معنى القدوة: تجربتي مع السفير عبد الرءوف الريدي

شهد الأسبوع الأول من يوليو 2022 سلسلة من الاحتفالات على الصعيدين الرسمي والخاص بعيد الميلاد التسعين للسفير عبد الرءوف الريدي، فمن هو الريدي وماذا أنجز؟

فبوصفي تلميذ له، ظللت على مدار قرابة أربعة عقود على تواصل به، أجد من واجبي أن أسجل ما عرفت عنه، وكيف تأثرت به، والأهم: الدروس التي قد تفيد أي إنسان جاد وطموح يريد أن يحقق إنجازا في أي من مجالات الحياة.

كان السفير الريدي نجما صاعدا في سماء الدبلوماسية المصرية عندما التحقت بها في أوائل الثمانينات، ومن حظي أن ترأس لجنة مناقشة الرسالة التي أعددتها للتخرج من معهد الدراسات الدبلوماسية (وهي اللجنة التي ضمت السفيرين القديرين الدكتور مصطفى الفقي المشرف على رسالتي، والدكتور محمد عزالدين المشرف على دفعتي بالمعهد). وكان حظي مضاعفا بأن عملت تحت رئاسة السفير الريدي في إدارة الهيئات الدولية، ثم في سفارتنا في واشنطن – وكان بذلك أول رئيس لي في ديوان عام الخارجية وأيضا في سفارة بالخارج – بل اختارني سكرتيرا له في واشنطن، ما أتاح لي فرصة فريدة لمتابعة ممارساته المهنية والإنسانية عن قرب، والتتلمذ على يد قامة دبلوماسية وشخصية عامة من المستوى الرفيع.

الارتباط بالجذور  

حرص السفير الريدي أن يضع لوحة زيتية لمشهد في عزبة البرج – القرية التي نشأ بها بمحافظة دمياط – في موقع بارز من مكتبه بالسفارة في واشنطن. اللوحة التي رُسمت على الأرجح في منتصف القرن العشرين تظهر جامع القرية وشوارع ضيقة متربة يسير بها المواطنون بأزياء تقليدية، وحرص السفير على الإشارة للصورة في بداية حديثه مع الزائرين الأمريكيين، واستعراض الأنشطة الاقتصادية والأجواء العامة في القرية، كمدخل للحديث عن المصالح المصرية بصفة أشمل، ما أضفى بعدا إنسانيا على الموضوعات السياسية، وضاعف من فاعلية الحجج المجردة، وأضفى عليها إلحاحا.

ولم يتردد السفير الريدي وهو في واشنطن في تلقي الاتصالات بشكل شبه يومي من مواطني عزبة البرج، طالبين المساعدة لتسوية مشاكلهم الشخصية والجماعية، وخاصة من أصحاب مراكب الصيد التي تتعرض لمصاعب عدة مع سلطات الدول التي تمارس نشاطها بالقرب من سواحلها، وحرص على متابعة هذه الموضوعات من خلال الاتصالات التليفونية حتى تسويتها.

            ومن أحدث إنجازات السفير الريدي منذ أشهر قليلة افتتاح مكتبة عامة جديدة في عزبة البرج، ضمن منظومة مكتبات مصر العامة (والتي سأتناولها لاحقا). فكان من الطبيعي في ضوء كل ما تقدم أن يطلق اسمه على أحد شوارع المدينة. 

العمل العام رسالة لا مجرد وظيفة

تعلمت منه أن الإنسان (والأمم) ما بين خيارين لا ثالث لهما: طريق النجاح... أو طريق تبرير الفشل. فمن يسلك الأول سيحقق حتما نجاحا ما، ومن يختار الثاني فالفشل رفيقه، والإحباط لن يفارقه مدى الحياة. لكن النجاح لا يأتي مجانا بل بجهد وإصرار وابتكار ومثابرة. إن مفهوم العمل لدى الريدي – من هذا المنطلق – بعيد كل البعد عن الفهم البيروقراطي، فمواعيد العمل مفتوحة والاستمتاع بالعطلات الأسبوعية والرسمية مسألة نظرية نادرا ما تتحقق على أرض الواقع. كما أن العمل مقترن بتحقيق نتائج حقيقية وملموسة، بعيدا عن الإنجاز الشكلي وسياسة سد الخانات. ومن هذا المنطلق يصعب حصر إنجازات الريدي، لكنني أذكر على سبيل المثال لا الحصر إسقاط ما يزيد عن سبعة مليارات دولار من الديون العسكرية للولايات المتحدة أثناء توليه منصب سفير مصر لدى الولايات المتحدة، ومنظومة مكتبات مصر العامة التي ترأسها بعد تقاعده من العمل الدبلوماسي والتي توسعت من مكتبة واحدة إلى ما يزيد عن العشرين في أنحاء مصر كافة.  

   الابتكار والمبادرة

            من أهم ما لفت نظري في شخصية الريدي، ومما ترك أعظم الأثر في مساري اللاحق، يقظته الذهنية وبحثه المستمر عن الأفكار الجديدة من خارج الصندوق، واستعداده الدائم لطرح المبادرات الجريئة والطموح من أجل تحقيق المصالح القومية، فإعفاء الديون الأمريكية على سبيل المثال كان مسألة بالغة الصعوبة والتعقيد، فإعفاء دولة أجنبية في الوقت الذي عانى فيها المزارعون الأمريكيون من ديون متراكمة لا يعفيهم منها أحد وتدفعهم للإفلاس... اعتبره البعض خيالا غير قابل للتحقق على أرض الواقع، لتدخله مع  قضية شائكة على صعيد السياسة الداخلية الأمريكية، لكن الإصرار والمثابرة جعل من المستحيل واقعا.

كما أن التوسع في منظومة مكتبات مصر العامة بهذا الشكل الكبير، وفي غياب خطة واضحة للدولة في هذا المجال، تطلَّب أيضا جهدا به الكثير من الابتكار والبحث عن مصادر التمويل التقليدية وغير التقليدية.

وأضيف إلى ما تقدم دور السفير الريدي في إنشاء المجلس المصري للشئون الخارجية (على غرار مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في نيويورك) والذي أصبح في وقت سريع أحد أبرز مراكز البحث المصرية والعربية في مجال العلاقات الدولية، وأحد المحافل المهمة للحوار الموضوعي العميق حول المصالح المصرية وتفاعلاتها مع الإقليم والعالم، وطرح السردية المصرية في حوارات  مع المؤسسات البحثية العالمية.

ولا يفوتني هنا أن أشير سريعا لحرص الريدي على توطيد علاقته كسفير لمصر في واشنطن بكافات قطاعات المجتمع الأمريكي سواء في العاصمة واشنطن أو سائر الولايات الأمريكية، وبالقيادات السياسية على المستويات الفدرالية والمحلية، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر اهتمامه بالقيادات الأمريكية من أصول إفريقية مثل تجمع أعضاء الكونجرس من الأصول الإفريقية Black Caucus ، والقس جيسي جاكسون وتحالف الأقليات الذي شكله، ولم يكن اهتمام مصر كبيرا بهذه القطاعات قبل الريدي، ولمست تقديرهم الكبير له بعد عقود عندما تشرفت بأن أكون سفيرا لمصر لدى الولايات المتحدة – عند قيام السفير الريدي بزيارة لواشنطن في إطار وفد للمجلس المصري للشئون الخارجية لشرح الموقف المصري في أعقاب ثورة 30 يونيو – وحرصهم على استقبال الوفد والاستماع إلى الشرح اللبق والدقيق الذي طرحه. وندرك الآن مدى تأثير هذه المجموعات على الموقف الأمريكي بالنسبة لقضايا المياه والتي تعتبر على قمة أولويات أمننا القومي، وأطرح هذا المثال للتدليل على قيمة التفكير المبتكر السباق، والذي يظل تأثيره فعالا لعقود.

ولست هنا بصدد استعراض النشاط الدبلوماسي الكبير الذي قام به السفير الريدي في جوانبه السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، والذي تناوله في كتابه المهم "رحلة العمر" ويعد مرجعا دبلوماسيا شاملا، وأكتفي  بالقول بأن السفير الريدي من وضع الإطار المؤسسي للعلاقات المصرية الأمريكية، والذي ظل على حاله من الثمانينات وحتى اليوم.       

العمل الجماعي وإتاحة مساحة للحركة لفريق العمل

            يمتاز الريدي – بخلاف التوجه السائد للإدارة المصرية بصفة عامة – بالاهتمام بتكوين فريق عمل متجانس ومتعدد الكفاءات في الوقت ذاته، يحرص على انتقاء أعضائه بقدر كبير من التدقيق، ثم يتيح الفرصة لكل منهم بأن يجتهد ويبتكر من أجل تحقيق الأهداف المتفق عليها. وأذكر اندهاشي – وامتناني الشديد – عندما كان السفير الريدي يكلفني بإلقاء الكلمات في الجامعات ومراكز البحث وأمام التجمعات الأمريكية المختلفة نيابة عنه، بل والحديث أمام الصحافة والظهور على شاشات التلفزيون، فضلا عن إطلاق يدي في إجراء المقابلات مع المسئولين الأمريكيين على مختلف المستويات. ونتج عن هذا التوجه أن كانت السفارة المصرية في واشنطن بقيادته خلية نحل لا تكل ولا تمل لخدمة المصالح المصرية وإعلاء صورة مصر في الخارج، وخرج من هذا الفريق الذي كونه الريدي في واشنطن وزيرا خارجية لاحقان (الوزيران محمد العرابي ومحمد كامل عمرو) وعدد كبير من كبار سفراء الوزارة.

العطاء لا يتوقف بانتهاء الوظيفة أو بتقدم السن

            كان بإمكان السفير الريدي عند تقاعده من العمل الدبلوماسي في أوائل التسعينات من القرن الماضي أن يستمتع بحياة هادئة بعد سنواته الطويلة من العطاء، لكنه رسم لنفسه مسارا جديدا للخدمة العامة، واتجه فورا إلى الفكر والثقافة، إدراكا منه لقيمتهما الكبرى لبناء الإنسان المصري، خاصة في مواجهة تيارات ظلامية أخذت تنخر في عقل المجتمع ووعيه، فتح لها الباب التدهور المطرد في مستوى التعليم، فكانت الرسالة الجديدة التي اختارها الريدي لا تقل في أهميتها عن رسالته السابقة من حيث تحقيق المصالح القومية للبلاد.

ومن حظي أن أتيحت لي الفرصة ليس فقط للانضمام لعضوية المجلس المصري للشئون الخارجية والمشاركة في أنشطته المهمة المتعددة، لكن أيضا للمساهمة في أنشطة مكتبة مصر العامة التي هي شعلة من العطاء والحيوية، وأكثر ما أبهرني في هذه المنظومة ليس فقط نطاق وتعدد أنشطتها في أنحاء مصر بما يناسب كل الأعمار والاهتمامات، وإنما أيضا حجم التجاوب معها والاستفادة منها من قبل آلاف الأسر المصرية من كافة المستويات الاجتماعية، وهي ثمرة جهود السفير الريدي وفريق عمله لأكثر من ثلاثة عقود.       

وختاما أتمنى أن يدرك الجميع أن النجاح مفهوم أبعد من مجرد تحقيق المصلحة الذاتية، بل يمتد بالضرورة إلى المساهمة بإضافة قيمة حقيقية لصالح المجتمع، وأن القدوة لا تتمثل في تحقيق النجاح لحد ذاته، وإنما في الرسالة التي يتركها الإنسان للآخرين، ليستفيدوا منها ويبنوا عليها، وخالص التقدير والإعزاز لأستاذي وأستاذ الأجيال السفير عبد الرءوف الريدي.