مختارات من ديوان شمس القاهرة ثلوج نيويورك لفرانسوا باسيلي


شمس القاهرة

دبت علي أرض مصر خطاي
ودبت بقلبي مصر
ومشت تتبختر في ردهات صباي
خففي الوطء يا مصر هذا جسدي
والفجر في عينيك غدي
وما لك بين العاشقين سواي

في القاهرة
لهوت مع النخل والنحل والنيل
وفي نزق العشق في لفحات الهوي
لثمت فم الشمس فاحترقت شفتاي
وسال الكلام كفولاذٍ مصهور
قلت لا بأس، لا نور
إلا من النار
ولا عشق إلا بمحرقةٍ
تفني العاشق في المعشوق
والناطق في المنطوق

واحترقت شفتاي بما لا يقال
ففي القاهرة
لا يقال سوي ما يقول الدعاة
أو ما يقول الطغاة
أو ما يقول الغزاة
وأنا قلت ما قلت دون أناة
ودون مراعاة
ومن عرف الحق كيف يقول سواه؟

فاحترقت شفتاي
بما ظل مرتعشا في دمي
من سر الأسرار
قلت لا بأس، لا نور
إلا من النار

وحين أتي الوقت ودعت أهلي
وعانقت الشمس علي مهلي
ودخلت طقس الإحتضار

هاجرت
والهجرة يأسٌ
يغلفه أملٌ
ونوعٌ فريدٌ
من الإنتحار

هاجرت
وشمس مصر في يدي
والأرض في جسدي
والنيل فاض في سريري
وقال ماء النيل لي
سيظل يحرقك العطش
وتظل تسمع في المنافي
أنات دمعي، وخريري

……………………………………

أدخليني طقس شهوتك

قلتُ لزوجتي الأرض
يا زوجة
أشعلي الأعياد فى جسدي فأعلو
ثم أهبط مثل موجة
بيننا بحرٌ
وسفنٌ محطمةٌ
ووردٌ ذابلٌ في يدي
فاقطفي من بلدي
زهرة كتان وكوز ذرة
لتخبزي خبزنا كفافنا
وتنسجي ما اهترأ من جسدي
أدخليني
طقس شهوتك الدفينة
واعطني
قلبا قوياً
كالضغينة
وعتياّ
كالضغنية
فلربما أصمد للذبح
علي أيدي الصحارى، والنخيل المر، والمدن الرهينة
ولربما أصمد للعيون الساهرة
في إنتظار نجمٍ لا يجيء
ولربما أصمد مرة
لبكاء القاهرة
وأنا أرمي بنفسي
فوق سيف العصر
شاهداً:
فى البدء
كانت
مصر.

……………………………………

زهرة لوتس تقوم من النوم

دعيني أدخل التاريخ من أضيق باب
وعلى أسوارك العليا أخر مضرجا
من وطئة اللمسات، من أناملك المشعة بالعذاب
أو على عتبات هيكلك المدمى بالذبائح والمدائح
آتيك أحمل ناي قلبٍ مثخنٍ بالمحن الكبرى
وآيات الغياب
فعلى أي ذراع أرتمي مستسمحا؟
وبأي كفٍ أمسح الجمر الذي في وجنتيك
وأزيل عن قدميك أشواك الهضاب؟
وعلى أي سحاب
أبصر الوحي الذي أوحى لقلبك بالتراتيل
وأقرأ سر بعثك في أي كتاب؟
وعلى أي ضفافٍ أستريح وليس هذا النهر نهري
ولا أرض المنافي هذه أرضي
ولا المدن الغريبة والقباب

دعيني أعبر البحر الذي بيني وبينك
واليباب
هل أبدأ التاريخ من حيث انقضى؟
وأعيد ما عبرته أزمنةٌ وواراه التراب ؟
أيعود يوماً ما مضى ؟!
سأمر من أضيق باب
للمخدع السري حيث رقدت دهرا
في حرير للأساطير العذاب
وأركع لامساً ثوب المحبة والرغاب
فتقوم زهرة لوتس من نومها في راحتيك
وتطل شمسٌ من ربى نهديك
ويسيل نيلٌ حاملاً طفلاً جميلاً كالشهاب
فأقول هذا وعدك الآتي
وسر الموت والبعث
انهضي
يا مصر
للفجر من أوسع باب

…………………………….

الخروج من الشمس

كان طقس الخروج
من حضن الشمس
مسيرةً جنائزية
بلا مشيعين
جسدٌ يخرج من جلده
ويلبس ثلج البلاد القصية
وروحٌ يظل مسجي
علي نخلات الحنين
تذبحه ليلةٌ شرقية
فينزف في كل حين

فكيف ستهدأ
وليس لرأسك أين يميل ليرتاح
وما نفع أن تسمع الآن
كلمات المؤبنين

من أغمد هذي الشمس بقلبك؟

قد ترتاح
لو تخرج هذي الشمس من الجسد الممسوس
بصلاة خروج الأرواح

قد ترتاح
لو تطفيء هذي الشمس
فلا يزعجك صباح
أو لو تنسي ما يتوهج من جمرٍ وجراح
في رئتيك

قد ترتاح
لو تعتنق الثلج دثاراً وعقيدة
وترتل أسماء الأسهم
علي عتبات الوول ستريت
وتبيع صكوك الأوطان المنهوبة
للبنك الدولي

يمكن أن ترتاح
في غمضة عين
لو تختار مكانا آخر
غير البين بين
فتصبح إما سيفاً غربياً مسلولا
أو قلباً شرقياً مقتولا
فلن ترتاح وأنت من الإثنين

………………………………………………………

زهرة اليورانيوم

نيويورك جسدٌ
رمي بنفسه علي جسدي
يذوب بي في لهب الجوع والجمر
وينهشني في شهوة الريق للخمر
نيويورك جسدٌ وأنا أخلع جسدي وألبسه
جسدان لا يلتحمان
إلا علي فراش الريح والهذيان
تسوقني وأنا مكبل القدمين للميدان
في بغداد أو في الطريق إلي دمشق
وتقول لي أنظر إلي التاريخ يهوي
والأساطير شظايا
وانتهت كل المعارك بالهزائم
لم يبق غيرك
فانزع الأحلام عنك
واحصر علي الآي باد أعداد الغنائم
ماضيك سجنٌ
وأنا أفتح لك
أبواب عالمك الجديد فلا تقاوم

أمشي غريبا في الفيفث أفنيو
أجر جسدا رصعته الشظايا
وروحا معلقا في زجاج المحلات
يباع كل يوم بسعر مختلف
حسب سعر تغيير العملات
في الوول ستريت
وفي آخر اليوم أجلس في إعياء
في الحانة السفلية
حيث يبتلع الغرباء الليل
ويبتلع الليل ما شاء من غرباء
قادمين من أنحاء الكرة الأرضية
يجرون أحلام المعذبين في الأرض وأقدام الضحايا
شظايا هنا، وهناك شظايا
لا سماء تعذبنا في نيويورك، ولا أرض
تطردنا، لا خطايا
تؤرقنا، لا رجاء
إلا رجاء إبليس في جنةٍ مفقودة
ورجاء الفاتحين في حلمات السبايا

نيويورك
كم مرة تغسلين يديك
فتبقي عليها الدماء
مجمدةً، وبكفك أسماء من سقطوا
من هوة الجنة للهلاك
أإسمي هنا أم هناك؟
لا سماء لي هنا، ولا أرض لي هناك

نيويورك
ليس في ليلك ليلٌ ولا شعراء
فأين سأذهب هذا المساء
وأين سألقي بأعباء هذا الجسد
وتراتيل الروح؟
نيويورك يا أرض الموعد
كم مرة عبرت ثلج الفجر لا أحد
يمسك يدي
لكي أعود آخر النهار أرتعد
كم مرة أردت أن أهد المعبد
مثل شمشون علي رأسي وأعدائي
ولكني بلا أعداء
ولا أكره إلا
ما ترسلين من صحائف الكيمياء
وأرغفة اليورانيوم
للجائعين في بلاد البسطاء
لماذا تحولينهم إلي أعداء
وتمزقينهم أشلاء
وهم رفاقنا وأهلنا
ثم تسألينني
لماذا يكرهوننا؟

كم زهرة يورانيوم ستدفنين في جسدي
وكم صاروخ عابر للقارات
ستطلقين علي بغداد أو دمشق أو قري بلدي
يا نيويورك
كم أورشليم قد التهمت اليوم
يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين
أي فرحٍ تفرحين
وأنت تقصفين العرس والمهنئين
وعلي كم من الأجساد ترقصين
رقصتك الوحشية
كم سحابة ستنطح الناطحات
فتنزف كل غيمةٍ دما
علي رؤوس الفقراء
الممددين جثثا أحياء
في الشوارع الخلفية

من قبوٍ في نيويورك
تخرج قديسةٌ عاهرة
ترقص رقصتها الغجرية
وتأخذني للسطوح بأعلي بناية
وتشير إلي الأرض قائلة كل هذه لك
كل الممالك فوق الجبال وخلف السفوح
في مقابل أن تنزع الروح
عنك، ولا تشتكي أو تبوح
بسرٍ ولا بسؤال
وتدخل منطوياً في ردائي
تطيع ما أقول
وتعد لي في ليلة الرقص حذائي
فأقول يا نيويورك
أنت لم تعرفي ما تركت ورائي
في مصر من طعنةٍ غائرة
ولم تقتفي قطرات دمائي
علي طرق القاهرة
قلت يا نيويورك أنت لم تعرفي القاهرة
ولم تعرفي وجع القاهرة
ولم تعرفي فرح القاهرة
ولم تعرفي وطني وسمائي

وقفت علي شط نهر الهدسون
وقلت يا هدسون أنت لست النيل
ولا أنت تعرف أي إلهٍ قديمٍ هو النيل
ولا شأن لك
بمن يجلسون علي شاطيء النيل
ولا ببكاء المحبين في المواويل
لا الماء ماء
ولا الليل ليلٌ هنا
والزمان ليس الزمان الجميل

مصر ليست هنا
وأنا لست في مصر
إذن كل شيءٍ لديا قليل

……………………………….

تعلمت مِنكِ القيامة

تعلمت مِنكِ انتظار الحمام الذي لا يعود
والسير في الليل من غير قصد
أداوي عواء الجسد

تعلمت منك انتظار المحبين
الذين يروحون في فرحةٍ
ويجيئون في فرحةٍ
في صباح الأحد

تعلمت منك انتظار القطارات
والحافلات التي تتحرك بالراحلين
قبل اكتمال العدد

تعلمت منك انتظار المواعيد
حين تأتي محملةً بالمزيد
على غير موعد
وحين تضيع على غير موعد
فنفقدها للأبد

تعلمت منك مرافقة البرق والرعد
والرحيل بدون أحد
من بلدٍ لبلد

تعلمت منك الكثير
من مفردات الغياب
إلى أن رأيت بعينيك هذا السحاب
يسيل على جسدٍ كالغدير
وأبصرت شمسا وعرسا
إلى آخر الدهر يمتد
رجعت كطفل صغير
لقيطٍ بغير أحد
أبكي
وأحبو على ربوة النهد
وأنت كأنك أمي
تمدين لي اليد في المهد
فأسأل أن تأخذيني بحضنك
لكي تسمعيني الأساطير
وإن مت بين يديك من الجوع والبرد
أسأل أن تنفخي من لهاثك في صورتي
وتضمي إليك الجسد
فيولد لي في الفضاء شهابٌ منير
وأحيا لأمنحك العهد
إني سآتي قريبا
على سحب الوعد
أحمل باقة وردٍ ومزامير
لأني تعلمت منك الكثير
تعلمت منك المحبة، والحق، والنور
وتمنيت لعينيك ألف سلامة
تعلمت كيف أموت على ساعديك
وتعلمت القيامة