نساء وألغام.. رؤية فنية للواقع العربي

بقلم : د . حلمي محمد القاعود

تعد رواية " نساء وألغام " للأديب فؤاد قنديل ( دار الهلال ؛ القاهرة ، 2010) من روايات السيرة الذاتية التي يسجل فيها مرحلة مهمة من حياته ، بعد أن سجل مرحلة الطفولة والتكوين في روايته " المفتون " ، ويصل رصيده الروائي بهذه الرواية إلى ست عشرة رواية ـ بجانب إحدى عشرة مجموعة قصصية ، وبعض الكتب البحثية حول أدب إحسان عبد القدوس ومحمد مندور والرحلات . خيال فؤاد قنديل واسع وعريض ـ عبرت عنه روايات سابقة مثل السقف والناب الأزرق وقبلة الحياة ، ومن خلال هذا الخيال يعالج الواقع الاجتماعي والسياسي بطلاقة ملحوظة ، يساعده على ذلك قدرته في استخدام اللغة ، ومحاولاته المستمرة لتحويل المعجم الشعبي إلى معجم فصيح ينقل الدلالة بيسر وسهولة . وفي " نساء وألغام " يبني الحبكة من خلال حادثة سيارة صدمته وهو يولي الأدبار هاربا من سيارة الشرطة التي كانت تسعى إلى القبض عليه في أحداث 5سبتمبر 1981م التي انتهت باغتيال الرئيس الراحل أنور السادات ، في السادس من أكتوبر في العام نفسه ، ومنذ إفاقته في المستشفي يجد حارسا يقف على سريره فيبدأ رواية السيرة منذ الهزيمة عام 1967التي سموها النكسة ، مرورا بحرب رمضان الظافرة 1973 ؛ وانتقالا إلى العمل في خارج البلاد وزيارة بلدان عربية وأوربية ، ويعود أخيرا إلى النقطة التي بدأ منها ، وهي المستشفي التي يعالج فيها محبوسا ؛ حيث يهرب منها ويختفي إلى أن يشاهد عملية اغتيال الرئيس على شاشة التلفزيون وتنتهي الرواية والفترة التي يؤرخ لها روائيا . يسترجع البطل الروائي ما جرى له ، في استرسال متتابع ، و تدفق مستمر ، حيث لا يوجد تقسيم أو ترتيب وفقا لأبواب أو فصول أو شخصيات ، ولكنه سرد يجر بعضه بعضا إذا صح التعبير ، وإن كان الكاتب يتحكم في الأحداث وروايتها ، ويفصل بينها بفواصل تمثل ثلاث نقاط في وسط السطر عندما ينتقل من حدث إلى آخر .. وعبر الفترة الزمنية التي استغرقت عقدا ونصف عقد من الزمان تقريبا ، يشتبك الكاتب مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي ، ويبدى آراءه في الرئيسين السابقين جمال عبد الناصر وأنور السادات ، والفترة التي أعقبت الهزيمة ، ومعركة العبور ، ثم البحث عن عمل في دولة مجاورة ، وطبيعة سياستها ومواقفها من المصريين ، وانعكاس المواقف السياسية على العمالة المصرية والعربية ، ومشاعر العرب نحو المصريين ، وكيف تغيرت بعد العبور العظيم ، فضلا عن تقديم البيئة الصحراوية والحياة فيها والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الناس نتيجة الألغام أو الإقفار أو انتشار أنواع من الثعابين الضخمة القاتلة ؛ ثم حاجة هذه الصحراء إلى البناء والتعمير والاستفادة منها .. إلخ. وتحفل الرواية بالعديد من نماذج النساء اللاتي يمثلن ثقافات عديدة ، ورؤى متنوعة ، وإن كانت المرأة هي المرأة التي تشد الرجل ، وتعمل على جذبه بالغريزة أو الطبيعة ، فتكون في النهاية ملاذه الآمن الذي يسكن إليه ويجدد الحياة ، ويرفدها بالأبناء والأحفاد لتستمر البشرية في النماء والبقاء . يظهر فؤاد قنديل باسمه الحقيقي ، وكذلك بقية الشخصيات التي تناولتها السيرة ، يقدمون أنفسهم بأسمائهم الأصلية حتى ضابط الأمن الذي أنقذه من الاعتقال يظهر باسمه الحقيقي ، فضلا عن الوالدين والأخوة والأسرة الصغيرة ، والجيران والأصدقاء والأدباء والمحبوبة التي فسخ خطبتها .. هؤلاء وغيرهم يظهرون من خلال تجربة خصبة يقدمها الكاتب بكل حلاوتها ومرارتها ، ويسعي من خلالها أن يقدم نفسه كما هي بميزاته وأخطائه ، فلا يتقمص شخصية السوبرمان ، أو القديس أو الفاجر .. إنه يقدم ذاته بما تحمله من تناقضات ، وإن كان في كل الأحوال يميل إلى الخير ، ويرفض ما يعاكس الفطرة ، أو يجعل صاحبها في دائرة الشذوذ الاجتماعي أو الانحراف ، ثم هو غالبا يتذكر إيمانه وربه في المواقف الصعبة ، بل لا يجد غضاضة أن يقرأ سورة يس ، وآية الكرسي على السيدة الإيطالية المريضة في البنسيون الذي يقيم فيه بنابولي ، وحين تخف آلامها يطلب منها أن تستشير طبيبا لأن الأمر يحتاج إلى العلاج ، والأمر كذلك في المواقف الصعبة التي يتعرض لها هنا أو هناك .. تأتي التجربة الحية لواحد من الجيل الذي شهد الهزيمة والانتصار ، ثم المتاعب التي تخلفت عن سياسات غير موفقة ؛ في سياق جدلي أحيانا ، ومن خلال رؤى قد تحتمل أكثر من زاوية للرؤية ، وتلك طبيعة الناس في كل زمان ومكان ،ولكنها في كل الأحوال تحرص على ثوابت الوطن وقيمه وهويته ، وهذا أمر عظيم بلا ريب ، وخاصة في وقت صارت فيه الثوابت وجهة نظر ،والتمسك بالهوية مثيرا للتهكم والسخرية أحيانا ، وشرف الغاية دليلا على التخلف وعدم النضج . في الرواية / السيرة ظواهر فنية عديدة لا تسمح ظروفي بالتوقف عندها ، ولكن أبرز ما فيها هو التدفق الأسلوبي الذي يستقي صوره من تشخيص البيئة أو الجمادات أو المعنويات في اقتراب حميم من الروح الشعبية ، يخاطب مدينة روما وهو يزورها : " اغسليني يا روما ، انفضيني ، شيليني واهبديني ، خذيني بين أحضانك . اغمريني في منقوع جسدك ، اسقيني من رحيق عرقك وأحلامك وفوح مشاعرك وعبق قصصك الفاتنة . علميني كيف أكون عظيما مثلك .. " ص 102 . وفي كل الأحوال ، فإن الرواية تشير إلى معين زاخر من التجارب والإمكانات الفنية لدى فؤاد قنديل ، تستأهل المزيد من الدرس والتحليل واستخلاص رؤاها الفكرية والتشكيلية ، كما تشير إلى امتلاء جعبة الكاتب بما يمكن أن يثرى المكتبة العربية بمزيد من الأعمال الفنية والأدبية.