محمد برادة والطاهر بن جلون حول اللغة العربية

الطاهر بن جلون عندما يشتكي مِن وطأة تقديس اللغة العربية

محمد برادة صحيفة الحياة، 20 مارس 2006

لم أُصدق أذنيّ وأنا استمع الى الطاهر بن جلون يتحدث في برنامج تلفزيوني: «الثقافة وملحقاتها» (culture et dependances)، يوم الأربعاء 8 آذار (مارس)، عن أن اللغة العربية لا تُسعف على التعبير الصريح، الكاشف، لأنها تُعتَبر مقدسة بوصفها لغة القرآن! جاء ذلك في سياق حوارٍ ضمَّ كتّاباً أفارقة مرموقين، مثل تييرنو مونيمبوـ وجاستون كليمان، وأماندا دُوفي، وعالم اللسانيات الفرنسي كلود هاجيج، لمناقشة موضوع الفرانكفونية وعلاقة غير الفرنسيين بها...

لم أُصدق أُذنيّ، لأن بن جلون ألغى بجرة لسان كل الجهود الابداعية التي بذلها شعراء وروائيون وقاصون ومسرحيون عرب، طوال القرن العشرين من أجل توسيع نطاق العربية وتطويعها للتعبير عن مختلف التجارب والظاهرات، واستقبال ترجمات لنصوص علمية وفلسفية وسوسيولوجية وأدبية من مختلف اللغات. وهو نفسه الطاهر بن جلون الذي سبق أن كتب عن روايات عربية تُرجمت الى الفرنسية، مشيداً بأهميتها وجرأتها! تلك الليلة، أجاب عن سؤال وجهه اليه جييسبير المشرف على البرنامج، بأن العربية لا تسمح بانتهاك القيم واللغة «المقدسة» المورثتين، وانه مرتاح للكتابة بالفرنسية التي فتحت أمامه جميع الأبواب من دون قيود ولا رقابة خارجية أو ذاتية. أما اللغة العربية، لكونها لغة القرآن الكريم، لا نستطيع أن نعبّر بها عن التجارب الدقيقة، الشائكة، مثل تلك التي عبّر منها في روايته الأخيرة الرحيل»، وبخاصة ما يتصل بشخصية ميكيل لوبيز المثلجنسي ومغامرته مع «عازل»...

الواقع أنني استأت كثيراً من آراء صديقنا بن جلون، لأنها تُشوه الحقائق وتقوم على مغالطات، بل قد تنطوي على سوء نيّة، انه يستسهل الحديث عن الأدب العربي المعاصر الذي لا يقرأه ولا يُتابع انتاجاته. وقد ترددت، بادئ الأمر، في انتقاد موقف وكلام بن جلون لأنني وجدت أنه سيقودني الى التذكير ببديهيات كنت أظن أننا انتهينا منها. لكن «نجومية» الطاهر و «سفارته» الثقافية التي تخوله الظهور باستمرار في التلفزة والمحافل الدولية للحديث باسم الثقافة العربية، هو ما دفعني الى كتابة هذا المقال لأُقنع صديقنا بأن يكف، في المستقبل، عن التجديف والحديث في ما لا يعلمه.

لحسن الحظ، أن كلود هاجج كان موجوداً في ذلك البرنامج، وهو يعرف خمسين لغةً من بينها العربية، فتصدى ليُذكِّر بن جلون بأن جميع اللغات قادرة على التعبير عن أدق التجارب وأعوصها، وأن جميع اللغات هي في الآن نفسه، مقدسة ودنيوية، وأن العربية استوعبت حكايات ألف ليلة وليلة المغرقة في وصف نزوات الجسد، وأن العربية كانت موجودة قبل أن تغدو لغة للنص الديني... وكان بودي أن يسأل الطاهر هل قرأ معلقة امرؤ القيس والمشاهد الاروتيكية التي كتبت بلغة شفافة، رقراقة، يسيل لها لعاب القارئ الى اليوم!

لقد نسي الطاهر ان رواياته التي يعتبرها جريئة، منتهكة للمقدَّس، قد تُرجم الكثير منها الى العربية التي لم تجد حرجاً في استقبالها واستضافتها. وبالمناسبة، اعتبر ترجمة «ليلة القدر» التي أنجزها الشاعر محمد الشركي أفضل في صياغتها اللغوية من الأصل الفرنسي، على ما قد يبدو في ذلك من مفارقة!

في المقابل، نجد أن صديقنا بن جلون، تلك الليلة، لم يكلِّف نفسه عناء التساؤل عن اللغة التي كتب بها صنع الله ابراهيم، والغيطاني، وحنان الشيخ وأصلان، ابرهيم عبدالمجيد، وسليم بركات ورؤوف مسعد، ومي التلمساني وميرال الطحاوي، والبساطي، الذين تُرجمت نصوصهم الى الفرنسية، ولعله قرأ بعضها أو سمع أصداء طيبة عنها... تجاهل ذلك، واكتفى باستشهاد مبتور يشير فيه أدونيس الى ان اللغة العربية لم تعرف بعد شاعرها العظيم. وأين نضع أدونيس نفسه وهو شاعر كبير بكل المقاييس، وكذلك سعدي يوسف ومحمود درويش وعبدالصبور، وحسب الشيخ جعفر، واللائحة تطول؟

ان نزع القداسة عن اللغة (desacralisation)، وهو المصطلح الذي احتمى به الطاهر لإنكار امكان الإبداع بحرية في اللغة العربية، يبدو سطحياً في هذا السياق، ذلك أن الكتابة الأدبية هي بالضرورة مغايرة للتقديس، مُعارضة لاستنساخ المعجم الموروث. الكتابة نصوص تستوحي الحياة وتفاصيلها وأحلامها، واللغة في حدّ ذاتها ليست موقوفة على مشاعر أو أفكار أو موضوعات بعينها. وهذا ما تحقق في الماضي، منذ الجاهلية ومروراً بشعراء المجون والخلاعة واشراقات المتصوّفة، ووصولاً الى النصوص الحديثة التي تستبطن بجرأة، أغوار النفس والجسد، ومروراً بالنصوص المترجمة الى العربية التي استقبلت جويس وبروست، وجان جوني، وهنري ميللر...

وحتى نبقى في الدائرة الضيقة التي ربط فيها بن جلون بين عقبة اللغة «المقدسة» والتعبير بحرية عن تجارب الجسد والموضوعات المحرَّمة، أريد أن أُذكره ببعض النصوص الروائية المكتوبة بالعربية، والتي – لو اتسع وقته الثمين لقراءتها – لاندهش لقدرتها على الغوص في كل ما يظن أنه ممتنع عن الروائي الذي يتوسل بلغة تحتوي نصّاً مقدساً وأساسياً في صرح الثقافة العربية – الإسلامية. انني أسوق هنا نصوصاً لم تُترجم كلها الى الفرنسية، فأذكر، على سبيل المثال، الخبز الحافي لمحمد شكري وهو نص قد ترجمه بن جلون نفسه الى الفرنسية، و «تلك الرائحة»، و «بيضة الديك» لرؤوف مسعد، و «مسك الغزال» و «انها لندن يا عزيزتي» لحنان الشيخ، و «الجنون العاقل» ليحيى ابراهيم، و «برج العذراء» لإبراهيم عبدالمحيد، و «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوافي، وصولاً الى «خارج الجسد» لعفاف البطاينة و «اكتشاف الشهوة» لفضيلة زينون... لو قرأ صديقنا الطاهر هذه النصوص في لغتها العربية، لأحس بالخجل من ما تفوه به خلال ذلك البرنامج التلفزيوني، مقدماً نفسه وكأنه رائد في الكتابة عن الجنس والجسد، لأنه لا يعاني من وطأة تقديس اللغة العربية! وأنا هنا، اقتصر على الجانب الضيق الذي استند اليه في اصدار حكمه المجانب للحقيقة، وإلا فإن الانتاج الروائي العربي واسع ومتنوع في فضاءاته وثيماته، يشهد على حيوية اللغة والتخييل العربيين على رغم شروط التدهور السياسي والأزمة الايديولوجية القاتلة. صحيح ان هذه الشروط السالبة تعتم على الحداثة الأدبية والفنية العربية وتتهددها، الا ان ذلك ليس مبرراً لطمس نقط الضوء الابداعية التي تقاوم، من داخل المجتمعات العربية وبلغتها، الاستبداد والشوفينية والتحجر اللغوي، والفكر الماضوي...

لكم تمنيت لو أن الطاهر – وهو سفيرنا الذي لم ننتخبه الى الثقافة الغربية – أن يغتنم فرصة الحوار عن الفرانكفونية وعلائقها بلغات الشعوب المستعمرة سابقاً، ليشرح لملايين المشاهدين، قيمة الانتاج الأدبي العربي الذي يعاني من شروط قاسية مثل الأمية، وتعثر توزيع الكتاب وتسويقه بين الأقطار العربية، وتهديدات المدّ الأصولي... لقد كانت فرصة ثمينة ليُبدي بن جلون بعض الكرم والأريحية تجاه الثقافة العربية التي تترجم رواياته وتُصفق لنجاحاته، ليبرز بعض الجوانب المضيئة في تجربتنا الأدبية التي حققت الشيء الكثير على رغم غياب الشروط المريحة التي يستفيد منها زملاؤنا الكاتبون بلغة أجنبية.

ان صداقتي للطاهر، منذ 1971، لم تمنعني قط من مصارحته وانتقاد بعض نصوصه ومواقفه، ولو أن الظروف باعدت بيننا فلم تعد لقاءاتنا الا عابرة. وهو يذكر أنني بادرت الى ترجمة قصيدته الطويلة «حديث الجمَل» ونشرها في كتيّب، وأن الصديق كاظم جهاد ترجم له نصوصاً شعرية أخرى، قبل أن تصبح ترجمة رواياته جزءاً من الترويج ومقتضيات الشهرة... لذلك أُبيح لنفسي أن أقترح على الطاهر أن يخصّص سنةً لقراءة قصائد وروايات من الأدب العربي الحديث، وأن يقرأها بلغتها الأصلية حتى يُغير من حكمه المغلوط عن قصور اللغة العربية، وحتى يضطلع بمهمته على أحسن وجه كلما أخذ الكلمة في وسائط الاعلام، لأن الجمهور المتلقي الأوروبي بحاجة الى أن نشرح له أن العربية التي نزل بها القرآن هي لغة متطورة، مرنة، تنتج اليوم نصوصاً ابداعية جميلة وجريئة، وتُجسد الوجه المشرق، المقاوم للأصولية المنغلقة، والطهرانية المصطنعة.

أما دنيوة اللغة، أي لغة، فهي مسألة طبيعية وحتمية، لأنها ملتصقة بسيرورة العلائق وصيرورة الحياة، وهذا هو الجانب الذي يُسهم فيه الأدب العربي الحديث بقوة وشجاعة.


رد الطاهر بن جلون
أنا عربي ولا أقبل درساً من أحد
صحيفة الحياة، 29 مارس 2006

حللت ضيفاً على برنامج ثقافي تقدمه القناة الفرنسية الثالثة للحديث عن روايتي الجديدة «رحيل» الصادرة حديثاً عن دار غاليمار للنشر. وهذا البرنامج ليس مباشراً بل سجل قبل أيام من البث. تحدثت كثيراً وحذفت عملية المونتاج كلاماً في سياق تفسير علاقتي باللغة العربية. انها علاقة حب وإعجاب وتقدير، بل قل علاقة تقديس إلى درجة أنني شخصياً لا يمكنني قطعاً استعمالها كأداة للتعبير، نعم، قلت، أنا شخصياً تستعصي عليّ هذه اللغة المتينة القوية... وبقدر ما أحترمها أمتنع عن الكتابة بها لئلا أشوه صورتها الجميلة. فأنا، أكرر مرة أخرى، شخصياً، لا أقدر على التعبير بها عن المواضيع التي أتناولها... ومن هنا برزت بعض النيات التي تفهم موقفي جيداً وتتفهمه وقرأتْ كلامي خارجاً عن سياقه قراءة ملتبسة بأهداف وأغراض في نفس يعقوب.

جرت العادة كلما أصدرت عملاً جديداً ولقي إقبالاً ناجحاً أن يتهافت بعض المتهافتين لإشهار مسدساتهم وإبراز أحقادهم وأجسادهم. ولم يكن ذلك يُفسد قط، فالابداع قضية. عندما قمت أخيراً بزيارة المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء بدعوة مشكورة من اتحاد كتاب المغرب ووزارة الثقافة لم ير البعض بعين الرضى تلك الدعوة، وما زاد في الطين بلة نجاح الزيارة في كل المقاييس والمعايير، وكان اللقاء مع ضيوف المعرض من أطفال وشباب وشيوخ داخل قاعة مملوءة حتى آخرها... لقاء متميزاً باعتراف النبلاء الحقيقيين والصحافيين الأجلاء. وهكذا حرص البعض بنيات مبيتة على متابعة كل مداخلاتي هنا وهناك وتصريحاتي هنا وهناك، علهم وعساهم يجدون زلة أو كبوة يستغلونها لتصفية حساباتهم مع ذواتهم... أخرجوا الكلام عن السياق ومع الكلام أخرجوا أقلامهم المملوءة بمداد الحقد والكراهية والضغينة، بعدما أتعبهم الكلام الفارغ الذي لا يجدي نفعاً في المقاهي والصالونات وأمام الكاميرات بالشهادات المزيفة التي لا تقنع حتى الناشئين المبتدئين... هؤلاء الذين لا توزع أعمالهم كما يطيب لهم أن يحلموا، أحلامهم أضحت أوهاماً، أخذوا الطباشير ووقفوا أمام السبورة ليصبحوا معلمين يعطون دروساً عن الهوية وعشق اللغة العربية، مع أن شغلهم الشاغل هو أن تترجم كتبهم إلى اللغة الفرنسية... يكتبون، ويوزعون بالأيادي، ويكاتبون، ويهتفون، ويتصلون ويبحثون عن الوساطة مع دور نشر فرنسية، وحين لا تتحقق الأهداف كما يشاؤون ينصّبون أنفسهم مدافعين عن لغة الضاد. وحتى حين يكتبون مقالات أو دراسات عن الأدب المكتوب بالعربية فهم يتجاهلون بالواضح المكشوف الأدب المغربي والكتاب المغاربة ما عدا استثناءات نادرة.

ويكتبون عن أهل اليمن ومصر وسورية ولبنان وهَلُمَّ مَشْرِقاً علّهم وعساهم يضمنون الاعتراف، مع العلم أن هناك كتاباً مغاربة يكتبون بالعربية وأكن لهم أكبر تقدير. وغالبية الكتّاب الذين يكتبون عنهم وينوهون بمؤلفاتهم هم كتاب يعيشون داخل أوساط سياسية وثقافية (أحب من أحب وكره من كره)، وجلها لا يؤمن بحرية التعبير، وجلها يعيش الرقابة السياسية والذاتية وانعدام الحرية، وهذا ينعكس سلباً على اللغة العربية العميقة التي بإمكانها أن تقول كل شيء. وقد ذكرت مثال «ألف ليلة وليلة» خلال البرنامج السالف الذكر، قبل عملية المونتاج، فالخطأ ليس في اللغة بل في من يستعملها داخل مجتمعات لا تعرف لحرية التعبير الحقيقية سبيلاً، وسياسات لا تفقه من أساليب السياسة إلا العنف والرقابة... فأنا عربي بالخدمة ولست عربياً في الخدمة، ولو طبل المطبلون... ولا أقبل الدروس من أي كان، حول هويتي وعشقي اللغة العربية، وأنا مستعد للنقاش شرط أن يتسم النقاش بالجدية والمعقولية.