محمود مختار رائد فن النحت العربي المعاصر

“من العسير على شباب اليوم أن يتصور دهشتنا وانبهارنا عندما بدأ الحديث عن مختار، نحن الآن نتكلم كثيرا عن الفن وندرسه وننظم له المعارض ونناقشه ونصدر الأحكام، ولكن منذ خمسة عشر عاما كانت أمور الفن غريبة على الشباب المصري غرابة اللغة السريانية، لقد كان مختار ظاهرة فذة، وكان حدثا معجزا أثار إعجابنا دون أن ندرك له تفسيرا، وكانت هذه الفجاءة وتلك الدهشة التي صاحبت ظهوره هي التي جعلتنا نسميه جميعا “النابغة”.. وعلى شباب اليوم أن يعلموا تماما أنه إذا كان الفن الآن معترفا به وتشجعه السلطات الرسمية فإننا ندين بذلك لمختار ولن ينسى له هذا الفضل أحد، فهو دائما نابغتنا..”

“من مقال لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعنوان “مختار ومصر” كتبه قبل وفاة مختار ونشر بالفرنسية بمجلة “آفور” بعد وفاته عام 1935″ عـصــر مختــار

ولد طه حسين عام 1889، وفى نفس الوقت ولد عباس محمود العقاد، وكان ميلاد المازني عام 1890، ثم ولد محمود مختار والرسام يوسف كامل 1891، بينما ولد سيد درويش والرسامان محمد حسن وراغب عياد 1892، وكان ذلك في ظل الاحتلال الانجليزي لمصر الذي بدأ عام 1882.

إلي هذا الجيل ينتمي مصطفى عبد الرازق، ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي وأحمد ضيف وأحمد صبري ومجموعة المثقفين الذين تخصصوا في القانون والطب والهندسة والعلوم، وتألق كل منهم في ميدانه..

كلهم ولدوا في الريف ثم انتقلوا إلى العاصمة، وتفاعلت مفاهيمهم الشرقية بمناهج الفكر والحضارة الأوروبية، وكانت هناك روح واحدة تجمعهم وإحساس مشترك يقرب بينهم، لم يلبث أن تبلور في الدعوة إلى إحياء المجد القديم وبعث الروح في الشعب المصري مع الاعتزاز والشغف بالآثار والدعوة إلى الاستقلال والتحرر من الاحتلال الأجنبي، مهد لها شعر شوقي وحافظ ومطران، ثم خطب الزعماء السياسيين “مصطفى كامل”، “محمد فريد”، “سعد زغلول” الذي تزعم ثورة 1919 الوطنية في مصر. هذا هو عصر “مختار”.. عصر النهضة بمثله العليا وتطلعه وإشراقه، تبلورت مطالب العصر فترددت في أعماله الفنية، ولاح في تماثيله الأمل والإصرار والكبرياء كانعكاس لصورة العصر، وترجمة لكيانه الفكري والسياسي، مجسماً في رموز تشكيلية جعلته واحداً من زعماء ثورة مصر الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى.

وتعتبر حياة مختار نموذجاً في الكفاح له دلالات عميقة، فهو أحد القلائل الذين حققوا لبلده ذاتية قومية، وردوا إليه الثقة في نفسه، فكان أثره في مجال الفنون كأثر الشيخ محمد عبده في مجال الإصلاح الاجتماعي، وأثر سعد زغلول في مجال الزعامة السياسية وأثر طلعت حرب في المجال الاقتصادي، وأثر الدكتور طه حسين في المجال الفكري والفلسفي.

بين القرية والحارة

ولد “محمود مختار” في بلدة “طنبارة” وهى قرية بالقرب من مدينة المحلة الكبرى بوسط الدلتا، كان ميلاده يوم 10 مايو عام 1891.. أبوه هو “الشيخ إبراهيم العيسوي” عمدة القرية ولم تكن أمه هي الزوجة الأولى، كما كانت تصغر أبيه بشكل ملحوظ، ولم تلبث الخلافات أن نشبت بين الزوجات فأنتقل مختار ليعيش مع جدته لأمه في بيت خاله بقرية “نشا” بالقرب من مدينة المنصورة حيث تعلم في كتابها.

وعرف عن مختار أنه خلال طفولته بالريف كان يقضى معظم وقته بجوار الترعة يصنع منتمثال نهضة مصر طينها أشكالا وتماثيل تصور بعض المشاهد التي يراها في قريته مثل النسوة وهن يحملن الجرار، أو حيوانات الحقل وهى تجر المحراث أو تدرس القمح.. وغير ذلك من مشاهد الريف.

واجتاح وباء الكوليرا قرى مصر في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي فحصد الأطفال لكن مختارا نجا، ومعه أقطاب هذا الجيل الذين صنعوا تاريخ مصر في الربع الأول من القرن العشرين وما أن انزاح وباء الكوليرا حتى عاد إلى أحضان أمه التي انفصلت عن أبيه وانضمت إلى بيت أسرتها في قرية “نشا”.. ويواصل الصبي حياته كأبناء الفلاحين، يتعلم في الكتاب ويخرج إلى الحقل مع ذويه يتعلم فنون الإشراف على الزراعة وممارستها.

واستمع الصبي لحكايات الفلاحين، وكانت من بينها حكاية عن جده الذي نفي إلى السودان في عهد حكم الخديوي إسماعيل، لتمرده على الظلم الذي وقع على الفلاحين من اجل جباية الضرائب، وكانت قصة هذا النفي تروى إليه بصياغات مختلفة كأنها من الأساطير، ويضاف إليها حكايات عن حياته في المنفى وكيف علم أهل السودان الزراعة ورشدهم إلى صناعة الشواديف لرفع الماء.. وهكذا تداخلت قصة الجد مع الأسطورة المصرية القديمة عن “أوزوريس” الذي علم سكان مصر الزراعة قبل بداية التاريخ.

وقررت الأم أن تنتقل إلى القاهرة للعلاج الذي قد يطول.. وطلب مختار أن يلحق بها، لكنه لقي معارضة أقاربه.. حتى عزم أمره على السفر هارباً بمفرده.. وفى الطريق قابله خاله الشيخ “محمد أبو غازي” (والد المرحوم بدر الدين أبو غازي)، فيرأف بحاله ويصحبه إلى أمه التي كانت تقيم في حي “الحنفي” بجوار حي عابدين.. كان ذلك عام 1902 ولم يبلغ مختار عامه الحادي عشر، فيلتحق بإحدى المدارس الابتدائية ليكمل تعليمه.

انتقل مختار إلى القاهرة ليعيش في بيئة تسودها تقاليد الحارة المصرية، حيث يختلط حاملة الجرةالسكان ويتعاونون مهما تفاوتت مستوياتهم، التلاميذ وأصحاب المتاجر والصناع والموظفون هذه البيئة الشعبية تحوطها عمارة القاهرة الإسلامية بفنونها العريقة، فتبهره مآذن مساجدها ويتعلم من أبناء الحي أكثر مما يتعلمه في المدرسة.

كانت طفولته في الريف تطل على الحقول الواسعة المنبسطة والحياة بإيقاعها البطيء، وفى القاهرة كان الضوء الساطع بالنهار يعكس ظلالاً حادة على زخارف عمارة المساجد والبيوت القديمة، فتوقظ لدى الصبي الحساس الرغبة في التشكيل المجسم، وتثير حاسة اللمس لديه، وتوقظ الرغبة في تحسس هذه الزخارف المجسمة.. فالإضاءة القوية والحياة معظم الوقت خارج الأماكن المغلقة يحقق الميل إلى التجسيم وإقامة الأشكال ذات الأبعاد الثلاثة القادرة على إعطاء مماثل صادق لهذه البيئة.

مدرسة الفنون الجميلة

وتتمنى الأم أن يلتحق ابنها بالأزهر، لكنه يحس ميلا فطريا نحو الفن، ولا يعرف إلى أين يتجه.. وتفتح مدرسة الفنون الجميلة المصرية أبوابها عام 1908 بحي درب الجماميز القريب من منزله، فيسرع إلى الالتحاق بها، ويكون أول طالب يتقدم إليها.. وتبدأ مسيرة مختار مع الفن.

الأمير “يوسف كمال” من أمراء الأسرة المالكة هو الذي أنفق على افتتاح هذه المدرسة، وهذا جانب إيجابي يذكر له، وقد اتجه إلى وقف أمواله وثروته على تدريس الفن وإرسال المبعوثين لدراسته بأوروبا.. بالطبع كان هدفه من ذلك خلق جيل من الفنانين المصريين يحلون مكان الفنانين الأجانب في تزيين القصور والمباني.. لكن التطورات السياسية لم تسنح بتحقيق هذا الهدف، فسرعان ما اشتعلت الحركة الوطنية ضد الاستعمار الانجليزي (قوات الاحتلال) وانعكس ذلك على فن مختار في التماثيل التي أقامها للزعماء السياسيين “مصطفى كامل” و “محمد فريد” وكانت هذه التماثيل تحمل في المظاهرات والجنازات وتتصدر مواكب الشباب.

ومن ناحية أخرى ألهبت البطولات العربية خيال الفنان الشاب فأقام تماثيل تصور “طارق بن زياد” و “عمرو بن العاص” ثم “خولة بنت الأزور” وهي البطلة العربية التي حررت نساء قبيلتي “تبع” و “حمير” من أسر الروم، وكانت على هيئة امرأة تمتطى جوادا وتطعن بالرمح وتشبه من بعض الأوجه “جان دارك” الفرنسية.

هذا إلى جانب استعادته لمشاهد الريف يسجلها صورا وتماثيل، خاصة التماثيل الفكاهية تمثال ابن البلدلابن البلد ووجوه زملائه.. هذه الروح المرحة وخفة الظل من الأمور التي لفتت الانتباه إلى موهبته باعتباره متمكنا وقادرا على تشكيل أي تمثال وأية فكرة تخطر له.

انهمك مختار في فنه حتى أطلق لحيته ولبس “البيريه” كغطاء للرأس وارتدى ملابس البوهيميين الفرنسين، وكان فخوراً بتشجيع أستاذه النحات الفرنسى “المسيو لابلانى” ناظر المدرسة وصاحب فكرة إقامتها، فهو لم يكن فنانا مغمورا في بلده فرنسا وإنما كان مديرا لأحد متاحفها، ودعاه الأمير يوسف كمال فلبى دعوته، وعندما اقترح الأمير فكرة إنشاء هذه المدرسة وحصل على الموافقة كان يريد أن يثبت صواب فكرته، ووجد في مختار أفضل برهان ودعامة لما يهدف إليه.. ومن هنا التقت الموهبة بالرعاية والحماس مع الكفاءة.

ورغم هذا لم يمتنع مختار عن المشاركة في الحياة السياسية، فخرج في المظاهرات المطالبة بالاستقلال عام 1910 واشتبك مع عساكر الانجليز، وعندما تدخل “قومندان البوليس “مانسفيلد” الذي كان يتولى منصب “حكمدار” القاهرة، اندفع محمود مختار إلى حصانه يجذبه من ذيله بكل قوته، فيهوى براكبه على الأرض.. ويقبضون على مختار مع عدد من المتظاهرين يودعونهم السجن لمدة خمسة عشر يوماً.

وما أن تنتهي موجه المظاهرات حتى توضع لوائح جديدة لنظام الدراسة بالمدرسة، ويظهر اتجاه لوضعها تحت إشراف الجامعة المصرية من يونيو إلى أكتوبر عام 1910.. فقام الطلبة بحركة احتجاج عنيفة أدت إلى فصلهم، فأفتتح مختار وزملائه المفصلون مرسماً بجوار المدرسة يمارسون فيه فنهم، حتى تغيرت الأوضاع ودخلت المدرسة تحت إشراف وزارة المعارف وألغى قرار الفصل ليعودوا إلى الانتظام في الدراسة، وقد ضمت هذه الحركة 15 طالباً يمثلون خلاصة النبوغ في المدرسة، كان من بينهم محمد حسن ويوسف كامل ويتزعمهم محمود مختار.

وهناك قصة حب غامضة بين فناننا وإحدى قريبات أستاذ فن التصوير في المدرسة “باولو فورشيلا”. لكن هذه القصة انقطعت عندما تقرر سفر مختار إلى باريس عام 1911.

لقد كتب “مسيو جيوم لابلانى” تقريراً عن نبوغ مختار الذي ظهر بوضوح في المعرض الأول الذي أقيم لأعمال الطلبة، وكان من بين المعروضات تمثال كاريكاتيري لابن البلد أقبل المشاهدون على اقتنائه وباع منه ثمانية نسخ من الجبس بسعر جنيهين ذهبيين للنسخة الواحدة.. ووافق الأمير على تقرير لابلانى وقرر أن يبعث مختار إلى باريس لإتمام دراسته ويتولى الإنفاق عليه.

سافر مختار إلى باريس وهو يعرف أن هذه هي فرصته لتحقيق أحلامه.. ويضع بيتين من الشعر كشعار لجهاده يقول فيهما:

أعلل نفسي بالمعالي تخـيلاً

فياليـت آمـال الخيال تـكون

سأرفع يوماً للفنون لواءها

ويبقى لذكراها بمصر رنين

في باريس يتقدم مختار للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة الفرنسية “البوزار” مع أكثر من مائة متقدم جاءوا من فرنسا ومن سائر أنحاء الأرض، ويفوز مختار عليهم جميعاً، فيجيء ترتيبه الأول، وينال إعجاب أستاذه الجديد “كوتان” ويشجعه راعياً لموهبته.

والفنان “كوتان” هو صاحب التماثيل البرونزية التي تزين “كوبرى الاسكندر” بباريس، فهوالحزن ليس مجرد معلم وإنما فنان مرموق أيضا. وقد تتلمذ مختار أيضا على يدي الأساتذة: “مرسييه” و “انجلبرت” وبدأ يتطلع إلى الفنانين الكبار، ويتقدم عام 1913 إلى المعرض السنوي للفنانين الفرنسين (صالون باريس) بتمثال يصور شخصية “عايدة” بطلة أوبرا “فردى” التي تحمل نفس الاسم.. فيقبل التمثال فى المعرض وتتحدث عنه بعض صحف باريس.

ينتبه الفنان على الشاطئ الآخر من المتوسط إلى القيمة الفنية للتراث النحتي في الآثار المصرية القديمة.. كانت دراسته حتى سفره تتطلع إلى النموذج الإغريقي والروماني في فن النحت لكنه في باريس لمس الاحترام والتقدير الشديدين للتراث النحتي المصري القديم.. فيعود إلى القاهرة وهو في الثانية والعشرين خصيصاً ليشاهد الآثار المعروضة في المتحف المصري (الانتكخانة) كجزء من دراسته التي وجهه إليها أساتذته في باريس. ويعرضون عليه خلال هذه الزيارة أن يعمل ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة المصرية مكان أستاذه “لابلانى” الذي قرر العودة إلى وطنه.. فيرفض رغم إغراء المنصب لأنه لا يزال في بداية الطريق ولأنه اختار لنفسه طريقاً قد تعوقه قيود المناصب، ويعود إلى باريس بينما نذر الحرب العالمية الأولى تتجمع.. وهناك بدأت المتاعب عندما توقف عنه راتبه الذي كان يبعثه الأمير بسبب انقطاع طرق المواصلات وتعثرها بسبب الحرب.

ويضطر مختار إلى الاشتغال بعض الوقت شيالاً في مصانع الذخيرة ليعوض راتبه، لكنه لا يكف عن الدراسة أو الإنتاج الفني، حتى يلقاه مصادفة أستاذه الأول “المسيو لابلانى” فيدعوه ليحل مكانه في إدارة “متحف جريفين” للتماثيل الشمعية والمقام في حي “مونمارتر”، لان المسيو لابلانى بلغ سن التقاعد. ويقبل مختار هذه الوظيفة التي تعوضه عن العمل في مصانع الذخيرة وتضعه في موقع على رأس أهم متاحف الشمع في العالم إلى جانب متحف “مدام توسو” في لندن واستمر في هذا العمل طوال عامي 1918، 1919.

في هذه الفترة اهتم المتحف بعمل تماثيل لأبطال الحرب وقادة أوروبا وأمريكا وقتئذ أمثال “كليمنصو” و “ولسن” و “جوقر” إلى جانب إقامة تماثيل للمجموعات مثل “حلم غليوم” و “عودة الجنود إلى باريس عند النصر” لقد أتاح له عمله بالمتحف أن يشهد جلسات مؤتمر السلام ويتابعها مسجلاً ملامح وجوه أقطاب المؤتمر.. هذا إلى جانب تماثيل مشاهير الفنانين والفنانات، فقد أقام تمثالاً لأعظم راقصة باليه في مطلع القرن العشرين هي: “انا بافلوفا”.. وفيما بعد أقام تمثالاً “لأم كلثوم” باعتبارها أشهر فنانه مصرية.. وكانت قد انبعثت من صميم الريف مثله تماماً تشق طريقاً قاسياً في ميدان فن الغناء.. محملة بالروح الريفية الطبيعية.. وقد تحمس لها، فصورها في تمثال يفيض بالرقة والشجن والجمال من الشمع ثم أقام لها تمثالاً آخر عرضه في باريس عام 1925 بينما كانت أم كلثوم في مطلع حياتها الفنية.

تمثال نهضة مصر بعد انتهاء الحرب العظمى (1914-1918) بدأت تتجمع نذر الثورة على الاستعمار الانجليزي في مصر تحت شعارات ثلاث: الاستقلال والعدالة والدستور.. وبدأ يتكون حزب الوفد بزعامة سعد زغلول، وكان للحزب تنظيمه السري الذي أطلق على نفسه اسم “اليد السوداء”.

وكان أعضاء هذا التنظيم يقودون حركات المقاومة للاحتلال الانجليزي، فإذا انكشف أمر أحد أفراده هرب إلى فرنسا حيث يستكمل دراسته إذا كان طالباً ويواصل نشاطه في الدعوة إلى قضية الاستقلال بين بقية المصريين هناك، وفى المناسبات الدولية التي كانت تعقد في باريس.

كان مختار ابن العمدة يلقب بين أصدقائه باسم “العمدة”، وكان يسبق هؤلاء الثوار في معرفة باريس وطباع الفرنسيين.. يعرف اللغة والكثير من الشخصيات الهامة الفنية والسياسية.. كان هؤلاء الطلبة يكونون “الجمعية المصرية” التي تتولى الدعاية ضد الاستعمار الانجليزي فيحارس الحقول مصر وتلقى معاونة مختار “العمدة” ومدير متحف “جريفين”.

ووضع الفنان فكرة تمثال “نهضة مصر”، وعرض النموذج المصغر على زملائه من الطلبة المصريين في باريس فتحمسوا له وجمعوا له التبرعات فيما بينهم لينفذ الفنان هذه الفكرة في الرخام.

وعندما سافر “الوفد المصري” برياسة سعد زغلول إلى باريس للدعوة لقضية استقلال مصر، يتعرف أعضاء الوفد على مختار وعلى نهضة مصر، فيعودون إلى القاهرة متحدثين عن الفنان “النابغة” وعن تمثاله، وتبدأ الحملة للتبرع لإقامته في أحد ميادين القاهرة.

ويتقدم الفنان بتمثاله إلى معرض صالون باريس، فيكون ضمن 60 تمثالا تم قبول عرضهم بالمعرض الكبير من بين ألفي تمثال تم تقديمها.

لقد كان أول معرض صالون يقام في باريس بعد توقف طوال فترة الحرب، وقد افتتحه رئيس الجمهورية الفرنسية، وإذا بالطلبة المصريين يصطفون هاتفين للتمثال ولاستقلال مصر خلال موكب رئيس الجمهورية. ويفوز المثال بإحدى جوائز المعرض، ويتحدث عنه نقاد الفن على صفحات “الفيجارو” و “الالسترتسيون” و”الطان” و”المجلة الحديثة للفنون”.. فتهتز مصر فخرا وطربا بالفلاح “محمود مختار” ابن القرية، الذي قدم تمثالا يعبر فيه عن مطالب بلاده.. كان ذاك عام 1920 عندما قرر مختار أن يعود إلى الوطن.

وتصاحب عودة مختار حماسة شعبية تنعكس في حركة الاكتتاب لإقامة التمثال.. فقد نشر “مجد الدين حفني ناصف” مقالات متتابعة بجريدة “الأخبار” عن محمود مختار والنهضة الفنية في مصر.. وتوالت المقالات التي تدعو المواطنين للاكتتاب: الدكتور حافظ عفيفي والأستاذ أمين الرافعي وويصا واصف باشا وواصف بطرس غالي ومحمد حسين هيكل ومصطفى صادق الرافعي ومي وإبراهيم عبدالقادر المازني.. ومن الشعراء مطران وشوقي وأحمد زكي أبو شادي ومحمد عبدالغني حسن..

وعرض نموذج التمثال بدار جريدة “الأخبار” التي كان يملكها المرحوم “أمين الرافعي” وارتكزت الدعاية لمختار ولتمثال نهضة مصر في نقطتين عبر عنهما صاحب جريدة الأخبار أصدق تعبير.. الأولى: اقناع العالم بأن مصر لا تزال تعنى بالفنون الجميلة فهي ساعية إلى استعادة مجدها القديم. والثانية: الإعلان عن القضية المصرية بطريقة تلفت الأنظار أفضل من غيرها.

ووقف الخطباء يشيدون بعبقرية الفنان، والناس يصفقون لمختار النابغة، وظهر من بين رجال الأزهر دعاة لإقامة التمثال، وكان منهم من يجمع التبرعات عقب صلاة الجمعة.. وهكذا جمعت لجنة التمثال 6500 جنيه من القرى والمصانع والمدارس من دواوين الحكومة ومكاتب الوزراء.. وكانت اللجنة برئاسة رشدي باشا وعضوية ويصا واصف وحافظ عفيفي وواصف غالي وعبدالخالق مدكور وفؤاد سلطان وأمين الرافعي وعبدالقوي أحمد ومحمود خليل.. ورأت اللجنة أن ينفذ التمثال من البرونز، ولكن محمود مختار رأى أن يصنع التمثال الكبير من حجر الجرانيت الوردي، من محاجر أسوان التي اقتطعت منها تماثيل قدماء المصريين.

وطلبت لجنة التمثال من الحكومة الترخيص بإقامته في ميدان محطة السكة الحديد الرئيسية بمدخل العاصمة (ميدان باب الحديد.. وهو ميدان رمسيس). فقرر مجلس الوزراء في 25 يونيو 1921 الموافقة على ذلك، وأن يكون إنشاء القاعدة وإقامة التمثال تحت إشراف وزارة الأشغال، التي تتولى بقية النفقات بعد نفاد التبرعات.

لقد احتل تمثال نهضة مصر فترة في تاريخ الحياة المصرية امتدت من سنة 1920 حتى 1928 واقترنت بصراع بين القوى الشعبية الممثلة في حزب الوفد، يؤازرها المفكرون والمثقفون الذين تحمسوا لفكرة التمثال وضرورة إقامته من جانب، وبين الذين حاربوا الفكرة الممثلة في الأحزاب الخارجة على الوفد التي عملت على تعطيل إقامته خلال توليها الوزارة وكانت تعرف باسم “حكومة الأقلية”، من جانب آخر.

وهذا شان العمل العظيم فهو يعبر أصدق تعبير عن فكرة إحياء المجد القديم التي كانت تسيطر على مفكري ذلك الوقت، سواء في رموزه أو في خامته، فحجر الجرانيت لم يستخدم منذ قدماء المصريين في إقامة التماثيل قبل “نهضة مصر”، بينما أبو الهول يهم واقفا وتعتمد عليه الفلاحة التي ترمز إلى “مصر الزراعية”.. بعد أن كانت تماثيل الميادين وقفا على الحكام والقادة.

فالفنان في أرفع صوره هو قلب أمته، يستجيب لأفراحها ويترجم آمالها، وكان هذا التمثال مطلبا شعبيا، فتخطى كل العقبات وأزيح عنه الستار يوم 20 مايو عام 1928. وقد حضر الملك حفل إزاحة الستار وهنأ مختار علىعمله العظيم..

وتنازل الفنان عن مستحقاته المالية التي حكم له بها القضاء، فإن تمثاله عمل قومي مواز للنهضة وليس مجرد تعبير عنها، لذلك كان يردد دائما: “لست صاحب التمثال بل الشعب هو صاحبه”.

من أجل الفن واصل الفنان إبداعه بإحساس غامر بالتفوق والتقدير بعد أن لمس حب مواطنيه وتقديرهم له. لكن مختاراً كان صاحب دعوة ورائد طريق، لا يقف عند حد إنتاج أعماله الفنية وإنما يمد جهوده إلى ميادين أخرى، هي ميادين الدعوة إلى تذوق واحترام الفن وإنشاء المؤسسات التي تتطلبها النهضة الجديدة من أجل إقرار مكانة الفن في المجتمع.

لقد كان من أقطاب حزب الوفد، فهو شخصية عامة لها قوتها وسطوتها وان لم يشترك في الحياة السياسية اشتراكاً مباشراً، لكنه كان ينشر في الصحف من حين لآخر آراءه النقدية ويعلم القراء كيف يفرقون بين أنواع الفنون ومدارسها بشكل مبسط يتلاءم مع المستوى الثقافي العام في العشرينات من القرن العشرين.. ولعل الحوار الذي دار بينه وبين العقاد والمازني على صفحاتتاعودة من السوق مجلة “السياسة” حول تمثال “نهضة مصر” الذي كان ينتقدانه بشدة، هو أول نقد فني ظهر في صحافتنا العربية.

كما نادى مختار بضرورة إقامة المدارس الفنية وإنشاء المتاحف وجمعيات الفنون مع العناية بالبعثات الفنية.. كما حرص على توفير جو الحرية الذي يتيح للفنان أن يعبر بشجاعة عن رأيه وأن يبرز موهبته دون أن يخضع لقيد أو سلطان غير ضميره الفني.

والى هذا الفنان الرائد يرجع الفضل في إيجاد جهاز مختص بالفنون الجميلة في مصر، وبدء البعثات الرسمية لدراسة الفن، وتخصيص اعتمادات في ميزانية الدولة للفنون، وقد ساهم في تنظيم “مدرسة الفنون الجميلة العليا” عام 1928، وإنشاء الجمعيات الفنية وإقامة المعارض الدورية، فهو الذي بث معالم الفن في حياتنا الثقافية، ورغم إلحاح الكثيرين في أن يتولى مختار مناصب الفن الرسمية في بلاده، ورغم العروض المغرية لتولى مناصب مماثلة في فرنسا، فإنه كان يؤمن بأن السلطة الزمنية قبر الموهبة، وأن الوظيفة قيد على حرية الفنان، فرفضها جميعاً رغم ما مر بحياته من ظروف عصيبة، وآثر أن تكون له سلطة الرأي عن أن تكون له سلطة المركز.

لقد تميز الجيل الذي ينتمي إليه مختار بزهد وتضحية وبعد عن الماديات وإخلاص للفن وسعى لنشره فكان محيط أصدقائه واسعاً شاملاً، من بينهم أسماء مشهورة مرموقة عرفت بنشاطها العام مثل: “عزيز المصري” والدكتور “على إبراهيم” و “طراف علي” و “ويصا واصف” و “حافظ عفيفي” و “عثمان محرم” و “بهى الدين بركات” و “عبد الحميد بدوى” و “على الشمسى” و “شوقى” و “حافظ” و “محمود عزمى” و “حسين هيكل” و “طه حسين” و “صبري السوربونى” و “سيد كامل”.. وغيرهم ممن لم ينالوا شهرتهم لكن كان لهم اهتمامهم وحماسهم للفن والثقافة.

وقد شارك في “الجمعية المصرية للفنون” التي كونها عام 1923 الفنانون “راغب عياد” و “يوسف كامل” وعدد من شباب الفنانين مع تشجيع سيدات المجتمع وعلى رأسهم السيدة “هدى هانم شعراوى”.. وبعد فترة قصيرة تكونت جمعية محبي الفنون الجميلة على يدي “فؤاد عبد الملك”.. وفى عام 1927 كون محمود مختار “جماعة الخيال” وكان من بين أعضاء هذه الجماعة: “العقاد”، “المازني”، “محمود عزمي”، “مي زيادة” .. وبأقلامهم كتبت مقالات النقد الفني في الصحافة وتأصل الإيمان بفكرة الدور الايجابي للفن في المجتمع.

وفى نفس الوقت عمل على تخصيص عدد من البيوت المواجهة لدار الآثار المصرية لمراسم الفنانين في محاولة لإيجاد حي مشابه للأحياء التي يشغلها فنانوا باريس وتحقيق جو فني مماثل للجو السائد في “مونمارتر” و “الحي اللاتيني” ومناخها الذي يوحى بالإبداع ويشجع على مواصلة الإنتاج الفني.

في هذه المرحلة من 1923 حتى 1930 أقام الفنان معظم تماثيله الصغيرة وابتدع نماذج مصغرة للتماثيل الصرحية التي كان يحلم بإقامتها.. تسع سنوات فقط تخللتها فترات توقف وانقطاع بسبب المشاكل التي واجهها أثناء إقامة تمثال نهضة مصر، هي سنوات الإبداع والتألق التي أنتج خلالها مجموعة تماثيله التي بقيت بعد رحليه.

معرض باريس حقق مختار مكانته وأصبحت كلمته مسموعة، ونظر رجال الدولة نظرة احترام وتقدير لكل كلمة يقولها، لقد أصبح زعيماً كزعماء حزب الوفد لالتفاف الجماهير حوله والإعجاب العام به، وعندما أقامت جماعة الخيال معرضها الثاني في مرسم الفنان المستشرق “روجيه بريفال” اشترى رئيس الوزراء أحد تماثيل مختار، كما أقتنت سيدة أمريكية تمثالاً آخر أهدته إلى متحف المتروبوليتان بنيويورك فيما بعد.

وفى أواخر عام 1929 سافر الفنان إلى باريس حيث شارك في معرض “صالون باريس” بتمثاله “عروس النيل” المنحوت في الرخام، فنال عنه الميدالية الذهبية، وأعلنت الحكومة الفرنسية قرارها بشرائه ليوضع في “متحف لوكسومبرج” وهو متحف للنحت المعروض في حدائق واسعة حيث تشاهد التماثيل بين الخضرة مياه النوافير والبحيرات الصناعية.

وفى 10 مارس عام 1930 ومع بداية فصل الربيع افتتح معرض كبير لتماثيل محمود مختار ضم أربعين عملاً، واستمر حتى 21 مارس، وقد أقيم المعرض في قاعة برنهيم بباريس. فأفاضت الصحافة الفرنسية والأمريكية والبلجيكية والانجليزية وكذلك صحافة بلاد الشمال في الحديث عن المعرض باعتباره ممثلاً لوجه الفن المصري المعاصر ومؤكداً لشخصية مختار الفنية القديرة، ووضع على نفس المستوى الإبداعي للفنانين المشهورين: رودان ومايول وبورديل.. وكتب أحد كبار النقاد قائلاً: “في زمن الخداع واهتزاز عناصر التقدير الفني، مازالت القيم الجادة تحيا، وهو ذا نحن نلمسها في أعمال مختار المصري”.

ونقلت الصحافة المصرية كل ما أثاره انتصار الفنان وتقدير معرضه إلى الرأي العام. ودعي رسميا إلى إقامة تمثال “سعد زغلول”.. فاستقبل الفكرة بحماس وعاد إلى مصر ليعمل ليلا ونهارا في إعداد النماذج المصغرة، حتى وضع تصميما لصرح يسجل مرحلة من تاريخ الشعب العربي في مصر وكفاحه وطموحه، يجمع رموزا تصور كفاح الشعب وطوائفه المختلفة والقيم والمثل التي جاهد من أجلها ممثلة في:”الحرية والعدالة والدستور”.

وبدأ تشييد تمثال في القاهرة وآخر في الإسكندرية لكن بعد مرور عام 1930 واجه المفكرون نكسة عنيفة مع بوادر الأزمة الاقتصادية العالمية. صاحبها تقييد حرية الرأي وإلغاء الدستور.. فدخل عباس محمود العقاد السجن متهما بالعيب في الذات الملكية، وطرد الدكتور طه حسين من كلية الآداب، واستقال لطفي السيد من الجامعة، وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب. وحاولت الحكومة وقف العمل في تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية رغم أن التعاقد مع محمود مختار على إقامتها يرجع إلى عام 1927.

توقف نقل أحجار الجرانيت، وانصرف مختار إلى نحت تماثيله الصغيرة للفلاحة حاملة الجرة وحاملة السلال والفلاح يحمل عصاه أو فأسه. وكان الفنان يقرأ سيرة الفنانين العظماء “مايكل أنجلو” و”فيدياس” ويتأمل ما لاقوه من معاصريهم، ويسجل ذلك في خطاباته إلى أصدقائه.. لكن التمثالين يقفان الآن أحدهما مطلا على كوبري قصر النيل بالقاهرة والآخر ينظر إلى البحر الأبيض المتوسط بميدان محطة الرمل بالإسكندرية ليعبران عن مرحلة من مراحل جهاد الشعب العربي في مصر من أجل الحصول على حريته واستقلاله، فقد تجاوز بهما الفنان فكرة تخليد قائد ثورة 1919 إلى تخليد ذكريات مرحلة كاملة من مراحل هذا الشعب. وهذا هو الدور الحقيقي للنحت الميداني.. أن يكون ذاكرة الأمة.

ورحل عدد من أصدقاء الفنان، مات ويصا واصف باشا وكان صديقا، ومات الشاعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم الذي كان يألف صحبته، وأصيب الفنان في يده، فعاش موزعا بين الأطباء، وكان يحلم بإقامة تمثال للإسكندر الأكبر في الإسكندرية وآخر لأحمد عرابي وثالث للمكلة كيلوباترا.. لكن المرض لم يمهله، ومات يوم 27 مارس عام 1934.

بدأت أعماله الفنية تعيش بعده حياة جهاد تشبه حياة صاحبها.. وتكونت جماعة أطلقت على نفسها اسم “أصدقاء فن مختار” لترعى فنه وتحيي ذكراه.. وكانت ترأسها السيدة هدى هانم شعراوي التي كانت راعية للفن عطوفة على الفنانين.

أصدقاء فن مختار

اتجهت جماعة أصدقاء فن نختار إلى إقامة متحف لحفظ تراثه ومقبرة لرفاته، ولاقت الفكرة ترحيبا وتعاونا من عائلة الفنان وورثته وتنازلوا بغير تردد عن الأعمال الفنية التي تركها في باريس وفي القاهرة من أجل تنفيذ الهدف.

وأرسلت الجمعية مندوبين عنها إلى باريس لنقل تماثيله إلى القاهرة، وشاركت وزارة المعارف من جانبها في تكريم ذكرى الفنان بتخصيص جزء من حديقة متحف الفن الحديث بالإضافةالفقراء الثلاثة إلى مبنى صغير ملحق به ليكون مقراً مؤقتاً لمتحف مختار.. وقد افتتح رسمياً يوم 27 مارس عام 1952 في ذكرى رحيله.

ولم تكتفي السيدة هدى شعراوي وجماعة أصدقاء فن مختار بإقامة هذا المتحف المؤقت وإنما أعلنت عن مسابقة سنوية لفن النحت بين المثالين للكشف عن مواهبهم وتشجيعهم لمواصلة طريق الفن الذي بدأه مختار، وعرفت هذه المسابقة باسم جائزة مختار للنحت التي خصصت لها جوائز مالية سخية تشجيعاً لشباب الفنانين..

بدأ الإعلان عن هذه المسابقة من العام التالي لوفاة مختار 1935 واستمرت سنوية إلى أن توفيت السيدة هدى شعراوي عام 1953، وقد كشفت هذه المسابقة عن العديد من المواهب في هذا الفن التي تألقت بعد الفوز بهذه الجائزة.

ولم تلبث وزارة الثقافة أن أقامت مبنى خاصاً لمتحف محمود مختار في حديقة الحرية بأرض الجزيرة افتتحه الدكتور ثروت عكاشة نيابة عن رئيس الجمهورية يوم 14 يوليو عام 1962 حيث يعرض كل ما تبقى من تماثيله، بالإضافة إلى أدواته وأوراقه.

وقد أعاد ت وزارة الثقافة منذ العام 1983 الإعلان عن مسابقة مختار السنوية في النحت؛ لكنها لم تقدم حتى اليوم موهبة واضحة في هذا الميدان على مدى السنوات الأربع الماضية.

بلاغة الصمت

لابد أن نتوقف قليلاً أمام مميزات أعمال هذا الفنان الرائد، فقد أضاف إلى تراثنا القديم في هذا الفن تراثاً حديثاً، وقد تحول النحت على يديه إلى فن رفيع بعد أن كان مجرد حرفة كالنجارة والحدادة، لهذا يعتبر فنه نقطة البداية للنحت المصري الحديث، وهى بداية محملة بعراقة الاستمرار وأصالته التي تقدم خلاصة تقاليد هذا الفن في الحضارات المتعاقبة المنصهرة في نفسه بعد أن تلاقت مع تجارب الفن الحديث وما استخلصه الفنان من مميزات كانت مصدر ثراء لأسلوبه الخاص.

لقد ظهر النحات الفرنسي “أوجست رودان” (1840 –1917) الذي يعتبر فنه بداية النحت الحديث في أوروبا، وقد عاش مختار في فرنسا في ظل التأثير الطاغي لهذا النحات الكبير الذي اشتهر على المستوى الأوروبي بواقعيته الرومانسية..

كذلك النحات الفرنسي “ارستيد مايول” (1861 –1944) لقد عاصره مختار أيضا في باريس وكانت تماثيله تبلغ حد الكمال صنعة وإبداعا، وشاع تأثيره كما كان له أتباع وحواريون..

لقد وصل مختار إلى باريس في فترة من أخطر الفترات التي مر بها الفن المعاصر.. فبين عامي 1911 و1920، وهي مرحلة تكوينه الفني على الشاطئ الآخر، كانت باريس ممتلئة باتجاهات جديدة تعلن الحرب على القديم. بينما احتمى مختار بأسوار “البوزار” يتعلم من أساتذتها ويتابع في نفس الوقت الاتجاهات الحديثة ويرقب تطورها، ولم تؤثر الصيحات الحديثة عليه لقوة شخصيته وثقته في كفاءته، فقد وقف من الحركة الثقافية في باريس موقف الند الذي يساهم معطيا، ولم يتخذ موقف التابع الذي يأخذ دون أن يضيف. وهكذا تفهم جميع الاتجاهات والأساليب المستحدثة وألم بفلسفتها، ونقل وجهة نظره فيها إلى الجمهور في مصر عندما وصف الاتجاهات المغرقة في الإغراب بأنها اتجاه إلى الخيال وقال “إن تصوير الخيال قد يكون غالبا المقصود منه ستر قلة المهارة وقلة الكفاءة تحت اسم شهي جذاب، إذ إن غايته في السهلة تطبيق قواعد موضوعة بدلا من تصوير أشكال شيقة”.

كان ينادي بتطعيم الواقع بدرجة محدودة من الخيال ليكون الفن حقيقيا ونابعا من ذات الفنان. اتجه إلى استلهام جوهر التراث وروح العصر وصور البيئة المصرية، وكانت له عين مدربة على ترجمة الشكل الواقعي في هيئة منظمة ومنسقة تدل على أن الفنان لا يقف عند حد التعبير عن الجمال وإنما يهتم ببث الإحساس بالحيوية وقوة التعبير في تماثيله.

لقد اعتنى عناية خاصة بصياغة الكتلة متبعا الأسلوب البنائي والصفات المعمارية، وهذا يحفظ لتماثيله ـ مهما صغرت ـ كل خصائص النحت الكبير دون إغراب أو افتعال.

وحين نحت تماثيله الصغيرة الشهيرة للفلاحات، نحتها مفعمة بالقوة والحيوية والخصوبة والأنوثة.. ليست أنوثة الجواري، لكنها أنوثة شجاعة معتزة بنفسها، وفي تمثاله وجه فلاحة المسبوك بالبرونز يعبر عن الطلعة التي لوحتها شمس الحقول مع تقطيبة تقي العينين الضوء الساطع ولا تخفى الجمال الجاد المشع من تحت عصابة الرأس.

الخطوط المنحنية والأقواس تعبر عن الدلال والليونة في فلاحاته اللائي يرددن إيقاعا موسيقيا.. ومن خلال تبسيط الكتلة وانسياب الخطط يتحقق ما يمكن أن نسميه “بلاغة الصمت” الذي يعطي إحساسا بالسكينة الرائعة والشعور بالأمان والاستمرار.. فيكشف عن الجمال الداخلي حيث الترديد المنظم للخطوط والمسطحات، وهكذا اكتملت في أعماله سماتت التكتيل والبساطة من ناحية والصلابة والصفاء من ناحية أخرى بخطوط تحمل في طياتها صراحة القرية المصرية وانبساط الحقول وانسياب المياه.

إنه يبدأ من الواقع المحيط به يدرسه بعمق وتمعن، ولا تحتفظ ملاحظته ورؤيته إلا بجوهر الأشكال وبما هو جدير بالتعبير عنه. وفي تماثيله للوجوه صدق لا يقف عند حد الملامح الخارجية وإنما ينفذ إلى الأعماق، وتعبيرات تماثيله لا تتركز في وجوهها فقط، وإنما يتردد التعبير الذي يقصده في التمثال جميعه.. فينبض بالرشاقة والحركة بفضل عنايته بالدقائق والتفاصيل.. وهو يضفي على أعماله تعبيره الشخصي المميز الذي يتسم بالذكاء والحساسية والبذوق الرفيع.

إن الصفاء الذي نلمسه في أشكاله جعلها أثرا فريدا وقمة من قمم النحت، عندما حقق التوافق بين المقتضيات النحتية والإحساس العميق بالحياة، حيث نلمس التوازن والتناسق والنبل مع البساطة في مسطحات مع الشاعرية والحماس والرومانسية التي تنبض بها تماثيله.

أما العصر فقد عبر عنه في تماثيله السياسية، وسجل مرحلة المقاومة والانطلاق والنهضة.. حتى نرى هذه المعاني في العديد من تماثيله الريفية وعلى رأسها تمثال الخماسين الذي لا يقف عند حد التعبير عن مقاومة الريح وإنما إلى كل أشكال الجهاد ومحاولة الانطلاق.

إنه الفنان الذي أوجد الصيغة الملائمة في عصرنا الحديث لاجتماع مميزات أعرق تراثين في فن النحت وهما التراث الإغريقي ممثلا في سلالته الحديثة وهي النحت الفرنسي من جانب، والتراث المصري القديم من جانب آخر.. وهو يقول في هذا الصدد:” عندما يمر قرن كامل على ميلاده عام 1991. إنني أومن أن أعظم شعبين في العالم في فن النحت هما مصر أولا وبعدها فرنسا. لقد أوجد الإغريق نحتا فيه رشاقة عن النحت المصري القديم، ولكني لا أحس فيه صفاء نحت مصر القديمة وما يحمله من طاقات القوة والحياة”.

وهو ينحت الجرانيت والبازلت والرخام، وينفذ بعض أعماله بخامة البرونز وهو ككل فنان راسخ الأسلوب يتنوع تشكيله بتنوع الخامات ويحقق المواءمة معها. حيث تلقى المعرفة بالحلم، والملاحظة مع الخيال، والقوة مع الرقه، والحركة مع الهدوء، وتقاليد الفن الموروثة مع صور الحياة المعاصرة.

كلمات النقاد عن فنه

عندما أقام الفنان معرضه الشامل في قاعة “برنهيم” بباريس كتب عنه النقاد، ومن بينهم الناقد الشهير “لويس فوكسيل” الذي كان له فضل اطلاق اسم الوحشيين (الفوف) على أحد مذاهب الفن الحديث عام 1905 عندما كتب عنوان مقالته النقدية “دوناتللو بين الوحوش”.. كتب هذا الناقد عن مختار يقول : “أنه فنان واقعي شغوف بالحقيقة وصدق التعبير عن الحياة المحيطة به وهو صاحب طراز خاص”.

وقال عنه أندريه سالمون: “لا أعرف نحاتا معاصراً عني أكثر من مختار بالعنصر البنائي، وباحترام الكتلة لذاتها في فن النحت وفقاً لما تمليه تقاليد هذا الفن العريقة، وليس هناك فن أجدر من فنه باعتباره فن انبعاث.. بالإضافة إلى هذا فإن مختاراً دفعنا لان نلمس أعماق ضمير بلاده حين عبر عن عاطفة كبرى تتمثل في تمجيد أبناء جنسه”

أما المسيو “جورج جراب” الناقد ومدير متحف “رودان” في باريس فقد كتب مقدمة معرض الفنان عام 1930 يقول فيها مخاطبا مختارا:”قال رودان (إن الفن الخفاق بالحياة لا يعيد أعمال الماضي ولكنه يكملها) وتلك هي الرسالة العظيمة اليى خصصت نفسك لها، فإن فلاحاتك ياعزيزي مختار وفلاحيك وبنات الحقول في أرديتهم البسيطة التي تلف أجسامهن في خفر وحياء.. كل هؤلاء يجمعون بين المظهر الديني وتلك المسحة الإنسانية الواقعية التي عرف أجدادك كيف يضفونها على تماثيلهم.. وفى تماثيل تلك الشخصيات العظيمة وتماثيل الأصدقاء التي تقدمها نجد شيئاً من التماثيل القديمة المملوءة بالحياة فوصلت إلى عصرنا الحاضر منتصرة على اليأس والزمن”.و

وعقب وفاته قام أستاذ الفنون الجميلة بجامعة “أرجون” بالولايات المتحدة، بزيارة لمصر حيث عكف على دراسة فن مختار، فكتب في مقدمة دليل متحفه عام 1952 يقول:”لقد حبا الله مصر بهبة كبرى، إذ خصها بالمقومات الثلاث اللازمة لإبداع نحت عظيم: “الروح” و “الأحجار” و “الضوء” ، ومن بين جميع الحضارات كانت مصر صاحبة اكبر نصيب في إرساء قواعد فن النحت. وامتداد هذه التقاليد في العصر الحديث يظهر بوضوح في أعمال محمود مختار.. انه يتكلم لغة عالمية من خلال لهجته الخاصة. ومنحوتاته الصغيرة تشع ببساطة الشعر وصفائه وإيجازه..”

أما بدر الدين أبو غازي ابن أخت الفنان فقد كتب عنه يقول:”إن خصائص الفن العظيم هو أن يزدهر دون كلام وأن يعطى دون صخب، وفى فن مختار تتمثل هذه الخصائص، وهو يجمع في فنه نوعين من بلاغة اللغة التشكيلية، بلاغة الجمال الهندسي وبلاغة الإشكال الطبيعية العضوية، ومن مزجها معاً تخرج نماذجه. لقد جاءت أصالة فن مختار من منابع ثلاث: التراث والبيئة والعصر.. أخذ من التراث التوازن والهدوء والوقار والجلال ومثالية التعبير”.

بينما كتب عنه الناقد مختار العطار في ذكراه يقول عنه: “كان فيلسوفاً قبل لن يكون رساماً ونحاتاً وشاعراً وأديباً وباحثاً في علم الجمال والتربية الفنية و”الفلسفة” إنما هي العبقرية، والموهبة بعض مقوماتها. فالعبقري هو المنشئ.. المبادر.. الخالق، الذي يتبين العلاقات مهما بعدت المسافة بين عناصرها. أما الموهوب فتغلب عليه المهارة وله مواصفات يمكن قياسها باختبارات الذكاء”.

وقد صدر عن الفنان كتابان بقلم بدر الدين أبو غازي، الأول عام 1948 والثاني عام 1964 وعدة كتيبات صغيرة وكتالوجات عن متحفه، بالإضافة إلى فيلم تسجيلي عن أعماله، كما تناولت فنه وحياته عدة رسائل جامعية منذ عام 1975 أشهرها الرسالة التي وضعتها الممثلة لبنى عبد العزيز حول حياته وفنه وتقدمت بها إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة.. ولازال فنه موضوع دراسات كثيرة مطولة نتوقع أن ينشر العديد منها خلال السنوات القادمة عندما يمر قرن كامل على ميلاده عام 1991.

صبحي الشاروني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1986مالمصدر: مجلة الدوحة / العدد 127/ شوال 1406هـ ـ يوليو/ تموز