موسم الفراشات الحزين..سيرة من الفقد الدائم


الناقد السينمائى محمود الغيطانى - ندوة اسامة عرابى بالتجمع


ربما كان شعور الفقد العميق هو الشعور الذي لابد أن ينتابك بعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية التي يتم روايتها على لسان طفل يكبر عاما بعد آخر محاولا وصف ما يراه من تغيرات وتبدلات وأحداث تحدث لوطن ينهار يوما بعد يوم، ويتم اغتصابه لحظة بعد أخرى، حتى يتم السقوط الأخير بموت هذا الراوي بعد تصفيته جسديا؛ لنعرف أن وطنه قد تمت استباحته تماما، وسقط أيضا كمواز لسقوط الراوي صريعا، ولندرك من خلاله أيضا أنه لا مكان في هذا العالم للحلم والمثالية التي كان يرغبها هذا الراوي، بل إن القانون الحقيقي هو الحرب، والسلام، والنار، تلك الكلمات التي لا يعرف الراوي نطقها، ويسعد أيما سعادة لأنه لا يستطيع نطقها نتيجة إصابته "بالتهتهة" حيث يقول: ( ولدت بعيب في النطق- يقول عنه البعض "التهتهة"، وأيضا- لدي حرفان لا أستطيع نطقهما أبدا؛ هما الراء واللام، كل كلمة بداخلها اللام والراء أجد صعوبة في النطق بها، ومع ذلك.. أعتبر أنني محظوظ؛ لأنني لا أنطق كلمات: الحرب- السلام- النار)؛ ولذلك يحزن الراوي حزنا بليغا لأنه لا يستطيع نطق كلمات أخرى تمثل له أهمية قصوى في حياته مثل وردة/ فراشة/ زهرة/ بحر في حين أنه لا يعرف، أو بالأحرى لا يرغب أن يصدق أنه لا مكان في وطن مثل فلسطين لمثل هذه الأمور؛ نتيجة كثرة القتل والبارود؛ ومن ثم نرى الفراشات تهرب من مواضعها لسببين هامين حينما قال له جده( ألا ترى السماء؟! كم هي مليئة بدخان كثيف!! أما الأخريات؛ فقد هربت؛ حيث الزهور هناك غرب الشمس).
ولعل جملة الجد الأخيرة "غرب الشمس" التي يقصد بها قريته القديمة؛ حيث تم ترحيله منها مجبرا تمثل للجد والعائلة بأكملها فقدا عميقا كالجرح الدائم داخلهم، وأملا دائما في العودة إليها مرة أخرى؛ ولذلك حرص الجد قبل مغادرته للقرية على إغلاق البئر الذي تحت الشجرة وداخله عددا هائلا من الفراشات التي كانت تمثل لجده- المزارع- الوطن، بل ودفن صورته هو وصديق عمره "أبراهام" بجانب البئر لأنه كان على يقين بعودته مرة أخرى إلى قريته مهما طال تشريده أو غيابه، فنرى الطفل يقول( توقف جدي أمام البئر التي كانت قبل الشجرة بثلاث خطوات فقط، وجلس.. حرك جدي بصعوبة أحد الحجارة التي تسد فتحة البئر، وإذا بشيء خرافي يحدث أمامي، وكأن جدي تحول لعفريت، ليجمع ما بين قمر الزمان وبدور، كلما زاد جدي الفتحة الصغيرة التي صنعها بإزاحته للحجر؛ خرجت الفراشات من البئر، يا إلهي.. سرب يخرج من البئر، فراشات جميلة الألوان، لحظة تفصلك عن لحظة ماضية وهذه هي الحياة، موت وحياة، إلهي ساعدني.. فكم من الأسئلة يحوط بي، كيف للفراشات أن تعيش داخل البئر.. ثمانية عشر شهرا وخمسة عشر يوما؟ هل صنعها جدي الآن، هل هي هنا تنتظر جدي؟ أم أن جدي الذي ينتظرها؟).
بالفعل، من ينتظر من؟ لابد أن يتبادر هذا السؤال إلى ذهنك، هل الفراشات هي التي في حالة انتظار حقيقي، أم أنه الجد، والابن، والحفيد، والوطن كله في انتظار العودة إلى ديارهم مرة أخرى؟ ولذلك يحتفظ الجميع بمفاتيحهم لا تبارحهم( لم يفقد أحد المفتاح الذي بجيبه، كم كانت كثيرة هذه المفاتيح التي تدل على منازل هناك، كان الجميع يحتفظ بمفتاح منزله بجيبه أو في رقبته، يختلس النظر إليه أحيانا في أوقاته الصعبة الحزينة)؛ لأن الرحيل كان هو القدر المسلط دائما على رقاب الجميع فلقد( كانت الأهالي ترحل.. ترحل تاركة منازلها لضيوف جدد وغرباء.. لا يبتسمون أبدا)، كذلك نرى الراوي وحده بعد كثرة ترحاله وموت جده، وأمه، وأبيه، بل ورحيل أصدقاءه من حوله مما يدفعه إلى الاعتراف( لقد كُتب عليّ الترحال، كالدليل، من قرية لقرية.. ومن منزل لمنزل.. ثم لخُص.. ثم منزل لصديق، وتأكدت أني لا أنتمي لما ينتمون إليه، ولاهم ينمتمون إلى ما أنتمي إليه، أنا وسط طرفين في المنتصف، وهما يتحركان بمنطق: هل أنت ضد أم مع)، ولكن هل هذا الترحال الدائم، وذلك المنطق المغلوط "ضد أم مع"، والذي لا ثالث له استطاع اقناع الراوي أنه ليس بالفراشات ولا بالورود، ولا بأن يكون حاملا للورد أو راعيا له يمكن أن يحيا الإنسان؟ هل أقنعه كل ما يراه من خراب حوله، وتقتيل، وسفك للدماء بأن الجميع من حوله لن يتركونه يحيا في أحلامه الخاصة به والمحصورة في رؤية الفراشات وهي تطير، وبأن يكون حاملا للورد وراعيا له، وبأن يذهب في نهاية الأمر إلى البحر ليبيع وروده هناك؟
للأسف، لم يقتنع الراوي بأن العالم من حوله موحش، وبأن عالمه اليوتوبي الذي يحياه لا يمكن له الاستمرار فيه، وبأن اقتناعه التام بقوله( هناك شاعرنا يكبر ويكبر ويحارب بقصيدة، مثل صديقي يحارب بكاميرته، وأنا أحارب بوردة) لم يكن قولا مقنعا؛ لأنه لا "محمود درويش" استطاع فعليا المحاربة بقصيدته، ولا هو حارب بوروده التي يحبها، بل تم دهسها أكثر من مرة، بل وتم تفجيره وتفجيرها معه أيضا، فما استطاع أن يحارب، ولا استطاع الاستمرار في ملئ هذا الوطن بالورد بدلا من الدم المسفوك والطلقات المدوية.
لعل هذا الانفصال عن الواقع المعيش، الذي يشبه الكابوس الحقيقي، كان هو السبب الرئيس في إحساسه الدائم بالغربة بين الجميع، سواء كان هذا الاغتراب نابعا من داخله نتيجة هذا الانفصال، أم أنه نابعا من الخارج نظرا لما يحوط به من اليهود؛ فنسمعه يقول( كانت الناس تنظر إليك وكأنك الغريب الذي لابد له من الرحيل، غربة في بلدك وغربة داخلك، تلك الغربة التي تأكلك من العظم قبل اللحم، كم أنت قاسية أيتها الحياة، ولكن لابد لنا من أن نحياك).
ولكن هل استطاع هذا الاعتراف الذي جاء على لسانه أن يجعله يدرك أنه لا يعيش على الأرض مثل باقي من حوله، بل وهل جعله ينخرط معهم في حياتهم، أم أنه ازداد ابتعادا عن الأرض ليحلق في عالمه وحيدا؛ ومن ثم انفصل بشكل يكاد يكون كاملا عن العالم المحيط؛ فبدا لنا دائما حتى في جمله ووصفه وكأنه يحكي باعتباره في حلم طويل؛ ومن ثم اختلط الحلم معه بالواقع فنسمعه يقول( أغمض عيني لثانية.. فإذا بالوردة تمد وريقاتها وتتحسس خدي، هل ذلك محض خيال طفل؟ أم أن الوردة تشكرني لتركها؟ في غصنها؟ أم هي تأمرني بشيء ما؟ لا أعرف)، بل وازداد الأمر ابتعادا فشعرنا أن هناك دائما مسافة ما بين ما يحكي عنه وما يحدث في الواقع الفعلي، وكأنه يقف دائما موقف المتفرج لا المشارك، ولعلنا إذا ما تأملنا المقطع التالي للاحظنا الانفصال الحميمي عما يدور حوله بالفعل( وفي لحظة محددة أشارت بيدها دلالة على ضرورة صمتي وترك الحديث لها، لم تقل غير كلمة واحدة.. بينما كانت تفك أزرار قميص يطل من أسفل جاكت، قالت: أنظر، وأخرجت نهدها الأيمن، حملته هي من أسفل بكفها، وكاد الكف أن يبتلعه- فقد كان صغيرا- ورأيت مالم أصدقه إلى الآن، وشما لفراشة صغيرة، يا إلهي.. فراشة تنام على نهد غير مكتمل لكنه ينمو بسرعة، كم صرت أحسد هذه الفراشة التي تلامس ليل نهار نهد سارة، ثم أغلقت سارة قميصها) ولعل في هذا المقطع ما يدل على وجود مسافة طويلة وفعلية بينه وبين كل ما يحيط به، حتى أنه يقف دوما موقف المتفرج، ربما نتيجة إحساسه الدائم والعميق بالفقد، الفقد لأهله الذين رحلوا، ولأصدقائه، ولحلمه، ولمحاولة استقراره، بل( لوطنه الذي أُسس على عجل) بكل ما يمكن أن تحيل إليه العبارة.
الاقتصاد اللغوي، والخلل في استخدام الضمير:
ولكن بالرغم من قدرة الروائي "أسامة حبشي" على تعميق مثل هذا الشعور بالفقد داخلنا من خلال ما يرويه راويه، سواء باستخدام اللغة المقتصدة الشديدة التكثيف؛ حتى أني حاولت البحث عن مفردات لغوية زائدة على طول الرواية فلم أستطع الوقوف إلا على لغة مركزة تركيزا عميقا في مفردات محددة تعطي فقط المعنى الذي يرغبه الراوي فنراه يقول مثلا( كان جدي يجلس هناك.. في مواجهة البعيد.. من ورائه المخيم ومن أمامه الغياب) بدون أية زيادات، كما نراه يقول( اقتربت وجلست بجانبه، وقلت دون أن أنظر إليه: مساء جديد سيحل بمخيمنا) وكأنه حريص على الاقتصاد فيما يخرج من فمه من المفردات اللغوية التي نراها في أحيان كثيرة على طول الرواية بها الكثير من الشاعرية والرهافة في الحس، والاحساس العميق، فتقول الأم( بالحجر نبني.. وبالحجر نحلم.. وفي الحجر نشم رائحة الخبز وأولادنا) كذلك في جملته( أيمكن أن يُكتب وطن بورد في بلاد الحرب وفي جزء يكاد يكون منسيا؟).
نقول بالرغم من قدرة الروائي على تعميق هذا الشعور بالفقد داخل المتلقي باستخدام هذه الأدوات اللغوية مضافا إليها الصدق في الحكي، إلا أنه لم يوفق إلى حد بعيد حينما اختار ضمير المتكلم ليكون هو الضمير الذي ينطق به الراوي؛ فبالرغم من أن هذا الضمير هو أكثر الضمائر اقترابا من نفس الكاتب دائما، وهو الأكثر التصاقا به وتعبيرا عنه؛ ومن ثم يصل العمل إلى قارئه مباشرة فيصدقه ويتفاعل معه، إلا أن استخدام "أسامة حبشي" لمثل هذا الضمير لم يكن في محله لسببين أساسيين لم ينتبه إليهما المؤلف؛ وبالتالي لم يتطع اقناعنا باستخدامه لهذا الضمير، وهما: أن النصف الأول من الرواية يكاد يكون مرويا على لسان الراوي وهو لم يزل بعد طفلا صغيرا في التاسعة من عمره، إلا أن الكثير من الجمل والتفسيرات والتبريرات التي وردت على لسان هذا الراوي الطفل لم تكن لتتناسب بأي حال من الأحوال مع هذا العمر المبكر؛ ولذلك لم نقتنع إطلاقا حينما قال الطفل( تفصلني عن جدي بضع خطوات- مسافة قليلة- ولكن.. ما هي المسافة؟ ولماذا تحل بي الآن؟ هل المسافة- فقط- تقاس بالخطوات والأمتار.. أم ببعد الروح عن الجسد أيضا؟) لأن الطفل لن يدرك التفكير بهذا الشكل الأقرب إلى التفلسف في مثل هذا العمر، كذلك قوله( نعم لا يدرك ذلك من لم يعش تجربتي، فنحن هنا اختلاط الضروري بـ اللاضروري، نحن انصهار العادي باللاعادي، نحن نضع الخبز بجانب الموت، نضحك ونبكي، ونفهم الحجر) ولعله في مثل هاتين الجملتين وغيرهما من الجمل على طول النصف الأول من الرواية قد افتقد للكثير من المنطقية والاقناع بالنسبة للقاريء كي يتقبله على لسان طفل صغير، إلا أننا ما نكاد أن نتقبل ضمير المتكلم في النصف الثاني من الرواية حينما يكبر هذا الراوي ويصبح ما يطرحه على لسانه منطقيا، إلا ويصدمنا "أسامة حبشي" مرة أخرى؛ فنرفض وجود هذا الضمير كلية من بداية الرواية حتى نهايتها حينما يتضح لنا في الصفحتين الأخيرتين مقتل الراوي وتصفيته على يد(بريق المحذوف)- والد سارة-، وعلى الرغم من ذلك يستمر في الروي أثناء لحظات موته الأخيرة، إذن فمن الذي كان يروي منذ البداية؟ وكيف له الاستمرار في الحكي أثناء موته الذي فصله عن زمنه الواقعي إلى الزمن السينمائي حينما حدث هذا الفصل بين فعل القتل المباشر وبين فعل الموت الذي كان بينهما حكي عن "أبراهام" وحفيدته "سارة"؛ فبدا لنا الأمر وكأنه الجملة الاعتراضية بين جملتين، ففي المشهد 13 نراه يتم إطلاق النار عليه، بينما في المشهد التالي له-14- يتحدث عن "أبراهام" وامتلاكه لحقل الورد الذي كان ملكا للراوي مدللا في ذلك على خيانة "أبراهام" له، إلا أننا نجده في المشهد التالي والأخير-15- يقول( أعود لموتي بعد تلك التقاطعات المرنة الحزينة التي عبرت برأسي، الطلقة في صدري، أعتدل بصعوبة وأبحث عن الدليل والمرأة التي كانت تشتري وردة وحيدة في مدينة الله الجديدة)، نقول أن هذا الفصل السينمائي بين المشاهد من الممكن تقبله على شاشة السينما بسهولة ويسر، ولكنه هنا أضر بطريقة السرد الروائي؛ ومن ثم رأينا أنه كان من الأجدى "لأسامة حبشي" إذا كان مصرا على استخدام ذات الضمير أن يستخدم أسلوب المذكرات أو ما أشبه حتى يكون أكثر اقناعا وقبولا.
تقنيات سينمائية:
ربما كان هذا المشهد الختامي في رواية "أسامة حبشي" والذي استخدم فيه تلك التقنية السينمائية، أي اللقطة الاعتراضية insert shot ، تلك اللقطة الخاصة بامتلاك "أبراهام" لحقل الورد، والتي كانت بين لقطتي إطلاق النار والموت الفعلي للراوي، أقول ربما يجرنا ذلك للحديث عن التقنيات السينمائية التي لجأ إليها "أسامة" في كتابة روايته، والتي ساعدته كثيرا في نضج واكتمال الرواية أحيانا.
ولعلنا نلاحظ أن الروائي مولع باستخدام تقنيات سينمائية تصلح في الأساس لكتابة السيناريو السينمائي، وإن كان "أسامة حبشي" قد برع فيها كثيرا حينما استخدمها في السرد الروائي، ولعل التقنية المونتاجية (الظهور والاختفاء) كانت من أبرز ما استخدمه الروائي على طول روايته؛ فبدت لنا الرواية وكأنها فيلما روائيا طويلا، فتظهر لنا المرئيات على الشاشة ثم لا تلبث أن تظلم إظلاما تدريجيا، وحينما تعود المرئيات للظهور مرة أخرى نراها عند ذات المشهد السابق الذي أظلمت عنده الشاشة، وربما كان هذا هو السبب الذي حدا به إلى تقسيم فصوله على الرغم من عنونتها إلى أجزاء/ مشاهد مرقمة داخل كل فصل، ففي فصله الأول مثلا "البئر والتين" نراه ينهي السرد بقوله( أراد جدي أن ينهي حديثه عندما رد بحسم وحزن: هذه ليست بلدتنا.. إننا ضيوف يا ولدي) ويتوقف الروائي هنا ليبدأ لنا مشهدا جديدا داخل نفس الفصل، وقد وضع له رقم 2 ، ونلاحظ أنه يبدأ بقوله( حقيقة الأمر، كان صعبا عليّ ملاحقة جدي بالأسئلة.. لا لشيء يخصه؛ وإنما يعود الأمر إليّ) فإذا ما تأملنا ما حدث لوجدنا أن الأمر لا يعدو أكثر من مشهد ما يدور أمامك ثم إظلام تدريجي للشاشة، ثم العودة لذات المشهد مرة أخرى من أجل استكماله، وللحق أن "أسامة حبشي" قد برع في استخدام هذه التقنية أيما استخدام حتى أننا نراها من أهم مميزات الرواية، ولعله مما يؤكد ذلك حينما نراه يحادث الرجل- ذا الساق الواحدة- الذي يزرع الورد حينما يقول له الرجل( لا تقلق فأنت من طرف صديق، ابن لصديق عندما كانت هناك حياة أخرى. ثم ساد صمت) لينهي بجملة "ثم ساد صمت" المشهد وكأنه قد تم إظلام الشاشة تماما ليعود في الصفحة التالية مباشرة وتحت ترقيم جديد ليحدثنا عن الرجل ذي الساق الواحدة الذي أظلم عليه المشهد السابق منذ برهات.
ولكن ربما كان شغف "أسامة حبشي" باستخدام التقنيات السينمائية داخل السرد الروائي قد أوقعه في مأزق كبير حينما استخدم تقنية (الانقلاب) في نهاية روايته، أي أن يجعلك كمتلقي تكتشف في اللحظات الأخيرة أنك كنت مخدوعا بتصديق الحدث، بل وكل من داخل الحدث أنفسهم يتم ممارسة نوع من الخديعة تجاههم؛ ومن ثم تكتشف الحقيقة في اللحظات الأخيرة من العمل كي تبدأ في إعادة ترتيبه مرة أخرى من خلال منطق ونسق جديد، وهذا ما فعله الروائي في الصفحتين الأخيرتين، لنكتشف أن "سارة" وجدها "أبراهام" كانا يمارسان الخديعة ويتآمرا على الراوي منذ البداية- وإن خلت الأحداث من مبرر هذا التآمر والخيانة- حتى وقوعه صريعا، بالرغم من أن "سارة" كانت هي التي نصحته بالانضمام والكتابة في جريدة الحزب الشيوعي كي يكون له كيانا ومصداقية ويمتلك حرية الحركة، وبالرغم من أن جدها كان الأقرب إلى جده، بل وهو الذي نصحه بعدم رؤيته مرة أخرى لأنه يخشى بطش ولده- الكاره للعرب- عليه، نقول أن هذا الانقلاب الفجائي الذي ساقه الروائي لم يكن مقنعا ومتواشجا مع أحداث الرواية، وأظن أن الروائي فعله بمنظق السيناريو السينمائي فقط، كما أني لا أستطيع تقبل نظرية التآمر الدائمة من اليهود لمجرد كونهم يهودا، وكأن "أسامة حبشي" هنا يحاول دفع تهمة التعاطف مع بعض اليهود باعتبارهم بشر مثلنا ولهم قيم ومباديء ومثل، ومن الممكن تعاطفهم مع غيرهم من العرب؛ مما حدا به إلى هذا الانقلاب غير المبرر دراميا، إلا إذا حاولنا إرجاعه فقط لنفسيتنا نحن كعرب؛ حيث سيتم اتهامنا بالعمالة أو التطبيع لمجرد أني قد يكون لي صديقا يهوديا يتعاطف معي وأتعاطف معه.