من مجموعة بالصدفة والمواعيد

لقاء مع كل شيء

أحب دور العبادة العتيقة.  أدخلها فأشعر بالشحنة الروحية الكامنة فيها والمتراكمة من صلوات عشرات الأجيال المتعاقبة وتضرعها ودعواتها ونذورها، والخشوع والتواضع والرهبة والأمل الخالد والاطمئنان الراسخ لعدل الإله ورحمته. أتحسس جدران أضرحتها وغرفها المقدسة فأسمع أمًا تتمتم بالصلاة من أجل نجاح ابنها، وأخًا يدعو الله أن يمن على أخته بالشفاء. يترامى إلى قلبي صوت عاشقة تنذر طعامًا للفقراء يوم عودة حبيبها سالمًا من غيبته الطويلة. تهزني من الأعماق دموع الثكالى يتضرعن إطفاء النار المتلظية في قلوبهن طالبات الصبر على الامتحان الرهيب. وأرى بمحبة من يتوسلون خبز يومهم ويطلبون رزقًا يقيهم مذلة سؤال الناس ويسترهم من مهانة الفقر.

أرى بمشاعري وأسمع بقلبي، ومع كل خطوة تتسرب إلى روحي تلك الطاقة العجيبة المتدفقة من أعمق نقطة في أرواح من سبقوني إلى دخول ذلك المكان المقدس وتركوا بين جدرانه أرهف مشاعرهم وأكبر مخاوفهم وأقسى أحزانهم وأبهج آمالهم وأمانيهم، وتوقهم المتقد إلى العدل والرحمة والسماح ..

في معبد "بوذا الزمردي" في بانكوك جحافل من الناس تسير بهدوء ونظام وصمت تام لا يخرقه إلا قرع الأجراس الخافت. رائحة البخور والأقدام الحافية وعرق الكد تفوح في كل مكان. تنفث الأنفاس في الجو خشوعًا وسكينة فأعيش درجة من السلام الداخلي لا تزورني إلا لمامًا. كلهم يلقي بصدقاته القليلة في صناديق النذور تصحبها أحلامه وآماله ودعواته بسكينة القلب والروح.

رأيتهما في حجرة صغيرة. أمام منضدة عالية وقف راهبان بملابسهما الزاهية بلون الزعفران. على وجهيهما قناع يغطي الأنف والفم بإحكام. بجوار كلٍ منهما عدة قوارير تضم رمالًا متعددة الألوان. بأدوات دقيقة تشبه الأقماع والحقن الصغيرة ينقلان الرمل الملون إلى المنضدة ويضعانه بتركيز عميق في أشكال متنوعة متشابكة شديدة التعقيد. يبدأ كل واحد عمله على سطر واحد لا يتجاوز عرضه الميلليمتر. يتحرك كلٌ منهما من أحد طرفي المنضدة العريضة. بتؤدة وهدوء تتحرك أيديهما حتى تتلاقى في منتصف المنضدة تمامًا ويتصل السطر مستقيمًا لا عوج فيه دون كلمات أو تعليمات. تتكرر تحركاتهما المدروسة الصامتة فتتشكل خطوطًا رقيقة من الرمل الملون. تتجاور خضرة الزرع وزرقة السماء وذهب الشمس وحمرة الدم في أشكال جميلة؛ من أوراق شجر إلى بتلات زهور إلى وجوه ضاحكة إلى رموز غامضة ومربعات ومثلثات ودوائر متناهية الصغر. بالصبر والدأب تتلاقى الألوان المبهجة في أنماط متشعبة متكررة ..

تأملت عملهما في صمت تام وانبهار غامر بذلك التفاني الكامل. بعد ما يقرب من ساعة، سألت مرافقي الذي وقف صابرًا طيلة ذلك الوقت كي لا يشتت انتباهي:

ما هذا؟ ماذا يفعلان؟

لا يجب أن نتكلم هنا .. تعال ..

خرجنا من الغرفة الصغيرة. في الساحة الداخلية للمعبد وجدنا ركنًا منزويًا وقفنا فيه حتى لا نعترض تيار البشر المتدفق في كل اتجاه. قال:

إنهما يقومان بدورهما في رسم (الماندالا) الرملية الشهرية ..

وما هي (الماندالا)؟

مع مولد هلال كل شهر قمري، تخرج مجموعة من الرهبان من الدير متجهة إلى شاطيء النهر لجمع الحصى والزلط والحجارة. لا يستخدمون المعاول أو المكاتل أو أية أدوات من أي نوع. ينزلون على الركبتين، وبأطراف الأنامل ينتقون الحصى والحجارة واحدةً واحدة بمنتهى العناية والتدقيق مخافة إلحاق الأذى بنملة أو دودة أو حشرة أو أي كائن حي يعيش بجوارها. يعبئون ما يجمعونه في حقائب مخصصة له ويعودون به إلى الدير. وفي عملية تستمر لساعات طويلة، يطحنون الحجارة باليد في هاونات ضخمة حتى تتحول إلى ذرات رمل لا تكاد تُرى وهم يتمتمون في سرهم طول الوقت بالأدعية والصلوات. بعدها ينقلون الذرات الناعمة إلى ورشة مجاورة حيث يقسمونها إلى كميات متساوية يصبغونها بألوان عديدة. كل الصبغات التي يستخدمونها مستخلصة من النباتات، لا تدخلها كيماويات وليس فيها أي مكون من غير خير الطبيعة المعطاء. ثم يحملون الرمل الملون في قواريره إلى الغرفة التي تحتضن منضدة (الماندالا). بتوجيه من كبيرهم، يتفقون على الخطوط العريضة لرسمة ذلك الشهر وما ترمز إليه وما تحمله من معان، ويبدأون التنفيذ مع فجر اليوم التالي. لا يتوقف العمل للحظة واحدة طيلة شهر بكامله. تدخل وردية من راهبين يضع كل منهما قناعًا يغطي الوجه والأنف حتى لا تؤثر رطوبة الأنفاس على ثبات الألوان، وتفاديًا لبعثرة ذراته لو اضطر أحدهما للعطس أو التثاؤب. لكل رسام حق الارتجال والابتكار في الأشكال التي يخلقها ولكن في حدود الخطوط العريضة المتفق عليها كما قلت لك. يعملان، كما رأيت، في صمت تام لمدة ثماني ساعات دون طعام أو شراب او لحظة راحة أو حتى دخول الحمام. ثم تأتي الوردية الثانية وتلحقها الثالثة ويستمر العمل على مدار الساعة طوال الشهر. وفي اليوم الثلاثين، تكتمل اللوحة المقدسة ..

وبعد ذلك؟

يفتح الرهبان القاعة لزوار المعبد لمدة نصف ساعة لتأمل الصورة المتكاملة. ثم يغلقون عليهم الباب لفترة تأمل وصمت. بعد انتهائها يقيمون صلاة جماعية. بعد ختام الصلاة، يقترب كل من شارك في صنع (الماندالا) من المنضدة، يمد يده إلى جزء منها ويدمره ويبعثر ذرات الرمل الملونة في كل اتجاه ..

لم أصدق ما سمعته. بذهول قلت:

يدمرونها؟ بأيديهم التي صنعتها؟ يدمرونها ويبعثرون الرمل في كل اتجاه؟ بعد كل ذلك الجهد؟ هذا شيء يتجاوز حدود فهمي ..

قال بأناة:

هذا هو درس (الماندالا) ..

كل شيء عابر وزائل ..

لا يغترّ أحد بما صنعت يداه ..

لا يتباهى أحد بما أنجزه ..

كل شيء إلى زوال، مهما كان جماله، ومهما كان الجهد المبذول فيه، ومهما كُرِّس له من تفان وتقديس. كل شيء وقتي وعرضي وفان. ويجب على المؤمن الصادق ألا ينسى هذه الحقيقة الأزلية أبدًا ..

هذا درس عظيم .. لكنه مفرط القسوة في رأيي ..

القصة لم تنتهِ بعد. لل(الماندالا) درس ثان. بعد تدمير اللوحة، يجمع الرهبان كل ذرة من ذرات الرمل الملون ولا يخلفون منها وراءهم واحدة، يضعونها في أكياس بورِكت خصيصًا لهذا الغرض. يعودون بها إلى ضفة النهر، يسكبونها في مائه الجاري وهم يرتلون الصلوات. تغوص حبات الرمل الملونة في المياه آخذةً معها كل الجهد الذي بُذِل فيها، وكل الحب الذي بثته فيها أنفاس الرسامين، ونور البصر الذي خفت في تشكيلها رسومًا، وكل التقديس الذي أُسبِغ عليها، وكل الرقة التي وُزِّعت بها في أرجاء اللوحة، وكل الخشوع الذي صُبّ صبًّا في طحنها وتلوينها والرسم بها، وكل التضحيات التي بُذِلت حتى تكتمل الصورة ..

تذوب حبات الرمل، ومعها كل تلك المشاعر الرهيفة النبيلة، في المياه..

يحملها النهر في جريانه المتدفق حتى تسقي الحقول والغابات، وتتجسد زهورًا وثمارًا ومحاصيل، وتتخلل مسامّ الناس طعامًا وشرابًا بل ومع غسيل الملابس على ضفة نهر الحياة الكريم ..

كل شيء عابر وزائل .. إلى حين ..

كل ما يزول، يعود في دورة الحياة التي لا تتوقف ..

ويجب على المؤمن الصادق ألا ينسى هذه الحقيقة الأزلية أبدًا ..

أحسست بنور غامض يشع من داخلي، ويغمر كل ما أراه للحظة عابرة بطمأنينة قدسية ..

كل شيء إلى زوال ..

كل شيء إلى دوام ..