بنيرمانا :
تلج نيرمانا الصوت المتكلم ، أو هي هويته الشعرية الأخرى . هل نبعت نيرمانا من الوعي ؟ أم أنها فاعلية إبداعية غير مرئية تعيد تشكيل الذات من منظور شعري ؟
نستطيع القبض على دال نيرمانا في الديوان في تلك اللحظة التي يسخر فيها الشعر من حتميات الواقع ، أو المرجع الشخصي .
يقول :
" كانت نيرمانا جالسة في المقعد الخلفي / رغم عدم حصولي على الرخصة / شعرت بسعادة لا توصف / لأنني تمرنت على قيادة ذاتي / في المشاوير الاستثنائية " .
تتخذ نيرمانا موقع الأصل هنا رغم هامشيتها ؛ فهي الوجود الشعري للمتكلم ، أو حالة الاستثناء التي نعاينها في الديوان كأنها أصل متغير . نيرمانا تؤول العالم الداخلي في سياق الشاعرية الخارجية ؛ فالفضاء / السيارة - اكتسب طاقتها المجازية ، و من ثم بزغ الصوت في حضور آخر .
و قد يتحد الشاعر بطاقة نيرمانا حتى يتوقف وجوده على الاتحاد العضوي ، و الخيالي بها ؛ و من ثم تتشكل هويته المجازية في عملية الانتشار النصي – الكوني المقترنة بها .
يقول :
" و ظهرت نيرمانا ستة ملايين مرة / لأنها – ببساطة – الأعداد الطبيعية كلها / و غير الطبيعية / باستثناء الصفر / الذي هو أنا بدونها " .
يكتشف الشاعر هنا خاصية التضاعف اللعبي / الشعري المميزة لنيرمانا ؛ فهي الرقم ، و الدال ، و المرجع في حالته الاستعارية ، و هي طاقة تحول الذات / الصفر إلى موجود مضاف لهذا التراكم المجازي ، أو أي مرجع محتمل لها .
ثانيا : تعدد صور نيرمانا :
تتعدد المجالات التكوينية ، أو الفضاءات التي توجد بها نيرمانا ، أو تهيمن عليها ، أو تنبثق منها ؛ فدال نيرمانا في حالة انحراف عن اكتمال الحضور دائما ؛ و لهذا اختار الشاعر لها أسماء عديدة ؛ مثل نيرمانا ، و نونا ، و نيرفانا ، و نيرميتا و غيرها .
إننا نعاين صور نيرمانا ، و دلالاتها في السياقات الإنسانية ، و الكونية ، و النصية من خلال تجليات إبداعية فريدة ، تؤكد شاعرية الوجود .
و يستعيد شريف الشافعي نيرمانا كثيرا في سياق تكنولوجي ؛ إذ يعيد اكتشاف وعي المتكلم من في سياق استبدال دوال الكمبيوتر ، و آليته ، و ارتباطاته الشرطية لمكونات الذاكرة ، و الانفعالات ، بحيث تبدو الدوال الآلية في حالة لعب من جهة ، و يبرز المتكلم كتابع لفاعلية نيرمانا الإبداعية في السياق التكنولوجي من جهة أخرى .
يقول :
" لم تكتف نيرميتا بتنشيط الملفات المرئية / في أقراصي الصلبة و المرنة / لكنها نشطت أيضا الملفات المخفاة / و الملفات الملقاة منذ زمن في سلة المهملات / نشطت أيضا غددي العرقية "
نيرمانا هنا هي طاقة الحياة في الجسد ، و الخلايا ، أو هي وهج الذاكرة ؛ فهي تتوحد بصوت المتكلم ، و ماديته ، و كذلك تقوم بمحاكاة إبداعية للتنشيط الآلي في الكمبيوتر ؛ إذ تفجر حضور الملف / الشعور ، أو الإدراك ، وتنتجه كقراءة متجددة لصوت الشاعر ، و هويته .
و قد تنقلب الآلية على حتميات البرمجة عندما تختلط بالتوحد المتعالي بنيرمانا ؛ فيصير مدلول التبعية إغواء مجازيا لانهائيا باتجاه تكرار الحضور الإبداعي المتغير لتكوين الشاعر ، و الأنثى .
يقول :
" القانون صفر الذي وضعته لي نيرفانا / ووافقت عليه غير مضطر ... / لا يجوز للشخص الوحيد الذي يؤمن بنيرفانا إيذاؤها ... / يجب على هذا الشخص إطاعة أوامر نيرفانا " .
القانون يؤسس لارتباط ، و حتمية مضادة لفكرة الهيمنة ؛ فهي تفاعل إبداعي يبدأ من طاقة غير محددة تلج العالم الداخلي للمتكلم ، ثم تعيد إنتاجه كموضوع جمالي مؤجل دائما مثل الحضور الأول لنيرمانا .
إن الحتمية في النص تبدو كوسيط مادي لقوة الارتباط الطيفي بين الدوال المجازية ، و صيرورتها اللاحتمية .
و قد تأتي نيرمانا في سياق كوني ، أو تتوحد بأخيلة الماء ؛ لتؤكد فكرة الاتساع في وعي ، و لا وعي المتكلم . إنها لحظة الاندماج الأولى بالعناصر ، و ما تحمله من مرح يتجاوز الاستسلام للحدود ، و الحتميات .
يقول :
" لا أزال بحاجة إلى ارتياد نونا / و الغوص في أنسجتها ببذلة الفضاء / ... علمتني الرقص الإيقاعي مع الأسماك / في قاع البحيرة / و قذف الصيادين بالقواقع الملغومة " .
هل هي نشوة العناصر قبل انفصالها عن الاتساع اللاواعي للتكوين ؟ أم أن الصوت الشعري يقيم احتفالية كونية بالرحابة الاستثنائية التي اقترنت بتعدد مجالات نيرمانا في الزمان ، و المكان ؟
إن نيرمانا تحاكي العناصر ، و الحالات الاستعارية ، و الغريزية ؛ لتبقى دون حدود من جهة ، و تؤول المتكلم في بكارة التكرار الشعري لتلك الحالات ؛ فهي تندمج بحالة الاختلاط بين الإيروس ، و العدوان كما يصفها فرويد ؛ فيلتبس التوحد بالغياب ، و الحب بأخيلة الموت ، و كأن هذا الاختلاط الغريزي يقع بشكل دائري دون نهاية للأنثى ، أو الشاعر .
يقول :
" ثورة مؤكدة سوف يقوم بها الجياع / عندما ألتهم نيرمانا / و لا يتبقى منها شيء / ثورة مؤكدة سوف تقوم بها السباع / عندما تلتهمني نيرمانا / و لا يتبقى مني شيء " .
و يشير دال الالتهام هنا إلى قوة الحب ، و اختلاطها الأصلي بالتلاشي ، و الغياب ، و لكن الحدث يبدو متواترا ، و يرتبط شرطيا بالعناصر الطبيعية ، و الثقافية في العالم ؛ فهو جزء من دورات كونية تتعالى على الصوت الواحد .
هل انفجرت الاستعارة الغريزية ؟ أم تؤجل مثل التكوينات الجزئية حين تتخذ مظهر القصيدة ؟

و يتناص دال نيرفانا مع حالة النرفانا التي ارتبطت بفكر بوذا ؛ فنيرمانا هنا ترتبط بالغياب الروحي ، و الذوبان في المتكلم ، و العناصر الكونية . إنها الامتداد الطيفي للغياب بوصفه حضورا مستمرا ، و تأويلا للمتكلم ، و العالم .
يقول :
" بعد أن ترحل نيرفانا خلف الغيوم / ستبدأ – كما أتصور – غيبوبة الصباح و المساء / و ربما أفيق أنا من غيبوبتي " .
الاندماج الروحي بالعنصر الكوني ، أو بوعي المتكلم هو الأصل في تجليات نيرمانا ، و انحرافاتها ؛ فهي طاقة التلاشي لا التلاشي نفسه ؛ إذ تتجسد فيها مادة جديدة للغياب .
و قد تصير نيرمانا محاكاة للعمل الفني Artwork ، و ما يتجاوزه من تشبيهات تقع في نسيج الواقع ، أو السير الشخصية ؛ فهي القصيدة ، و القدرة التوليدية للمجاز خارجها في آن .
يقول :
" في اليوم التالي / ذهبت إلى المسرح اليوناني الروماني / نيرمانا هي بطلة العرض وحدها كما علمت / الغزو المباح هو عنوان المسرحية / لم تكتف نيرمانا باحتلال خلايا جسدي / بل تمكنت أيضا من سلب خبايا الروح " .
تقع نيرمانا في المقطع السابق بين الذات المتكلمة كفضاء إبداعي ، و المكان / المسرح ، و العمل الفني / المسرحية ، و كأنها تتجاوز الأبنية ، و تحاكيها ؛ لتعيد تكوينها خارج الاكتمال الذاتي ؛ و من ثم أشار عنوان العمل الفني إلى الغزو ؛ ليفكك أي تطابق ممكن مع نيرمانا .
ثالثا : البحث المستمر عن الكينونة :
ثمة رغبة سرية لدى المتكلم في الإمساك بالكينونة المجازية ، و علاقتها المعقدة بالأنثى في الديوان ، و في الوقت نفسه ينفلت الوعي دائما من الهوية الخاصة باتجاه الانتشار النصي – الكوني للدوال ، و السياقات التي تجمعه بنيرمانا .
يقول :
" أنا اليوم تمنيت أن أنقسم ثنائيا كالأميبا آلاف المرات .. / أنا أكون بوجودك ، هكذا أفهم ، و لا تعنيني المسميات " .
إن الكينونة الإبداعية هي انشطار نيرمانا ، و الصوت وفق صيرورة التشبيهات ، و المجالات المولدة من التوحد المتغير بالآخر خارج الحتميات الانفصالية بين الدوال ، و الأصوات .
إن شريف الشافعي يطور الوعي من داخل التمرد ، و رفض الآلية المطلقة ، و من ثم تظل نيرمانا دالا للخروج ، و تفكيكا للعلاقات الآلية ، و تأويلا مجازيا لها .
يقول :
" صرت لا أقبل أن أوصف بالآلة / ربما لأن أهم تعليمات نيرمانا / التي أحرص على اتباعها / ألا أحرص على اتباع أي تعليمات " .
لقد برز ضمير المتكلم في المقطع السابق ؛ ليؤكد تواتر بحثه عن الهوية ، و كأن البحث الإبداعي عن نيرمانا ، أو الكينونة المؤجلة هو بحد ذاته الممثل للصوت الشعري .