مقعد على بحر النيل

كان تدفقا جميلا للغبطة التى أشعر بها، عندما سمعت صوت الموسيقى أتيا من بعيد من أحد المراكب السيارة على صفحة نهر النيل، وأم كلثوم تشدو برائعتها(شمس الأصيل) أنا وحبيبى يا نيل نولنا أمانينا، مطرح ما يسرى الهوى، ترسى ما راسينا.
شعرت بنشوة الوجد، وأنا فى حضرة الموسيقى لا يسعنى إلا أن أندمج كاملة معها، ولا أشعر إلا بروحى التواقة للحب والولع أن تستعيد تلك الأيام فى وحدتها الدائمة، إنه الصمت سيد الكلام، يمكننى أن أظل صامتة لساعات طوال، وأنا أستعيد بداخلى حلاوة كل الأيام الماضية، والموسيقى الداخلية تتدفق فى عنفوان شديد، فى هذا الحين تتولد اللذة والشقاء، والحب والبهجة، والحزن والفقد، وكل الغرائز الإنسانية الهاربة تأتى دفقة واحدة، وأنا فى حضرة النيل والسحر والموسيقى، وأشعر لحظتها أننى لم أحب الحياة بهذا القدر الكافى من العنفوان الداخلى.
يتولد الفرح من رحم المعاناة، والسعادة تنبثق من قمة الحزن.
يا إلهى، لا تجعلنى أحزن بشدة مرة أخرى، ولا تدخلني فى أختبار لا أقدر عليه.
عندما أكون فى حالة نشوى منفردة، يندفع الحزن من داخلى متدفقا فى حلة سعادة وفرح، كأنه يريد الخروج على دفعات متتالية وسريعة، إنه يتدفق تدفق الموسيقى، وأجدنى أغنى بصوت حنون مع الأغنية بشغف وغبطة متواصلة.
آه أيها الحب كم أنت متعب.
آه أيها الحزن كم أنت قاسى.
آه أيتها السعادة كم أنت هاربة بعيدة.
وينبعث الحب الدفين من ذاتى، فأجدنى بلا شعور أذرف دموع ساخنة على خدى وشديدة التدفق.
وأظل أزيحها بيدى المرتعشتين بعيدا عن عينى حتى تكل يداى فأتركها تنزل على مهل كما تريد مثل ماء منهمر.
كل شىء يدفعنى فى هذا الجو الشتوى الدافىء، وعلى صفحة هذا النهر العميق غلى الشعور بالمحبة المفرطة الدهشة.
إنها الموسيقى هى التى فعلت فعلتها بى.
إنها العزلة هى من عمقت شعورى بالحزن.
إنها الحياة الصاخبة والمؤلمة أحيانا هى التى تدفعنى إلى سرقة بضع دقائق من الوقت لأعتزل العالم، وابقى هنا وحيدة وسط هذا الصخب الهادىء والممتع من لذة الحياة.
هناك نغمات تتملكنى عند سماعها، مع سحر الصوت، وتدفق الموجات الصغيرة أمامى، تلهو فرحة خلف بعضها البعض بلذة تتجدد فى كل مرة أذهب فيها إلى هذا المكان المنعزل قليلا، لقد أصبح متعتى الفقيرة، والغير مكلفة فى هذا الزمن الأستهلاكى الضحل.
إننى الآن أحب عمليات الأخراج والأدخال المدهشة من وإلى ذاتى.
إدخال البهجة والسرور، وإخراج الحزن الدفين المتنوع فى الروح.
يا إلهى لماذا جعلتنى أحب واتعلق بكل من حولى رغم قسوة الظروف؟
وأستدعاء الشخصيات التى دخلتنى بحب فى لحظة صفاء نادر، والغبطة بخروجهم أمامى الآن فرادا على صفحة هذا النهر العظيم، يرقصون ويبتهجون أمامى مع الموجات الصغيرة اللاهية والمداعبة لهم.
إنهم الآن يشبهون راقصات البالية الصغيرات فى بحيرة البجع فى إنحناءات الجسد ونضارته، والتحليقات الرائعة، والموسيقى الماسوية المنبعثة من الداخل، يطفو على السطح فى سرعة وتدفق.
إنه السحر الخاص بنا.
إنها النشوى العارمة التى تتدفق طازجة من داخلنا، إنها تغسلنا من الداخل بخروجها الفذ، مثلما يغسل المطر المنهمر أوراق الشجر من الغبار والأتربة.
إنه الحضور المتدفق، المهووس للأحباء والأصدقاء.
إنه الخروج الآمن للروح بالنسبة لهم فى لحظة توجع الروح المحبة والمندهشة بوجودهم.
إنهم يخرجون فرادا وعلى دفعات متدفقين عبر الأفق الممتد، غنها النشوى ، إنه السحر.
إنها متعة الحرية، أن تكون وحيدا على متن باخرة تنقلك من مكان إلى مكان، ومن ضفة غلى ضفة أخرى.
لقد أخترق أذنى الآن صوت نسائى قريب من الفتيات الواقفات خلفى يلتقطن بعض الصور، سمعت صوتا يخترق أذنى بحدة عندما قالت أحدهن(والله ممكن أمسح صورتك من على الأستجرام، وحط لك بدل منها صورة وأنت معفنة) ثم ضحكت الأخرى وقالت بصوت أكثر أنفعالا : لأ يا حبيبتى فوقى لنفسك أنا ممكن أحط لك صورة(خرة) على الفيس وأخلى كل الناس يشفوها، فوقى لنفسك ياروحى، وأعرفى أنت بتكلمى مين.
ثم فتحت ثالثة السبيكر وأخذت تتحدث مع صديقة لها فى العمل لم تستطع حضور الحفل ثم أجتمعن جميعا حول الموبايل واخذن يتحدثن ويلوحن لها بقوة وسعادة.
كان ثلاثة شباب يجلسون على المقعد الأخير فى حالة من الأسترخاء واللامبلاة بعد أن قمعتهن البنات عندما أرادوا التطفل عليهن وفرض ذكورتهم الوقحة بالقوة.
ولكن عندما قالت أكبرهن سنا: نعم يا حيلتها أنت وهو، وكشرت لهم عن أنيابها بإشارة من يدها تجاه الحذاء الذى فى قدمها.
جلسوا، وأخذوا مواقع المتفرج للحفل، رغم تململهم احيانا بين كل ضحكة وضحكة تصدر عن البنات وهن يقمن بتصوير بعضهن البعض، إن المزاج الذكورى الذى يملك القوة التاريخية يريد أقحام نفسه عليهن عنوة.
وهن بحكم الآن يملكن القوة والغلبة واللسان السليط ايضا، فكان الأحتفال يتم أختراقه بالنظرات والحسرات بين لحظة وأخرى.
حتى أنا الجالسة منفردة على مقعد وحيد بعيدا عنهم جميعا، وبين لحظة واخرى أسرق بعض النظرات واضحك، وأحيانا أهمس همسا داخليا بكلمة أحسن، بما اننى امرأة كنت معجبة بالحرية التى تشعر بها البنات منفردات.
وتضامنهن مع بعضهن البعض.
وبين لحظة وأخرى، أنظر نحو الشباب، أتتبع تذمرهم وهزيمتهم واحباطهم وهم يجلسون خلف مقعد البنات.
يتربصون بهن، وينتظرون.
دائما ما أفعل هذا، منذ فقدت كثيرا من الأحبة والأصدقاء، أسافر كثيرا، أهىء نفسى أننى فى حالة فقد دائم، وترحال مستمر، أركب الباص أو القطار، أو حتى الأتوبيس النهرى، وانتقل من مكان إلى مكان، فكرة الأنتقال فى حد ذاتها، تشعرنى بالأغتراب الدائم والحميمية المفرطة تجاه نفسى، أنظر من النوافذ المفتوحة على الدنيا، على السماء والأرض والناس، والخضرة والماء، أصادف وجوه جديدة فى رحلتى العبثية، لأنها قد تكون لبضع ساعات، أجلس بجوار الباعة الجائلين على الأرصفة، وخاصة باعة الشاى والترمس وحمص الشام، يقوم البائع بتنظيف كرسى من البلاستيك. واطلب منه فى سعادة بالغة كوبا من الشاى أو القهوة وأنا أضحك : معلقة سكر واحدة وحياتك.
أطيل النظر على المارة والنوافذ والبيوت، كنت قديما أحب السير لمسافات طويلة، ولكن الآن مع تقدم العمر والألم، أركب أى حافلة، وأجول معها فى المناطق القريبة أحيانا، أو أذهب إلى الأسكندرية(صد،رد) كما يقولون، أجلس على شاطىء البحر الأبيض المتوسط، أنظر نحو البلاد البعيدة، أنظر إلى الموج الهادر، واطلب من بائع السودانى السريح قرطاسا كبير من اللب الأسمر، واجلس على الشاطىء معطية ظهرى للشارع ووجهى للبحر، أحدث الموج طويلا، أعرف انه يسمعنى، وأحيانا أرسل له قبلاتى الطازجة، يستقبلها بمرح، وتأتى أمواجه الصغيرة أسفل قدمى، تقف قليلا ثم ترحل فى حبور، أرسل لها بعض القبلات السريعة، وانا أمضع حبات الفول، وإلى جوارى كوب الشاى الساخن ارشف منه فى صمت وببطء شديد.
أنا الكسولة المحبة الصموتة، أجد أحزانى ومشاعرى تتدفق بعنف كثيف وتخرج، وتتركنى قليلا، تلهو مع المارة والأطفال، ثم فى أخر النهار تعود معى إلى البيت كما جئنا سويا، فهى لا تريد أن تفارقنى تماما، هى تفارقنى فقط لبضع ساعات قليلة، تخرج تتنزه، ثم تعود سعيدة إلى مرة أخرى، أجمعها، وأغلق عليها قلبى ونعود سويا إلى البيت من نفس الطريق الذى أتينا منه صباحا.