حول فيلم أميرة وقضية النطف المحررة

مئة أميرة وأمير: صناعة الحياة

لطالما شغلتني قصص النطف المحررة، حتى كتبت عنها قبل سنتين قصة بعنوان: (المتحف).
صناعة الحياة وسط كلّ الحصار، في ظل محدودية الموارد وشحّها المقصود، وفي حيّز مجبول ببغض وحقد السجان، هي بطولة بحدّ ذاتها. يضيق الاحتلال على الأسير، ويسلبه حريته الشخصية والمكانية، وفعل ما يريد، حاصراً كل خياراته، حتى في المأكل والملبس، تماماً كما يحرمه من الذرية التي يرغب بها، خاصة إذا ما حُكِم مؤبداً، أو جمع تلك الكلمة التي لا سقف زمني لها.
ما تحدثت به سناء سلامة، زوجة الأسير وليد أبو دقة، ووالدة (ميلاد) في فيديو لها البارحة، من عناء إجراء فحص DNA وغيره، لزيارة الطفل/ة أبيه/ا لأمر في غاية الألم والمرارة، وهي وغيرها من الزوجات يقمن بهذه الخطوة الموجعة لحظوة الزيارة، ومقاهرة السجان معا. خاوى يعني. والخاوى هذه مهمة في معادلات السجن والسجان.
لِمَ أتحدث عن سناء بالتحديد؟ لأنها تخوض معركة تسجيل (ميلاد) في سجل الاحتلال المدني باسم وليد، هو الذي كتب عقب ميلاد ميلاده: "الآن، أصبح لاسمي معنى".
كل النساء اللاتي يخضن هذه التجربة الفريدة من صناعة الحياة هن نساء شجاعات، شرسات، قويات، جدعات، وكل هذه الأوصاف ليست كليشهات إطلاقا، وإنما حقيقة ماهيتهن. فهن يواجهن تحديات مستمرة، من ضغوطات عائلية ومجتمعية، وعقوبات سجان بحق أزواجهن، وبحقهن، وبحقّ أطفالهن.
لم أشاهد الفيلم بعد، ولا اعتقد أن مشاهدته تعد ترويجا له على الإطلاق، ولا رفاهية اختيار ليبرالية.
لكن بشكل أولي، ومن كل قطع ال puzzle التي جُمّعت عن الفيلم حتى اللحظة، علماً أن رأيي ليس ذات قيمة، ولكن أعتقد أن طاقم الفيلم لم يضع نفسه إطلاقا في حذاء الأطفال، ونفسيتهم، وسيكولوجيتهم، وهم الأهم برأيي.
ربما اللهاث وراء اختلاف (هجين) هو السبب، لكن اختيار موضوع عميق كهذا، يحتاج الى استشارة أهالٍ مروا بالتجربة، وأخذ موافقتهم إزاء سيناريو، يحاكي تجربتهم المقاوِمة والنادرة معا.
"فهذا لا يحدث الا في فلسطين"
إن فلسفة الأصل وبداية الخلق المدّعاة من الطاقم، هي اختزال قصص في غاية الروعة والذهول، وتهكم عالٍ على منيّ قد وجدت طريقها لتُزرَعَ في أرحام  أُعدّت وهُيّأت واستقبلت بفرح، واحتضنت (ثمرات) حبّ ومواصلة حياة، تهكم بحق تضحيات بعلاقات حب طبيعية، كسائر العلاقات الإنسانية، لزوجين لهما كل الحق بالتمتع في ممارسة الحب، لكنهما لم يستطيعا (وليس لم يقدرا)وهناك فرق بين الاستطاعة والقدرة، بفعل واقع احتلال لاإنساني.
الفلسفة هنا هي ليست جدلية الفكرة والمادة، الأصل والاستنساخ، وإنما هي عدم الوفاء لكل لحظات الخوف والجنون واليقظة، والأحلام، والأدرنالين المتدفق في الخلايا أثناء التنفيذ و"التحرير" والتفتيش المباغت، والفحص المخبري بعدها، وليال من التفكير المحفوف بالمخاطر والتخطيط، والاحتمالات، والأسئلة المنهمرة. الفلسفة هنا اختزال غير موفق لكل الملابس المتناهية الصغر التي ابتيعت بمحبة كبيرة، والصوف المنسوج، وخيوط ال dmc المنتقاة لتطريز فستان بهيّ. هي كل تلك القبلات المتفجرة على صور محمضة لطفل يضحك وأب يلبس بدلة بنية، هي المهد الخشبي، وأول خطوة، وأول كلمة (ماما) و(بابا)، وأول يوم في المدرسة، وأول رسمة لعائلة سعيدة، وكل البدايات.
نبل الفكرة واقتناء حلم مادي من لحم ودم، يتذوق ويتنفس، ويضحك ويبكي من لدن الاستحالة هي فكرة جديرة بالاحتفاء والتكريم، وليس للتشكيك وجموح الخيال العلمي واللاعلمي حولها، ليس لشيء، وإنما احتراماً لذرية لم تنضج بعد. فأكبر سفير حرية لدينا ما زال قيد الطفولة، ومرحلة تشكيل الهوية.
شخصياً، أحبّ الحكايا لقلبي، تلك التي تنطط من مكانه فرحاً بها، هي قصة الطفل (علي)، الذي حضر عرس أبيه وأمه بعد ١٥ عاما، وتنغيصات بسابق الإصرار والترصد. قصة (علي) بنظري تفوق كل السيناريوهات الهوليودية بالعالم المادي والماورائي. أذكر المحرر صلاح حسين، زوج شيرين، في حديث له- حاولتُ جاهدة اليوم البحث عنه ولم أجده- أنه وزوجته استشاروا طبيبة نفسية، لكي يحضّروا (علي) نفسيا، وبالتدريج، لاستقبال أبيه.
لو حضر طاقم الفيديو وعي صلاح وهو يتكلم، لعدلوا عن السيناريو، أسوة بأطفال وطفلات كالصغير (علي).
وبالرغم من كل ما أسلفت، أرى أن بيان طاقم الفيلم خطوة إيجابية، للاعتراف بالقصور والإقصاء الذي مارسوه، عندما صادروا حق الأهالي والأطفال في المشاركة والاستشارة، قبل البدء بفانتازيا فكرية لامتدادات نقية.
من المؤكد أن رأيي هو حكم مسبق لفتات ما شيع عن الفيلم فقط، ولكن مع هذا كله، لا أقبل الإقصاء والشتم وتخوين أحد. من المُعيب أن نكون شعباً يناضل من أجل الحرية، وننادي بها صارخين في كل الشوارع والميادين، ونمارس في الوقت ذاته الاغتيالات المعنوية بحقّ بعضنا. فليس من حقّ أحد مصادرة حق أحد في تشكيل/تبني رأي ما.
مشاهدة الفيلم حق للجميع، ومن حق الجميع إبداء رأيه فيه كله دون اقتطاع، ولأكثر من اعتبار.
أخيرا.. وبصراحة، جزء مني سعيد جدا، لأن الجميع الآن يتحدث عن الأسرى، وربما يحفّز الفيلم الكثيرين لكتابة وتدوين قصصنا التي لم نكتبها بعد، بدلا من أن يأتي أحدهم و يحورها لتكون أكثر إثارة. وأكرر هنا اقتباس الأسير المحرر مجد بربر من الأديب ابراهيم نصرالله: "أتعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنّها تصبح ملكاً لأعدائنا".