لن نستسلم :ننتصر أو نموت بقلم: د. محمــد فتحى فوزى


هكذا كان عُمر المختار أسد الصحراء، كلماته فاصلة إما النصر أو الشهادة، كلمات فاصلة ثابتة على الطريق، لا تأبه بالموت فى سبيل الوطن ،والشهادة الحتـمية لــــه

فهو السيد: عُمر بن مُختار بن عُمر المنفي الهلالي20، وُلِد فى أغسطس 1858-الموافق 10 محرم 1275هـ ، وأُستشهد فى سبتمبر 1931- الموافق 3 جمادى الأولى 1350هـ، وشهرته "عُمر المُختار"، تعددت ألقابه من شيخ الشهداء، إلى شيخ المُجاهدين، فأسد الصحراء، معروف بقائد أدوار السنوسية في ليبيا، ومن أعلام المقاومين العرب والمُسلمين. ينتمي إلى بيت فرحات من قبيلة منفة الهلالية التي تنتقل في بادية برقة. وُلد عمر المختار في البطنان ببرقة في الجبل الأخضر ، ورعاه أبوه وعني بتربيته تربيةً إسلاميَّة حميدة مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على القرآن والسنَّة النبويَّة. ولم يُعايش عمر المختار والده طويلًا، إذ حدث أن توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكَّة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور) بأن يُبلّغ شقيقه بأنَّه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد. وبعد عودة أحمد الغرياني من الحج، توجه فوراً إلى شقيقه الشيخ حسين وأخبره بما حدث، وبرغبة "مختار بن عمر" بتولى شئون ولديه، فوافق من غير تردد، وتولّى رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى. وخلال تلك السنوات التي قضاها عمر المختار ، تمكَّن من اكتساب سمعةٍ حسنةٍ وقوية عند شيوخ الحركة السنوسية. وقد بلغت تلك السمعة  مداها؛ فقرَّر محمد المهدي السنوسي - ثاني زعماء السنوسية - أخذ عمر المختار معه سنة 1895 برحلته إلى الكفرة في جنوب شرق الصحراء الليبية، وبعد هذه الرحلة اصطحبه مرة أخرى في رحلة من الكفرة إلى منطقة قرو في غرب السودان، وعيَّنه هناك شيخاً لزاوية "عين كلك". ورُوىَ أنه في الطريق إلى السودان وبينما كانت تعبر قافلته الصحراء أبلغ أحد المرافقين للقافلة إلى وجود أسد مفترس بالجوار، واقترح تقديم إحدى الإبل كفدية لاتّقاء شره، بيد أن عمر المختار رفض ذلك وقال: "إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها لحيوان؟ والله إنها علامة ذلٍّ وهوان، والله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا»، ثم خرج الأسد فذهب إليه وقتله، وسلخ جلده وعلَّقه لتراه القوافل الأخرى، وبعد ذلك كل ما ذُكِرَت القصة كان يقول: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى". وقد مكث عمر المختار بالسودان سنواتٍ طويلة نائباً عن المهدي السنوسي، حتى بلغ من إعجاب السنوسي به أن أصبح يقول: "لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم".

 وبتوالى السنين وجد "عمر المُختار" نفسه قد تحوَّل من مُعلّم للقرآن إلى مُجاهد يُقاتل في سبيل دينه وبلاده لدفع الاحتلال عنها. وكان قد اكتسب خبرة كبيرة في أساليب وتكتيكات الحروب الصحراويَّة أثناء قتاله الفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ؛ليحصل على الأفضليَّة دومًا عند مجابهته الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها. أخذ المختار يقود رجاله في حملاتٍ سريعة معروفة بحروب العصابات التى تعنى الهجوم ثم الإختفاء ــ على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة؛ فيضربوهم ضرباتٍ موجعة وبعدها ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء. عمل المجاهدون الليبيّون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء، وإيقاع الرتل وراء الرتل في كمين، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي، وقد أصابت هذه الهجومات المسؤولين العسكريين الإيطاليين بالذهول في غير مرَّة، وأُحرج الجيش الإيطالي أمام الرأي العام في بلاده بعد أن لم يتمكن من إخماد حركة بعض الثوَّار البدو غير المدربين عسكريًّا.

فقد خاض الشهيد عدة مواقع حربية ضد الطليان وأنتصر عليهم فيها منها واقعة "بئر الغبى" و" أم الشفاتير – عقيرة الدم" ومن ثم رضخ الإيطاليون للمفاوضات من جراء ضربات المختار الموجعة ؛ فكانت مفاوضات السلام فى "سيدى أرحومة" ثم فى سيدى برويفع  مع "سسيشلياني"...،وفي شهر أكتوبر سنة 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثروا عقب انتهائها على نظّارات عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلًا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وأصدر "غراتسياني" منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على "أسطورة المختار الذي لايقهر أبدًا" وقال متوعدًا: "لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتي برأسه".

وبعد اشتباكات عدة تم أسر المجاهد عمر المختارفي عملية تطويق بوادي بوطاقة جنوب البيضاء   وتم الإعداد لمحاكمته وبعد استجوابه ومناقشته، وقف المدعي العام "بيدندو"؛ فطلب الحكم عليه بالإعدام. وكان لحضور المختار في المحكمة أمام خصومه أثرٌ في نفوسهم،وتصدى ضابطًا إيطاليًّا شابًا من رتبة نقيب يُدعى "روبرتو لونتانو"المحامي مدافعا عن الشهيد قائلا: "إنَّ هذا المُتهم الذي انتدبت للدفاع عنه: إنما يُدافع عن حقيقة كلّنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إنَّ هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًا له، ومن حقه أن يُقاومه بكل ما يملك من قوَّة، حتى يُخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية.. إنَّ العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء وإني آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إنَّ عجلته تدور وتسجّل ما يحدث في هذا العالم المضطرب"...

وتلى القاضى الحكم بإعدام عمر المختار شنقًا حتى الموت، وعندما تُرجم الحكم إلى عمر المختار اكتفى بقوله: "إنَّ الحكم إلّا لله".. لا لحكمكم المُزيَّف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"وفى اليوم التالى للمحاكمة وهو الأربعاء 16 سبتمبر 1931، اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز "سلوق" ؛ لتنفيذ الحكم  وسط عشرين ألف من الأهالى والمعتقلين والثائرين وتم تسليمه للجلاد فى التاسعة صباحا من ذلك اليوم وأزيز الطائرات يدوى فى السماء حتى لا يسمع المواطنون ما يقوله المختار من توصيات إذا أوصى ،وسار الشهيد إلى المقصلة بخطى ثابته، مؤمنا بقضاء الله وقدره متمتما بالشهادتين وتاليا:"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً." ، وبعدها عُلّق على المشنقة وفارق الحياة.فأقول مترحما" ولا تحسبن الذين قُتلوا فى سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون".، ومازال صدى صوته يتردد عبر الأزمان والأجيال": ننتصر أو نموت".!!!!

 د. محمـد فتحى فوزى مشرف صفحة متفرقات بجريدة " صدى المستقبل الليبية الورقية- أليكترونية.