لماذا يظن الكاتب أن القارئ سيكون متساهلاً

كانت أعمال أدونيس المنقحة، التي قال عنها ما يعني أنه ما دام على قيد الحياة فليس هناك ما يمنع من إعادة تشذيب القصائد أو إعادة ترتيبها: القصائد الطوال معاً والقصار معاً.. إلخ، حيث أنها فرصة لن تعود للشاعر بعد أن يموت- كانت لهذه الأعمال ومقارناتنا بين الطبعات المختلفة متعة نمسك بها فى فترة الجامعة إذ يستتبع المقارنة اختلاف ونقاش حيوي حول مدى توفيق الشاعر أو إذا كان من الأجدى تركه النص أو ترتيب الأعمال الكاملة على ما كانت عليه وهكذا.. كنا ننظر للأمر بغير قليل من الحسد لأنها بالفعل فرصة لن تتأتى بعد فناء الكاتب وانتهاء نصه الكبير، وفي كل مرة كان كل منا يسرح ويرى نفسه يفعل ذلك، لكن الواقعي فينا قال فجأة: ولماذا يظن الكاتب أن القارئ سيكون متساهلاً ويعطي وقته لنفس المؤلف ويسعى إلى اقتناء تجليات كل مرحلة من مراحله الإبداعية وينفق الساعات فى المقارنة، اللهم إلا إذا كان متخصصاً فى نصوصه بشكل أكاديمي أو غيره؟ وصمتنا لنفكر.. ومرت الأيام وأصدرت كتباً وفوجئت بأن الرعب يتملكني من العودة لقراءتها كي لا أفتح على نفسي طاقة توتر لا تنتهي حيث أني بالتأكيد ودون ريب سأندم على صياغة ما كتبته فى موضع ما وأفكر فى صياغة أخرى أرى ساعتها أنها الأوفق أو حتى سأندم على جملة أو فقرة أو حتى نصٍّ كامل أرى أنه يبتعد بمسافة عن تناغم أجزاء الكتاب معاً.. هذه النتوءات ستكون سبباً فى نزول قطرات عَرَقٍ واضطرابٍ فى ضغط الدم سيستمر حتماً كلما هلت ذكراه، لهذا أعدو بعيداً عن كل كتاب صدر وتغير انتماؤه من الخفاء فى أدراجي للعلن.. لكن الأمر لا يخلو من الكارثة إذا طُلب منك مثلاً أن تجهز مختارات من دواوينك السابقة، ستكون المأساة ساعتها واضحة وجلية ولها وقع الفضيحة.. انقسم المبدعون حول هذا الأمر، فالبعض رأى أن الإبقاء على النصوص كما كانت وفق مرحلة الوعي والفنية التي أُنتجت فيها أقرب إلى الصدق الفني وإلى ملاحظة تطور واختلاف توجهات ومفردات وصياغات وأولويات كل مرحلة مقارنة بالمرحلة التالية، بينما البعض يتعامل مع الأمر ببساطة فيرى أن الفرصة إذا كانت متاحة اليوم- خاصةً أن توفّر فرصة للنشر فى بلادنا تعني فى الأغلب نشر كتاب جديد وليس إعادة النظر فى كتاب فات- فالأولى أن نتمسك بها فى محاولة منا لتقديم وعينا اليوم لقارئ ماكر ومتسع ويجيد المقارنة بين الكُتَّاب كما يجيد التعالي والتجاهل ببساطة وإعلان الملل بإزاء مشاريع كان يظن أصحابها أنها أقرب للاكتمال..