مختارات شعرية لمحمد الماغوط


المرأة التي أحلم بها
لا تأكل و لا تشرب و لا تنام
إنها ترتعش فقط
ترتمي بين ذراعيّ و تستقيم
كسيف في آخر اهتزازه

* * *

آه. . . أين هؤلاء النسوة الرخيصات
من صبايانا القاسيات الخجولات
حيث لحمهن قاتم و مريح
كسرير من مطر
كسرير من الدمع و المطر
حيث القش و الندى و السمّاق
يفور من حلماتهن
كما يفور الدم من الوريد إلى الوريد

* * *

المرأة هناك
شعرها يطول كالعشب
يزهر و يتجعّد
يذوي و يصفرّ
و يرخي بذوره على الكتفين
و يسقط بين يديك كالدمع

* * *

النهد هناك
مجهول و عائم كالأحراش

ينفتح أمامك. . . كغيمة
كغيمة يخترقها عصفور
أينما ذهبت في الفضاء الواسع
كروم و ينابيع و أمطار
حقول و نسيم و شرف
أما هنا
فللمرأة رائحة الدم و عبير المقصلة
النهد هناك صغير كالزهرة
و النهد هنا كبير كالرأس

* * *

كن وحيداً في الريف
بين القمر و الأكواخ
و خذ فتاتك الخجولة وراء الغدير
تحت شجرة
أو غراف تعشش فيه النجوم و العصافير
هناك تنفض عن نفسها الغبار
تغسل وجهها و ساقيها بالراحتين
تمد لك فراشاً من العشب و الخرز و صرر الطعام
و تنبض بين ذراعيك حتى الصباح
! ! دون أن تلتقي عيناك بعينيها
قد تنال منها حتى أحشاءها
! ! دون أن تلتقي عيناك بعينيها

***

أيها السائح

طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيده..
وطني بعيد.. ومنفاي بعيد
أيها السائح
أعطني منظارك المقرِّب
علَّني ألمح يداً أو محرمةً في هذا الكون تومئ إليّ
صؤّرني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
وأكتبْ على قفا الصورة
هذا شاعرٌ من الشرق

ضعْ منديلك الأبيض على الرصيف
واجلسْ إلى جانبي تحت هذا المطر الحنون
لأبوح لك بسر خطير
اصرفْ أدلاءك ومرشديك
والقِ إلى الوحل.. إلى النار
بكل ما كتبت من حواشْ وانطباعات
إن أيّ فلاح عجوز
يروي لك.. بيتين من العتابا
كل تاريخ الشرق
وهو يدرج لفافته أمام خيمته


******

«أغنية لباب توما»


ليتني حصاة ملوّنة على الرصيف
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس (...)
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء (...)
أشتهي أن أقبّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين،
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه،
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمّي.

******

الوشم

الآن
في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء
يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ المارة
سوى الإسفلت
سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو
ولن أنهض
حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين
في العالم
وتوضع أمامي
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..
حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصاناً مزهرة (مرةً أخرى)
في غاباتها
أضحك في الظلام
أبكي في الظلام
أكتبُ في الظلام
حتى لم أعدْ أميّز قلمي من أصابعي
كلما قُرعَ بابٌ أو تحرَّكتْ ستاره
سترتُ أوراقي بيدي
كبغيٍّ ساعةَ المداهمة

من أورثني هذا الهلع
هذا الدم المذعور كالفهد الجبليّ
ما ان أرى ورقةً رسميةً على عتبة
أو قبعةً من فرجة باب
حتى تصطكّ عظامي ودموعي ببعضها
ويفرّ دمي مذعوراً في كل اتجاه
كأن مفرزةً أبديةً من شرطة السلالات
تطارده من شريان إلى شريان

آه يا حبيبتي
عبثاً أستردُّ شجاعتي وبأسي
المأساة ليست هنا
في السوط أو المكتب أو صفارات الإنذار
إنها هناك
في المهد.. في الرَّحم
فأنا قطعاً
ما كنت مربوطاً إلى رحمي بحبل سرّه
بل بحبل مشنقة بحب


*******

وطني

على هذه الأرصفة الحنونة كأمي
أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة
سأنتزع علم بلادي عن ساريته
وأخيط له أكماماً وأزراراً
وأرتديه كالقميص
إذا لم أعرف
في أي خريف تسقط أسمالي
وإنني مع أول عاصفة تهب على الوطن
سأصعد أحد التلال
القريبة من التاريخ
وأقذف سيفي إلى قبضة طارق
ورأسي إلى صدر الخنساء
وقلمي إلى أصابع المتنبي
وأجلس عارياً كالشجرة في الشتاء
حتى أعرف متى تنبت لنا
أهداب جديدة، ودموع جديدة
في الربيع؟
وطني أيها الذئب الملوي كالشجرة إلى الوراء
إليك هذه "الصور الفوتوغرافية"

****

جزر أمنيّة
أظافري لا تخدش
أسناني لا تأكل
صوتي لا يُسمع
أحلامي لا تتحقق
دموعي لا تنهمر
أليست هذه بطالة مقنعة ؟؟

***

الكل يقلع و أنا ما زلت في المطار

***

كل جراحي اعتراها القِدم ، و أصابها الإهمال
لم تعد دماؤها قانية
و لا آلامها مبرحة
و لا طعمها مستساغا
و لا عمقها مقنعا
يجب إعادة جدولة همومي

***

حافة القبعة ، تؤثر في رأس بوش الابن و الأب
و العم و الخال و الخالة ،
أكثر مما تؤثر فيه كل المهرجانات
و المسرحيات و المعلقات العربية ، المعاصرة و الجاهلية .

***

إنني أسمع بالعلق ، و لكنني لم أره في حياتي !
من يمص دمي إذا ؟!

***

لا تنحن لأحد مهما كان الأمر ضروريا
فقد لا تؤاتيك الفرصة لتنتصب مرة أخرى
مهما كان الأمر ضروريا

***

لماذا تنكيس الأعلام العربية فوق الدوائر الرسمية ،
و السفارات ، و القنصليات في الخارج ، عند كل مصاب ؟
إنها دائما منكسة !

***

قد تحترق و تتصحر كل الغابات و الأدغال في العالم
إلا الغابات و الأدغال التي يعيش فيها المواطن العربي

***

هل أبكي بدموع فوسفورية
حتى يعرف شعبي كم أتألم من أجله ؟؟

***

خمسون عاما و أنا أترنح ، و لم أسقط حتى الآن
و لم يهزمني القدر ، إلا بالنقاط ، و الضربات الترجيحية !!

***

اتفقوا على توحيد الله و تقسيم الأوطان

***

كل السيول و الفيضانات تبدأ بقطرات تتجمع من هنا و هناك ،
إلا عند العرب
يكون عندنا سيول و فيضانات و تنتهي بقطرات تتفرق هنا و هناك

***

أخي السائق: لا تستعمل الزمور إلا في فترة الامتحانات
أو التحضير لها

***

الكل متفقون على بيع كل شيء ، و لكنهم مختلفون على الأسعار !
ماذا أفعل بحصتي من فلسطين ؟
هل أشتري بها شهادة استثمار ؟؟

***

عندما يتناول الصحافيون و الإعلاميون العرب ، أي موضوع و لو كان عن كسوف الشمس ، و خسوف القمر ، أو سقوط المذنبات
المجهولة ، لابد و أن يتملقوا حكامهم ، و يظهروا للقارئ أو للمستمع ، دورا لهم مهما كان صغيرا في هذه العجائب الكونية

***

بعد اتكالنا على الغير في كل شيء سياسيا ، و اقتصاديا ، و ثقافيا ،
و حتى طائفيا ، قد يأتي يوم ، و نعتمد فيه على غيرنا حتى في الإنجاب

***

في الخمسينات و الستينات كان السؤال الملح على الكاتب :
ماذا سيعطي لوطنه ، أما السؤال الآن فهو :
ماذا سيأخذ منه ؟؟

***

حتى النسر يتثاءب في الفضاء
إذا كانت رحلته طويلة ،
و المناظر متشابهة من حواه