مسافة : اصبع صغير

               اصبع صغير يضغطُ بقوة على جرس البابِ ... ويسْتَمرُّ الرَّنينُ بشكل مُتَقطِّعٍ ... يحبِسُ الأنفاسَ ...

    تَفاجأَ ، اعتلاهُ الذُّهولُ ، تجمعت في عينيه آثارُ الاندهاشِ الجامحة وتكوَّرَتْ على جبهتهِ حبَّاتُ العرقِ والمرايا وقت تشَقَّقَتْ على وجهه ، صوت الجرسِ يهُزُّ ، أحشاءَه ، يمزِّيرقُ صدره ، منظره ، أحٍٍظر ، أحداً ومر وليس ثمَّة أخرى. لستُ هُنا..ثم قال بهمس: من سيأتي في هذه الساعة ... صورة قاسية على السرير ، وصاغَ تقاسيم وَجْهٍ وأبدع لهُ ملامِح البابَ إلى قناع آخرَ ، وسار متسلِّلاً ، نحو الباب ...

سبع دقائق..عشر دقائق..انتهى القلق ..! ثم عاد أدراجَهُ ، قادَتْهُ خُطاهُ المتثاقلةُ إلى غرفتهِ من جديدٍ ، ماذا يربطه بهذه الغرفة سوى النوم والوحدة القاتلة والوحشة التي لا تطاق ...؟! تهاوى على جانب السرير المهْمَلِ والمحاطِ بفوضى عارمة..الملابس والأغطية والجرائد المتناثرة هنا وهناك ، مشاهدة لا يقرأها إلا من بابِ الفُضُولِ والتَّسليَةِ ..! يسترد بعض أنفاسه المتقطعة ، تبعْثَرَ ليدفن ألمه ، ثم صغيرًا ، تقلَّبَ في فراشه ، ثم استئنافًا ، بينما كان نفسًا ، تفكيره يتسلل إلى نفسه ، بينما كان نفسه يحاول أن يستشفى منه ... كمن عاش وحيداً وسيموتُ وحيداً !! لا أَحَدَ من أولادهِ الثلاثة ... تفاجؤه صورة أولاده حينه أطفاله ذو المرايا السرير ، عيناهُ تحدقان فيها ، طفت فوق ركام أفكاره صورٌ عديدةٌ ، زوجته المتوفاة ووجوه أطفاله وابنساماتهِم ..    

    ثم يصيرُ السَّقفُ شريطاً عميقاً حسقاً لبحرٍ متلاطمِ الأمواجِ بين ما ينتظر وجزر ... لم يعهد نفسه من الََّذينونَ ، فهو على الدَّوامِ لم ينتظر أحداً ، ولا من الَّذينَ يُرتِّبونَ لقاءً ، ولا من الَّذينَ يقولون ودا راهْ ، رافعه على سفر ، وهو دوما يطهر بالحبِّ ساعة اللقاء وساعةَ الوداعِ ... يدرك ثمن مجرد عابر سبيل..كل شيء يعجبه ، ولا شيء يعجِبُه ، وهو ما ولَّى أَدْبَرَ ولم يعقِّب ، مثل نفحة نسيم عليل ، أو ومضة بَرْقٍ خاطف ، في غُدُو ويِّه ورِه مع الريح ... !!

وحين كان يغيب ككل مرة ، لايترك غير كلماتٍ متعثِّرَةٍ مُبعثرةٍ ضائعةٍ وهاربةٍ من الوقتِ مثلَه تماما ، لا أفهمُ منها غير آهاتٍ متناثرةٍ مُنكَسرةٍ ...عن احتياج القلب إلى طفل صغيرٍ كي ينسى أنه يَعيش ، وعن العقُوق ونُكْرانِ الجَميلِ في هذا الزمان المتعهر ، حتى أولاده انسلُّوا من تحتِه في رمشة عين ، الواحدُ تِلوَ الآخرِ ، وهو الَّذي منَحَهُم كلَّ شيء شيء جميلٍ بعد وفاة ، أمهم ، ولم يكن أنانيا شيء كمن الريح ، وولد البكر إلى كندا وتزوج هناك ، ثم لحقه إلى بلاد الغربة ، رحلُوا منذ سنوات خلت ، واتَّسَعَ الشَّرخُ ، تزوجا ومكثا ، وتركوه وحيداً يشيخ بهذا البيت على شفا جرف هار ، يسافر داخله مرات عديدة ، ويتأمَّلُ أصابعَ رِجليهِ الَّتي لم تبرحْ مَكانها منذُ نُقلِ أظافرها ، هبوطه الطريقَ لم تكنْ إلاَّ العناءاء والهباء والعبث طول هذه الرحلة ، صوت الساعة على الحائطِ يؤرِّقُهُ ، ويبعثُ نفسه في الضجَر بيتآبة ، السفر بالطائرةالعنادِ والمكابرَةِ ، مُنتهى الخذلِ أن يكسركَ مَنْ قَضَيْتَ عُمْركَ كلَّه في تفانيهِم ومن أجلهِم ، محاولاً ترميمَهُم ....

            فجأة ، يلتصقُ أصبع على الجرسِ ، لكن الرَّنينَ هذه المرة  دُون هَوادَة ، تهلَّلَتْ أساريرُ وجهِهِ ، خفَقَ قلْبُهُ ، ينظرٌ ويبتَسِم ....