مضارب الأهواء لإدوار الخراط

صدرت المجموعة القصصية " مضارب الأهواء "للكاتب الكبير إدوار الخراط فلم تلق العناية الواجبة في ظل موجة الاهتمام الطاغي بالرواية , كأنما لم يعد أحد يلتفت كثيرا إلي فن القصة القصيرة . وأذكر في هذا الصدد قول الروائية العظيمة إيزابيل اللندي : " على الكتاب أن يكتبوا الكثير من الروايات ليتعلموا كتابة القصة القصيرة ، لأنها الفن الأصعب ". وقد تعرف الأدب المصري على إدوار قصصيا لامعا معصدور مجموعته الأولى " حيطان عالية " عام 1959 التي أثارت انتباه جيل الستينات إلي أن للقصة دروبا أخرى وأفقا غير الذي حلق فيه يوسف إدريس بكل طاقته . لكن المجموعة الثانية لإدوار الخراط " ساعات الكبرياء "لم تصدر إلا بعد أكثر من عقد من الزمن سنة 1972 ، وظهرت مجموعته الثالثة " اختناقات العشق والصباح " عام 83 ، وأخيرا " مضارب الأهواء " . خلال تلك السنوات أعطى إدوار الكثير لفن الرواية ( نحو أربع عشرة رواية وعشرين كتابا مترجما غير الدراسات النقدية ) ، وفي تلك الأثناء احتفظ إدوار الخراط بلمعته ومذاقه الخاص كأحد ألمع كتاب القصة القصيرة .

وتضم مجموعة " مضارب الأهواء " الصادرة عن دار البستاني 14 قصة قصيرة تترك كلها انطباعا واحدا : أن إدوار الخراط قد تخلى – أو أنه يتخلى - عن حرصه القديم الشديد على جرس كل كلمة ، وعلى كثافة البناء إلي نوع من الشعور بالأمن والطمأنينة ومن ثم البساطة التي قد لا يحبها إدوار الخراطذاته كثيرا ، رغم أن هذه البساطة تختلف من كاتب لآخر . سأضرب مثالا بقصته " وسط البلد " من مجموعته الأخيرة والتي يحكي فيها عن التغيرات الاجتماعية والسياسية والنفسية التي طرأت على وسط البلد من خلال ذكريات تقفز بنا من زمن لزمن ، ومن قيم لقيم ، ومن حال لأخرى . يبدأ إدوار القصة على لسان الراوي قائلا : " ليس من المجهول تماما أنني اسكندراني المولد .. ، لكنني اليوم سأحكي قليلا عن وسط البلد في القاهرة " . وهكذا يحكي الخراط ببساطة دون أن يستنكف اللجوء إلي أحد أبسط أساليب السرد المعروفة . وتختلف لغ ة إدوار كثيرا فيكتب : " العادي والماشي " ، و " سكر سنترفيش " ، و " انفتاح السداح مداح " وغير ذلك . هناك أيضا قصته البديعة المسماة " في حارة فرط الرمان " حيث يرسم إدوار ببراعة مذهلة صورة امرأة هي قطة أو هي " لبؤة شرسة ترد على الشتائم البذيئة بأوقع منها " حين يتربص الأولاد بابنها عمر ، فتدوي في الحارة صرختها " يادهوتي " ، ثم تمزق فتحة جلابيتها لترهب الحارة بصدرها شبه العاري ، إلي أن يأتي قريبها الحاج عوض الفنجري فيؤدبها ، فإذا بها تتحول في اليوم التالي إلي سيدة مهذبة تطل على الجيران بفستان مقفل وتصبح عليهم بصوت سلس وناعم ومستريح . يضع إدوار الخراط يده في الواقع على تحول ظاهري مبالغ فيه لجوهر لم يطرأ عليه أي تغير ، فيثير بذلك الدهشة الممتعة التي تنجم عن عمل فني حقيقي . هناك أيضا قصته الجميلة المسماة " كوميونة في ملوى " . وسنجد في الوقت ذاته تلك القصص التي مازالت تعكس إحساس الكاتب الشديد بالمسئولية خلال الكتابة إلي الحد الذي يثقل عليه هو شخصيا كمبدع . من تلك القصص : " تراكيب على الهامش" وغيرها . إن ميل إدوار الخراط للتخفف من عبء اللغة قد اتضح من قبل في روايته السابقة " طريق النس ر " ، ومكنه هذا الميل من البقاء روائيا في متناول يد القراء كل حسب فهمه ، وفي الوقت عينه ذلك المبدع صاحب القاموس اللغوي الخاص والفريد الذي أثرى اللغة العربية .

وفي اعتقادي أن إدوار الخراطيمر بلحظة خاصة ، يواصل فيها من ناحية التجريب الأدبي للانتقال بالكتابة إلي مستويات أعلى واكتشافات جديدة ، لكن صوتا باطنيا عميقا يدعوه بكل ما له من خبرة أن يكتب دون ذلك الاهتمام المرهق بالكتابة . وأظن أن تلك هي اللحظات التي أثمرت تلك القصص الجميلة الباهرةمن نوع " في حارة فرط الرمان " . إنني أدعو الكاتب الكبير لكي " يترك نفسه " لتكتب ، ذلك أن هذه النفس مسلحة بخبرة طويلة وخاصة ومتألقة ستحميها تلقائيا من شبهة الأشياء التي نقرأها كثيرا دون أن نتوقف عندها .

ينبغي القول أيضا إن ثمة جوانب عديدة قد لا ينتبه إليها الكثيرون في عالم إدوار الخراط . فقد تعرفت إليه شخصيا عام 1967 ، أو بعد ذلك بعام في منظمة التضامن الأفرو – آسيوية ، وكنا ثلاثة نعمل هناك : الراحل العزيز أمل دنقل ، والشاعر أحمد فؤاد نجم ، وأنا . ومنذ ذلك الحين وعلى مدى ثلاثين عاما لم تنقطع علاقتي بهذا الكاتب الكبير . وكانت الأيام تضاعف من إعزازي له ، وتقديري لدوره الأدبي والثقافي . وعلى امتداد علاقتي به ، أنا أو غيري ، كان إدوار الخراط مستعدا دوما لقراءة أعمال الجميع باهتمام وتدقيق كبيرين ، وإبداء ملاحظاته ، ومد يد العون ، أيا كان مستوى الأعمال بروح من يحب أن يقول كلمة نافعة وخيرة للعالم ولمن حوله . كان إدوار ومازال يهبني دوما شعورا بتقديسه للعمل كقيمة إنسانية كبيرة . وقد أدهشني بمواقف عديدة . ففي الستينات كان إدوار الخراط يعمل مع الكاتب الر احل يوسف السباعي ، ولكنه لم يكتب حرفا واحدا عن يوسف السباعي ، لكي لا يحسب ذلك عليه تملقا أو نفاقا . وعندما كان الاتحاد السوفيتي قائما ، كان الكثيرون يطبلون ويكتبون عن الدولة الاشتراكية والثورة والعالم الثالث ، حتى أصبح ذلك حرفة ، ومصدرا للتكسب . في تلك السنوات لم يكتب إدوار الخراط شيئا عن ذلك ، لكن عندما زال الاتحاد السوفيتي ، وانطفأت المصابيح الكبيرة وانحسرت موجة الكتابة عن الاشتراكية ، خرج إدوار الخراط في هذه اللحظة بالذات ليعلن في مقال له عن إيمانه العميق بالاشتراكية ذات الوجه الديمقراطي الحقيقي . أذكر لكاتبنا أيضا موقفه المعارض لتطبيع العلاقات مع إسرائيل والذي أعلنه بوضوح في مجلة إبداع منذ أربع سنوات، كذلك مواقفه الأخرى الكثيرة من كل قضايا الوطن الرئيسية . في الاحتفال بعيد ميلاد الخراط في العام الماضي ، أشار إدوار إلي قضية العراق قائلا إن لديه إيمانا عميقا بأن المستقبل للشعوب وأن للطغيان الأمريكي نهاية . أقول كل هذا لأن تلكالتفاصيل غير بعيدة في تقديري عن جوهر الكاتب الكبير الذي أسعدني الحظ حين تعرفت إليه ذات يوم منذ ثلاثين عا ما ، ومازلت أحس به حين أراه أو أقرأه أنني إزاء كاتب وإنسان كبير حقا ، جدير بالمكانة التي يشغلها في تاريخ أدبنا ووطننا .