كُلُّ كِتَابَةٍ سَارَتْ عَلَى الطَّريقِ المستقيم فَقَدَت مِلْحَهَا

كُلُّ كِتَابَةٍ سَارَتْ عَلَى الطَّريقِ المستقيم فَقَدَت مِلْحَهَا

لم يعد هناك نقاء عرق في الكتابة

الكتابة ضد الضبط والتحديد والتأطير والتصنيف

لاقداسة للنوع ..والكتابة اسقاط للحدود

جمال الابداع لايخلو من المصادفة والعفوية والكشف والفوضى والبكورية

تعالقتِ النصوصُ، وَتَهجَّنتِ الأنواعُ وَتَدَاخَلتِ الفنونُ، وَصَارَ الشِّعْرُ يَأْخُذُ من السَّرْدِ، ولم يَعُدْ هُناك "نَقَاءُ عِرْقٍ" في الكِتَابةِ، التي أراها تَغْتَنِي بالمزجِ والتلاقُحِ.

فالكتابةُ إِنْ لمْ تُخَلْخِل الشَّكْلَ والنَّوْعَ صارت قَالَبًا جَامِدًا، لا تَسْعَى نحو الاختراقِ والبِنَاءِ الجَدِيدِ، غَيْرِ عَابِئَةٍ بِأنَّ كُلَّ جَدِيدٍ عَلَيْه أن يتجاوزَ الشروطَ والمواضعاتِ والوصفاتِ الجاهزةَ، وأَلاَّ يَسِيرَ في أرَضٍ مَحْروثةٍ سَلَفًا.

صَحِيحٌ أَنَّني أَكْتُبُ كِتَابًا نثريًّا مَا بَيْنَ ديوانينِ، لكنَّني لاَ أُصَنِّفُ مَا أَكْتُبُ، وَلاَ أَضَعُ على الغِلاَفِ شيئًا، يَشْرَحُ أو يُنْبِئُ بالنَّوعِ

فقط أَكْتَفِي باسْمِي واسْم الكِتَابِ، وَأَنَا أٌفَضِّلُ مُصْطَلَحَ الكتابِ على الديوانِ أو المجموعةِ الشعريةِ، إذْ أَرَى أَنَّ الكتابَ أكثرُ عمقًا ورحابةً واتساعًا واستيعابًا لعوالمي ورؤاي وهواجسي وجُنوني على الوَرَقِ.

وربَّما يكونُ ذلك بِسَبِبِ صِلتي بالتراثِ العربيِّ القديمِ الذي احتفي – كما القرآن – بمفردةِ الكتابِ كمعنى ومصطلح.

فلم أَنْسَ – أن شيُوخي في التصوُّفِ قد استخدموا الكِتَابَ اسمًا وَصِفَةً تَسْبِقُ مُصَنَّفَاتِهم وتآليفَهُم التي امتازت بالتنوُّعِ والتجريبِ.

لا أضعُ كلمةَ "شِعْر" أو كلمة "نثر" على ما أكتبُ.

وأرى أَنَّ ما كَتَبْتُ يتداخلُ فيه الشعريُّ بالنثريِّ، إلى الدرجةِ التي أعتقدُ فيها أَنَّ كُلَّ كتابتي مَاهِيَ إلا سيرةٌ ذاتيةٌ لروحِي، أَوْ قُلْ: روايةٌ تتعدَّدُ أبنيتُها وَلُغَتُها؛ لكنَّ الشخصيةَ الرئيسيََّةَ فيها وَاحِدةٌ هُو أَنَا.

فَمَا هُو نَثْريٌّ في كتابتي يَنْفَتِحُ عَلَى مَا هُو شِعْريٌ، بل يُؤَوِّلُهُ بعيدًا من السُّقوطِ في فِخَاخ الشَّرْحِ والتفسيرِ.

الكِتَابةُ ضِدُّ الضَّبْطِ والتحديدِ والتأطِيرِ

والنصُّ لَيْسَ لقيطًا؛ كيْ نبحثَ لَهُ عن أَبٍ وَأُمٍّ، لَنًصِلَ إِلَى الاسمِ (النَّوْع) الحقيقيِّ لَهُ. أَوْ لِنُحَافِظَ على هُويتهِ منَ الفَقْْدِ أَوْ جِنْسِهِ مِنَ الانقراضِ.

إِذْ لابدَّ مِنْ الانزياحِ والخَرْقِ النوعيِّ لأَِيِّ جِنْسٍ أَدَبيٍّ، حَتَّى لاَ يقَعَ خَالِقُ النصِّ في أَسْرِ النمطِ، وسيادةِ الأُنْمُوذجِ.

فلا يوجدُ تَطَورٌ جماليٌّ، دونما أَنْ يكونَ هُناكَ زعزعةٌ للاستقرارِ، وَإقْلاقٌ للسَّائِدِ.

وأيُّ تمييزٍ سَابِقٍ – حتَّى مُنْذُ أَفْلاَطُون – بين نَوْعٍ أدبيٍّ وَآَخَر، لمَ يَعُدْ يشيرُ – على الأقلِّ بالنسبةِ لي – إلاَّ إلى أكثرِ من نَمَطٍ عَلَيَّ تجاوزُهُ وتخطِّيهِ، والذهاب نَحْو أَفْقٍ نوعيٍّ جديدٍ، يتوَّلدُ من دخولِ الشَّئِ في الشَّئِ، والبَحْثِ عن أسرارٍ أراها كثيرةً، ولا يمكنُ لها أن تَنْفَدَ برغمِ تعدادِ مُحَاوَلاتِ الابتكارِ والخَلْقِ والولاداتِ المتكرِّرةِ لنصوصٍ تُهَيْمِنُ في جِدَّتها.

لا أحتاجُ إلى قَاعِدَةٍ أَسِيرُ وُفْقَ بياناتِها وشروطِهَا، لأنَّ الفَنَّ ليسَ وظيفةً لها مِنْهَاجٌ وَأُسسٌ لا ينبغي تخطِّيها، وَهذَا لا يعني أنَّني أدعو إلى الفَوْضَى أو العشوائيةِ، ولكنَّ جَمَالَ الإِبداعِ لا يخلو من المُصادفةِ والعَفْويةِ والكشفِ والبكوريَّةِ والفَوْضَى التي تُنَظِّمُهَا الرُّوحُ، وَيَلُمُّها المبدعُ شِعْرًا أَوْ نَثْرًا، أَوْ هُمَا معًا عِنْدَمَا يَمْتَزِجَانِ.

فالنَّوعُ الأدبيُّ يتغيَّرُ جماليًّا، وَتَتَطَوَّرُ بِنْيَاتُه، وَلَمْ يَعُدْ ثابتًا أَوْ جَامِدًا، بل إنَّنا نراهُ في ثقافاتٍ أُخْرَى يسجِّلُ اختراقاتٍ مُتَسَارعِةً علينا أَنْ نَقْرَأَ دَلاَلاتِها الفنية.

والشَّاعرُ – مثلا – عندما يكتبُ لا يَنْشَغِلُ كثيرًا بنظرياتِ الأدبِ التي يُعَدُّ النوعُ الأدبيُّ أَهَمَّ موضوعاتِها أو انشغالاتِها، هو فقط ينشغلُ بِنصِّهِ، وَكُلٌّ يكتبُ اختراقَهُ حَسْبَ ما أُوتيَ مِنْ جَسَارَةٍ في المُغَامَرةِ والبَحْثِ.

لا أريدُ لأحدٍ أن يُنَمْذِجني أَوْ يُحَقِّبَنِي أَوْ يُصَنِّفَنِي أَوْ يُنَمِِّطَِني أَوْ يُجَيِّلَنِي أَوْ يُقَعِّدَني، لأنَّ في ذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا لِسَقْفِ الكتابةِ، التي هي – أساسًا – بلا سَقْفٍ أو تحديدٍ لسماتِها، إِنَّها تَنْمُو في اتحادِ الأَجْنَاسِ، وتترقَّى في الأَمْشَاج، وَتُفَارِقُ أَرْضَهَا في التداخُلِ والاختلاطِ.

إِنَّني أَفْهَمُ النَّوْعَ فَقَط في العُلوم الطَّبيعيةِ كمفهومٍ، لكنَّني لا أستسيغُهُ في الكِتَابةِ التي هي بِنْتُ الشَّاعرِ – كمثالٍ – وليست بِنْتُ عِالِمُ النباتِ أو الحيوانِ.

لاَ شَئَ ثَابِتًا في الكتابَةِ، فالثباتُ جُمُودٌ، وَتَخَلُّفٌ عن صِفَةِ الإِبْدَاعِ.

وَلاَ نَنْسَى أَنَّ هُنَاكَ أَجْنَاسًا أَدَبِيَّةً انقرضتْ أو تُرِكَتْ أو أُهْمِلَتْ، هَلْ آَخُذُ "الوَصَايَا" مِثَالاً عَلَى جِنْسٍ أدبيٍّ متروكٍ وَمُهْمَلٍ، حَاولتُ إِحْيَاءَهُ في كتابي "الوصايا في عِشْقِ النساء" – بأجزائِهِ المختلفةِ –، إنَّ جنسًا كهذا، لم يتطور، ولم يُدْرَسْ علميًّا، بل نادرًا ما نجدُ عنه إشاراتٍ أو دراساتٍ في كتبِ المتخصصين في تاريخِ الأدبِ.

سأحترمُ أرسطو في كَلاَمِهِ عن فن الشِّعْرِ، لكنِّني لن أَجْعَلَهُ بياني أَوْ سَقْفِي في رُؤْيتي للشِّعْرِ، وستكونُ إجابتي دومًا: إِنَّ من الصعوبةِ بل من المستحيلِ أن تُخْضِعَ الكِتَابةَ للتجنيسِ.

فالمزجُ ليسَ تجريبًا، لكنَّه أَدَاءٌ طبيعيٌّ وَفِطْريٌ للتعاشُقِ، تَعَاشُقِ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَر، سأستعيرُ "وحدة الوجود" من ابن عربي، وأغيِّر الوجودَ بالأجناسِ باعتبارها وُجُودَ خَالِقِ النصِّ وَمُنْشِئَِهُ.

أظنُّ أَنَّني أعيشُ في زمنِ التخُّلصُ من الجنسِ الأدبيِّ، بل ونَفْيهِ وإقصائِهِ من خَرِيطةِ الأدب. إِنَّني أرتاحُ كثيرًا في أَلاَّ أكونَ واحدًا، بل الواحد في اثْنَيْنِ حيث الحُلُول والاتحاد.

فَمَنْ عَاشَ إِلْغَاءَ الحُدُودِ، لن يُحِبَّ أن يعودَ مَرَّةً أُخرى إلى أَقْفَاصِ النَّوْعِ، وَسُجون الأَجْنَاسِ. إِذْ لا يوجدُ نصٌّ الآنَ لا يتحكَّمُ فيه "التناصُّ" بالمفهومِ الوَاسِعِ للمصْطَلحِ.

ومن ثم أَثِقُ في الخَلْخَلَةِ والزَّلْزَلةِ والتحطيمِ لكلِّ تصنيفٍ مُسْبَقٍ وَضَعَهُ عَالِمٌ أَوْ فَقِيهٌ أو فَيْلَسُوفٌ أَوْ مُنَظِّرٌ.

بَعْدَ مُسَاءَلةِ النُّوْعِ والشَّكِّ فيه، وأحيانًا الحكم عَلَيْهِ بالإعدامِ شَنْقًا مُستخدمِينَ حَبْلَ الجَدَلِ والحَدْسِ والبَحْثِ والكشْفِ؛ كيْ نَصِلَ إلى كُشُوفٍ جديدةٍ، فَلاَ بُدَّ مِن كَسْرِ النَّمَطِ، والتَّمَتُّعِ بِمُرُونةٍ وحيَويَّةٍ في التخلِّي والإِلْغَاءِ وعدمِ الرَّهْبَةِ من الأسْمَاءِ الغربيَّةِ الرنَّانَةِ التي كرِّست للنَّوْعِ الأدبيِّ، وَقَعَّدَتْ وَنَظَّرَتْ لَهُ. خُصُوصًا أَنَّ أَسْمَاءً أُخْرَى جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَنَقَدت تِلْكَ التنظيراتِ والقواعدَ الخاصةَ بـ "الجنسِ الأدبيِّ".

لاَشَكَّ أَنَّ النَّوعَ سَيَبْقَى مُحْتَفِظًِا باسْمِهِ، فالشِّعْر شِعْرٌ، ولكنْ لَنْ يَتَخَلَّى الشَّاعرُ عن الثورةِ والتطورِ، والإِلغاءِ والنَّفْي للحدودِ والاشتراطاتِ، وَتَجَاوزِ القديمِ، وَخَلْخَلَةِ المعاييرِ التي سَادَتْ كثيرًا وَكَانَت سَبَبًا رئيسيًّا في أَلاَّ يَصَلَ الشَّاعِرُ إِلَى سَمَاء رُوحِهِ، وَأَلاَّ يُبَارِحَ "المانيفستو" لِسَنَواتٍ طويلةٍ من شِعَرِنَا العربيِّ.

إِنَّ التجنيسَ لَيْسَ إلاَّ تصنيفًا بَحْتًا، وَعَلَيْنَا أَنْ نُعَوِّل عَلَى النصِّ؛ لأِنَّهُ الأَبْقَى وَالأَكُثرُ خُصُوبَةً بِحُكْمِ عَدِمِ نَقَائِهِ وَصَفَائِهِ على المستوى النوعيِّ، فَكُلَّما وَسِعَتْ سَمَاءُ النصِّ واستوعبتِ السَّابقَ والحَاضِرَ وَالمُجَايِلَ، صَارَ النصُّ قَادِرًا عَلَى التحقُّقِ والعَيْشِ والاستمراريةِ بِحُكْمِ غِنَاهُ وتنوُّعِهِ وَفَرَادِتِهِ، إِذْ هُوَ فَرْدٌ وَجُمَاعُ نُصُوصٍ، وَمَصْهَرٌ لأَِقْوَالٍ وَإِشَارِاتٍ وتلويحاتٍ.

أُعَوِّلُ دائمًا عَلَى المتلقِّي الذي يَقْرَأُ النصَّ دُونَ أَحْكَامٍ وَنَظَرَاتٍ مُسْبَقَةٍ من شَأْنها أَنْ تُكَبِّلَ القراءةَ، وَتَنْشَغِلَ بالجنسِ الأَدَبيِّ بدلاً عن أَنْ تَنْشَغِلَ بجمالياتِ النصِّ وَفَنيَّاتِهِ، فَلاَ شَكَّ أنَّ مُستَوى القراءةِ مُهِمٌّ في فَهْمِ النصِّ وَفَتْحِهِ على آفاقٍ وتأويلاتٍ عديدةٍ لا تتسمُ بالأحاديَّةِ والضِّيقِ سَوَاء أُضِيفَتْ صِفَةٌ أجناسيةٌ أم تُرِكَ النصُّ هَكَذَا حُرًّا من قيْدِ الجْنسِ أو أَسْرِ النَّوعِ؛ لأنَّ النَّصَّ في حُريَّةِ التَّرْكِ يَتَعَدَّدُ وَتَزْدَادُ تأويلاتُهُ، خِلاَفًا إِذَا صُنِّفَ، وَدَخَلَ إحدى المَرَاتِبِ، وَتَنَمْذْجَ وَصَارَ في قَالَبٍ.

الكِتَابَةَ عِنْدِي إِسْقَاطٌ للحدودِ.

ولطالما كُنْتُ أَُومِنُ – ومازلتُ - بالسياقِ لاَ الأَنْسَاق، رَافِضًا فكرةَ الكِتَابَةِ وِفْقَ "باترون" أو "مانيفستو" أو نموذجٍ موضوعٍ سَلَفًا، لأنَّ الكتابةَ ليستْ نُسَخًا مكرورةً كالأزياءِ، إنَّها one piece قِطْعَةٌ وَاحِدةٌ فقط، أي بمعنى آخر Hand made صَنَعَتْهَا يَدُ شَاعِرٍ أو كَاتِبٍ.

لاَ قَدَاسَةَ للنَّوْعِ

وَلَنْ يُصَلِّيَ المبدعُ أمام الجنسِ الأدبيِّ

وهو بذلك ليس خارجًا على الأخلاقِ المعرفيَّةِ، أو يضربُ ما هو تاريخيٌّ، لكنَّه – فقط – يَمْشي عَلَى مَاءِ الكِتَابَةِ حَالِمًا بأنواعٍ لن تُسَمَّى، وإِنْ قُدِّرَ لها أن تُسَمَّى، فإنَّه تَارِكٌ لها، وذَاهِبٌٌ نحو أشكالٍ أُخْرى سَيَبْتَكِرُهَا حَتْمًا.

لأَِنَّ الكِتَابةَ هي القَاعِدَةُ وَلَيْسَ النَّوْعَ.

وكُلُّ كِتَابَةٍ سَاَرَت عَلَى "الصراطِ المستقيمِ" فَقَدَتْ مِلْحَهَا.

وَلَنَا فيما تَرَكَهُ الشُّعَراءُ العربُ قَبْلَ الخليلٍ بن أحمد الفراهيدي أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

في الكتابةِ دومًا يكونُ النَّوعُ خَلْفِي لا أمامي.

لأنَّ في تَرْكِ النموذجِ فَضِيلَةٌ.