مقتطف من الفصل الأول من رواية الحزن دساس

اعتادت أن تختلي بنفسها لعلها تراه قادماً, فقد يباغتها كلصٍ في ليلةِ شتاءٍ مظلمة.
تعمَّدت أن تترك كل شيء مفتوحاً, أبواب قلعتها وأسرارها، لقد أعدَّت لهذا اللقاء المرتقب جيداً.
احساسٌ ما يخبرها أنه لن يتأخر عن موعده هذه الليلة، وعليها الاستعداد، حرصت أن تنهي أي التزام قد يؤخرها، بعد أن نجت من نغمة عمتها الليلية النابعة من حبال صوتية ترتجف بكبروقت الدواء والنوم يا الكبيدة.
لقد تواطأ السيد النوم معها في ليلة موعدها وسيطر على العمة، جمعت كل أجزائها المنتشرة هنا وهناك فيها لليلة الاجتياح، تريد أن تكون له...له وحده.
تحدَّت الزمن وأحيت كل التفاصيل، طارت بها الذاكرة صوب أول مكان التقيا فيه، ثم عرجت بها الى تلك القاعة للموسيقى الأندلسية أين فتح معها أول حديث، فارتعش جسدها كعصفورٍ صغير فقص من بيضته للتو، مروراً بذلك بزقاق النحاسين"بالقصبة"أين أخذ بيدها ليشاركها سير ما تبقى لها من طريق التيه، ظلَّت تطير الذاكرة بها وتطير من ميناء العاصمة الى نهر السين, من غابات النخيل "ببسكرة" إلى كنيسة "القديس أوغستين", من بلاد النصف مليون نهر إلى….. وعند كل ترانزيت كانت تتأنى في استرجاع كل تفصيل وتتأمله بكل صحوها.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل ولا تزال مشاهده بحياتها تقذفها هنا وهناك.
إنها تتلذذ في إغراق نفسها بثناياه... وتسييج روحها بحكايــاه،في أي ساعة سيأتي طيفه،كانت تسأل حين لفَّت نفسها بكفن الوجع جيداً.
متى يهب هسيسه الخارق للصمت التعيس،ويفرد جناحيه طويلة المدى والأفق،ظلَّت تتمتم..تذكرت أنه أخبرها ذات فرح أن للسماء آذان كثيرة تسمع ما يدور في أرواحنا، وتفسد أخبارنا لمن نحبه أول بأول فرددت قائلة :
ـ منذ رحيلك يا حبيبي وأنا امرأة اشتعلت شيخوختها مكانها بين الذكريات، لماذا نسيتني كل هذه الشتاءات الطويلة؟
لم تقطع أنينها حتي لمحته وهو أمام شرفة الحياة المفتوحة نوافذها على مصراعيها، جلس يداعب سيجارته التي قاربت على الانتهاء، وعلى طاولته نصف كوب قهوة بارد، جميل حضوره أمام تلك التينة التي تشع نوراً،عيناه تتدفقان فرح تعكسان سر الكون ببذخ، كم يتقن السكون ، إنه رجل يتفنن في الهدوء بهدوء، برشاقة يحاور الأحزان بالساعات بالأيام، بالشهور بل بالسنوات ولا يبالي، فلا تعود أحزان بل أفراح وأفراح أفراح،رجل يشبه رقصة شعبية إفريقية تحمل في طياتها كل المتناقضات,العتمة والنور, الألم والشفاء, الحب والكراهية, الكآبة والحلم ولا يختل توازنه، كالفراشة روحه ولاءها للعطر وللجمال أينما كان ظل يغازل ورود بيته الصغير.
حدّقت جيداً بعينيه حين خطرت بباله فكرة أن يراسلها كما كانت تتمنى دائما أن يفعل و لا يفعل، قرأت همسه وهو يقول:
ـ سأرى ماذا تقول الإذاعة الأولى عن فكرة المراسلة التي راودتني؟
فتح المذياع يستشيره وإذا بالمذيعة تقول:
ـ إلى كل الذين تفصلهم عن عودتهم لبعض خطوة اعتذار(نجوى كرم)تغني :
ـ يا حبر العين دلل أوراقي
دلل أوراقي يا حبر العين
و على الصفحة أكتب الحرفين(ح.ب)
لروح الروح رايح مكتوبي
آخ ,آخ
و كأس الآخ مشروبي
انفجرت تلك "الآخ" المستودعة بأحشائها منذ جيل، وطوَّق الحزنُ روحها كأفعى هندية بطول انتظار، وعرض خيبة وظل هو كشجرة أرز لبنانية ثابتة الجذع بعمق، وأوراق تهزها الرياح بتناغم.
حزنها هو الضامن الوحيد لبقائه لبعض من الزمن لهذا فهي لا تتوانى أبداً في تقديم جرعات تخذير عالية التركيز له.
كم تشتهي أن تُحرق على يديه كجثةٍ أُلقت بمحرقة بوذية نُثِرَ رمادها على شطآن النسيان، ليعود و يبعثها لتحي من جديد.
صار الوجعُ شمساً حين رأت عدوله عن فكرة أن يراسلها, سيذهب بنفسه إلى هناك ويراها.
فرحت حين قرر أن يبعثها من موتها ليلتهمها من قريب، إنه رجلٌ استثنائي لا يشبه رجالَ الأرضِ في ترددهم ومخاوفهم عند الاشتياق.رجل يحمل على عاتقه مسؤولية أحزانه بشرف، ويشق طريق الفرح نحوه بكل بساطة.
ها هو يحمل دفتره وقلمه الرصاصي ويأتي إليها،دق الباب وانتظر الرد، ظلَّ ينتظر تحت تلك الغيمة الرمادية دون ملل، وحين أطال انتظاره غضبت أيما غضب واتجهت نحو الباب تفتحه بعنف وقالت:
ـ ليس من عادتك أن تنتظر،فأنا أترك الباب مفتوحاً لك وحده بهذه الساعة.
بنفس الهدوء والثقل ابتسم لها ودخل، ها هو يخترقها من جديد، يستقل مركبا ورقي من دفتره(توحشتك)ويمضي بها إلى قاع وحشتها ليتناسل وجعها أضعافاً مضاعفة، وتبقى على قيد الحزن،كغير ظهوراته الخاطفة، كان هذا الأخير كثيف الغموض وعارٍ من المكابرة، ولأنه سمع أصواتها اللامسموعة خاطبها:
ـ ها أنا أراك من جديد،أين ثوبك الزهري؟إني أشمُ عطرَ روحك المحفور بذاكرة الكون رغم أنك لم تجددي جلدك الميت منذ جيل؟
لامست روحه هواجسها، ولم يكتف بل راح يتكلم بإطراء، ويهديها فضاءات تسع الكون للحب، أما هي فتطمح لقفص صغير بداخله تُنفَى إليه، يخبرها من أين، وكيف تصنع لها أجنحة لا تنكسر، وهي ترغب في أن يقلمها على الطريقة الشرقية، بل أن يحبها حباً برياً، ويراقصها على أنغامِ العصبيةِ الجزائرية.
تشتهي أن يخطفها كأمواج البحر اشتهاءً، ويلفظها اشتهاءً، تتمنى أن يضع ثقل همسه بأذنيها، ويمنع وصول الأصوات المتناحرة بداخلها إلى مسامعها و يخبرها أنه يحبها.
اختفى بلمح البصر تاركاً طيفه بذاك المكان الخالِ من الزمن، ظلَّت تلتف حولها تبحث عنه وحين تعبت خرج من مسامات جلدها وقبَّلها فضخ دماء الحياة بشرايينها وبعثت من جديد من قبورها المنسية، أخيراً التصقت شفاهه عارية من كل الفلسفات والخمياءيات.
هاهي لا تنساه... تحبه وكم تتمناه.