مرثية صدر

هكذا هو دائما الصباح حين أفتح عينى لأنهض أبدو لنفسى وكأنى أنهض من فتحة فى أخر قبر، أظل أخربش التراب والأكفان وجيرانى من الجثث وأخرج للنهار..أنظر من نافذتى المطلة على حديقة جميلة للحياة وأحمد الله وأنا أبتهج بأننى مازلت فعلا على قيد الحياة. وتؤجل بهجتى هذه أية رغبة فى الاستسلام، فى جلسة الكيماوى دخل جسمى معركته الضارية مع آثار المحلول المزود بكم هائل من السموم لطرد المرض . حقق انتصارا بعد انهاك و وتقيحات فى الحلق والشفاه ورغبة ملحة فى التقيؤ، وفقدان الشهية على الرغم من وصايا الطبيب بأهمية الطعام وخاصة البروتينات أحد أهم "الميكانيزمات" الدفاعية.. لم أعد أتعامل مع الكيماوى كعدو يستهدف الفتك ببقية أجهزة جسمى الحيوية، على الرغم مما حدث...

تساقط شعرى عن آخره وشحب وجهى وغامت الرؤية وسرحت درجات من الكآبة فى كيميا الدم والروح لكننى أبدا لم أستشعر بأدنى رغبة فى الاستسلام ..صورتى فى المرايا تذكرنى بكائنات فضائية رأيتها فى فيلم أمريكى فخبأت مرايا البيت بملاءات ومفارش ورحت أتعامل مع صورتى التى ما زالت تحملها الذاكرة.. امرأة جميلة ومبتهجة دائما لأنها ما زالت على قدر مسئوليتها أن تعيش كإنسانة وككاتبة ....

بعد أن تناولت قهوتى وطعام الافطار وتبعهما العلاج، انتابتنى رغبة عارمة فى البكاء، ولا أدرى لماذا وقد تصالبت منذ البداية. عرفت أمى بالمسألة على الرغم من إصرارى ألا تعرف. فجاءت بوجه باك وجسد تقلص فى نصفه ووقفت تخفى عنى شيئا.. ضحكت وأخبرتها أن المسألة بسيطة للغاية وأننى أتلقى العلاج، والحمد لله الذى قدر حقا ولطف، وأننى سأتحمل قدرى ..

هدأت من روعها ورحت أداعبها وأمازحها وأمتص ملح الغضب فى عيونها وروحها.. أزعم أن أمى "تربيتى".. منذ وعيت مبكرا على عناصر الظلم والقمع فى بيتنا من أبى وجدتى حتى "بذوره" أخوتى الذكور، كان لابد للمقاومة بالمعرفة.. فعرفت القراءة والكتابة وأنا أعاهد نفسى على تفادى ميراث أمى من الاستسلام والإذعان. حررت نفسى بالقراءة والكتابة ، لكنها لم تصلح كأدوات لتحرير أمى من قهر أبى، لكننى ظللت أحررها عن بعد ..كنت أتعامل معها كطفلة كبيرة أساندها وأنا أرى أبى مازال يمارس عليها سطوته حتى بعد أن تجاوزت السبعين..

فى التليفون كل صباح أدعها تحكى وتحكى لتتطهر من غيمات النفس والروح.. كانت فاتورة التليفون تأتينى بمبلغ مفجع. فأمى حكاءة من الطراز الأول وكان زوجى يجزم لى بأنها هى "المبدعة" وأنا أنقل عنها وكنت أوافقه..

كانت تسرد حكاياتها مع أبى وأنا أخفف عنها بأن مرضين لديها.. السكر والضغط ولن تكون نهاية العالم لو صار لديها ثالث،فعليها إذن أن تتعامل مع قهر أبى باعتباره المرض الثالث فتروضه كما روضت من قبل الضغط والسكر.

كانت أمى تحدق فى وجهى وتبتسم وكأنها تستحلب كلماتى.. ثم تنهض لتشد السجادة وتدخل فى الصلاة.. وحين تختم الصلاة تظل تدعو لى بأن "يفتح الله لى باب ما عليه بواب ويجعل فى لسانى سكرة وفى وجهى جوهرة ويرزقنى بـ سرة البخيل".. كنت أضحك وأنا أقول لها..

" ركزى والنبى على سرة البخيل "

لم يعد للبخيل "سرة" صار له حساب جارى فى البنك ودفتر شيكات أو حساب فى بنك اجنبى ببصمة الصوت أو هرب بأمواله خارج البلد..

أعلم أننى حين أغادر بيت أمى ستبدأ يومها مثل فراشة.. ترى الحياة فضاءً مفتوحا تغرد فيه كل الطيور، فتحب الحياة وتغدق على جاراتها البائسات من حلو حديثها وتتابع ماتشات الكورة ونشرات أخبار العالم وتبكى للذى يحدث فى العراق.. ثم تتوقف لتسألنى:

ـ أخبار سليم إيه..

ـ كويس..

ـ بتتكلموا

ـ لأ..

ـ أمال عرفتى منين انه كويس

ـ طالما ماعنديش أخبار سيئة يبقى كويس..

ـ تفتكرى عرف اللى حصل ؟

لا أرد فترثى لما يحدث فى فلسطين وهى تحرك حبات سبحتها..

ـ أخبار نادية الفلسطينية إيه..؟

ـ اتقبض عليها وهى داخلة حيفا تعزى فى أختها اللى ماتت فى السجون الاسرائيلية ...

ثم تواصل أمى مرثياتها لما يحدث فى العالم من كوارث ونكبات ثم تعرى رأسها ويفاجئنى شعرها الأبيض الذى تخفيه دائما تحت طرحتها البيضاء وتدعو على بوش وشارون.

حين أقامت معى بعد اجراء الجراحة كنت أحس أنها تؤذى مشاعرى بنظرات الشفقة التى تلاحقنى بها طول الوقت وأنا فى فراشى خائرة القوى .. أتعامل مع كل أشكال الوهن والألم على إنها اجراءات أو مراحل قصيرة وسوف تنقضى....

كنت أفر من نظراتها وأمسك بالـ "ريموت كونترول" وأحرك العالم بين يدى فأرى الدنيا على قنوات الديش تتقلب ما بين الدم والعنف والقتل والتفجيرات والزلازل والسيول والتعذيب فى السجون هنا وهناك ثم أركز لأرى سينما جميلة عربية وغربية ومناقشات حول كتب جديدة لم تصلنى وقد أفقدنى المرض القدرة على التركيز فأركز مع المتعة البصرية وبعض حلقات من الدراما وبرامج "التووك شو" على الرغم ما تحويه من أوهام وأكاذيب..حيث الغلبة دائما لصاحب الصوت الأعلى واللعب بأحلام الناس ومشاعرهم الدينية..

ضبطت أمى متلبسة أكثر من مرة بإفشاء سر آلامى لأخوتى وحالة اليقظة التى يبعثها الكيماوى فى نفسى وعقلى.. لكنها يقظة مشلولة .. منزوعة القدرة على أى فعل. كنت أغافلها وأفتح الكمبيوتر وكأننى أفتح عقلى لأطمئن على ما به رغم دوامات المرض والألم.. بعد وقت تكشف لى أننى أصبح قوية على نحو ما حين أكون وحيدة، فما أن نوهت أمى إلى أنها ستذهب لتأتى بعلاجها حتى باركت خطواتها.

وأنا وحدى يصبح بمقدورى استنفار ما بداخلى من قوى لترميم الأنقاض، فأنهض عن فراشى وأنظف المطبخ وأعد وجبة وأشرب كما هائلا من الماء.. قرأت أنه يخلص الجسم من الرواسب السامة للكيماوى والتى يسبب بقاؤها منتهى الإيذاء للكبد والكلى.. أو أجلس فى الشرفة لأتابع كما هائلا من العصافير ـ جيرانى الجدد ـ أو أجلس أمام الكمبيوتر وأنقح أحد النصوص أو أكتب عن كتاب أو تأملاتى لإحدى الظواهر وأرسل كل هذا للنشر لأننى حين أرى اسمى على الورق المطبوع فى جريدة أو مجلة أتأكد أننى مازلت على قيد الحياة وبداخلها وفى قلبها وبين ثناياها وطياتها، ربما لأننى اختزلت قضية وجودى كله فى الكتابة ...

اليوم واليوم فقط تحدونى الرغبة فى البكاء فى حضن أحد..

اتصلت بإحدى صديقاتى اللائى أثق فيهن وأخبرتها عن حاجتى لليكاء فضحكت وقالت..

ـ احنا لازم نجوزك راجل جميل وابقى عيطى براحتك..

تذكرت صديقى الجميل والذى اختفى لأسباب تخصه. كانت أمنية عمره أن يبكى على صدر امرأة يحبها..

سمعت انه تزوج وأنجب وطلق زوجته لسبب بسيط ـ هكذا أجزم لى بعدها ـ أنه أبدا لم يستطع أن يبكى فوق صدرها.

أخبرته أن الأيام القادمة حتما ستبكى الرجال لأن النساء بكين بما يكفى وأن أهم جماليات المرأة أن يكون لها صدر "فول أوبشن" يمكن الرجال من البكاء عليه...أحمد الله أنه تم استثنائى على نحو وآخر.. لذا فقد رحت أتجاهل كلمات مثل الصدر الأعظم ومستشفى الصدر ومرتضى الصدر ورأس سدر..

فى ذلك النهار لم أجد أحدا أبكى على صدره فابتسمت، فربما يكون البكاء قد اختفى أو انقرض أو فقد تاريخ صلاحيته ...