في الليـل لما خِلـى

إلــى / أمـــي – سيـــدة المكـان –

-1- – كَرَاملــة-

أدوية التخسيس التي أتناولها هذه الأيام جد مقرفة.

تبعث رائحة الدهن السائح مع اختلاطه برائحة شياط نابع من تحت الإبطين.

جعلتني أفقد شهيتي للطعام، وأنسحب ذلك على الحياة بوجه عام، خاصةً وأن علاقتي بالآخرين أصبحت يشوبها القرف.

توفى عمي اليوم في مستشفى القصر العيني . تلفن لي أخي مئات المرات لكي يخبرني انه يريد مبلغاً تحت الحساب لشراء ماكينة جديدة، يضيفها إلى ماكيناته الكثيرة، خاصة وان السوق في حالة ركود زائد، وهذه فرصة للاستثمار واستغلال الفرص.

ضحكت ونهرته بسخرية :

– نعم يا رأس مالي.

وقررت أن أفصل الكلمتين عن بعضهما، حيث تكون كلمة رأس مستقلة عن مالي.

أي أنه هو الرأس وأنا المال.

تعجب بشدة من إصراري على عدم شراء موبايل إلى الآن.

صرخت فيه فزعه:

*

عمك مات.

ضحك بفتور وهزر:

*

عمى الندل ؟ *

ولا عمى الحلو ؟

أنا مليش عم يا وزه .

هتجيبي الفلوس أمتى؟

أغلقت الخط في وجهه ساخطة.

*

ملعون أبو الفلوس.

فتحت الدولاب ، وفتشت داخله عن ملابس سوداء تليق بهذه المناسبة.

وجدتها جميعاً لا تصلح لهذه المناسبة المهيبة ، خاصة وأن جميع أفراد العائلة على اختلاف مستوياتهم سوف يحضرون الدفن، وفي هذه الحالة مسموح للنساء حضور الجنازة لأنه مات في مصر وسيدفن في البلد.

طبعاً هم لا يدركون كوني كاتبة أو حتى أهتم بالقراءة ، أو شئ من هذا القبيل.

ولكن ما يهمني هذه اللحظة هو أن ارتدى مايليق بأنثى تخطت الأربعين، وجربت مهانة الفقد ، ووقفت على غسل أمها، ووضعت زوجها من قبل في ثلاجة المستشفى، وسبلت عينيه.

ولأن تعليمي أتاح لي مكانه محترمة بين العائلة، وقررت أن أكون ملفته للنظر.

أى أنى أصبحت كبيرة – كبيرة فجأة.

واحتللت مكانة الأم في هذه المناسبات، وكما يليق بامرأة جربت الشجاعة ، والوحدة ، نزلت إلى السوق ، أشتريت أغلى تييراً رأته عيني.

كان فخماً ، أنيقاً يشبه جنازة رئيس أو حاكم عسكري.

وذهبت إلى المستشفى.

تحولت إلىّ الأنظار فجأة ، وكأن إمرأة مهيبه تدخل عليهم.

وساد الصمت .

فقدت إحدى النساء شجاعتها وصرخت:

– حبيبه يا أختى وبنت حبيبه

إلتف الجميع حولى مبهورين بهذه الأناقة المفرطة، وتركوا زوجة عمي مفردها.

تمسح عينيها الدامعتين بمنديل ورق.

كنت لأول مرة أجرب أهمية أن اكون مهمة ، أحظى باهتمام الآخرين.

وأجرب إلتفافهم حولي، دون ان يكون هناك موت يخصني، مثل موت زوجي ، أو أمي.

الموت اليوم يخص غيري.

ولكن الإلتفاف والإنبهار والنظرات تخصنى.

منذ أن ماتت أمي ، أصبحت النظرات تتجه نحوي ، بشكل من الإكبار والتبجيل ، كأنني احتللت عرش مملكه..

لقد حظيت بمهابه وجلال زادت من إحساسي بالرفعه ، والكبر ، والمهابة المقنعه بالحب والواجب والصمت والإجلال، كأن هناك طاقات من الإعزاز تفجرت دفعه واحدة، والأناقه زادت ذلك مهابه وغروراً.

توجهت نحو زوجة عمي بثبات وثقه، كأني كاتبه، تكتب النص، وتفرض تصوره على الأخرين.

وقبلتها في صمت .

وأمسكت بيدها وضممتها لصدري لحظة ، بحنو ودفء.

فعلت معها ما كنت أتنمنى أن يحدث معى سابقاً.

أن يأخذنى أحد قريب مني أو لديه دفء خاص ومتدفق ، ويضمني لصدره بقوة ، لحظة وداع أحبائي السابقين.

ولكن لأنه لم يفعل أحد معي هذا ‍‍‍‍‍‍

قررت أن أفعله أنا.

أأخذ من فقد حبيب له لحظة وداعه بين أحضانى ، واستخرج دفء وحنو السنين وأعطيه له دفعه واحده.

فأرتمت على صدري ، وراحت في نشيج طويل وقالت:

– راح . عمك راح.

هو ليس عمي مباشرة ، ولكنه قريب لأمي ، وتعودت بحكم السنين أن أناديه عمي.

أصر الرجال وهم يحملون النعش أن يبعدوا زوجته.

ولكنى أخذتها من يدها ، وركبتُ معها عربة الحانوتي ، أجلستها إلى جواري.

وضممتُ يدها إلى صدري في آسى.

وتنهدت‌ْ .

*

عمك رجع من الحروب سليم.

لكن السكر هزمه .

أنا وهى والنعش أمامنا ممدداً ، يتأرجح من رجرجة العربه على الطريق.

يوم وفاة زوجي أخذه أصحابه بينهم ، وكان سعيداً بذلك.

سعيداً بكره المألوف ، وترك عربة الحانوتي ورقد بينهم ممدداً داخل نعشه ، وهم حوله سعداء.

كان بودْي أن أكون معهم لحظتها ، ونخطفه ، أنا وهم ونطير. نطير به بعيداً.

ولكن ضلت العربه التى كنتُ بداخلها الطريق.

وذهبت في ناحية الدفن .

أصر أن أفقد الطريق كى لا أتبعه إلى النهايه وأراهم وهم يأخذونه مني.

ومن هذا المأزق الإنساني . أخذتُ زوجة عمي وأركبتها العربه، وجلست أرقب النظرات والحزن الدموع الطافيه من عينيها.

هل أنا أمارس الشر ، أم أمارس الجنون ؟؟

أكل السكر جسد عمي .

تركه مهلهلاً ، تُرك للتربه والدود بعض العظام ، والأطراف المبتوره.

وأخذ هو اللحم والشحم والضحكات .

التى كان يأتى بها إلينا بعد 67 وأنا صغيره ، وحرب الاستنزاف تمارس رعبها.

كنتُ أرى فى ملامحه السمراء الشجاعة تتدفق في عينيه وهو يسألنى:

– إيه يا وزه .. هتتجوزي مين ؟

أضحك بلثغة طفله في السابعه:

– هاجوز عمه .

– ليه يا وزه ؟

– عشان هو ضابط صاعقه .

فيضحك .. يضحك ، ويضمني ببرءه وحب

– أنت عارفه لما تكبري ونجوز

هنخلف عيال حلويين

عشان أنتِ حلوه.

أهرب بين أحضانه مرتبكه

– أنا بحبك قوى يا عمو.

ويحكي لي بالساعات عن الغارات والمؤامرات والخطط والطلعات.

وأنا أسمع بعقل كبير ومشاعر طفله.

– احكي لي يا عمو عن العدو.

– العدو دا يا حبيبتي هما اليهود .. اسرائيل اللى احتلت مصر في 67.

– وأنت بتشوفهم يا عمو .

– طبعاً ليل نهار على شط الكنال.

دخل عمي الجيش في 66.

وخرج بعد 73.

حضر الهزيمة ، والنصر ، وخرج سالماً.

ولكنه لم يعرف أن السكر احتل روحه وأكل جسده.

فعل مالم تفعله الحرب .

أخذ أطرافه قطعه . .

ولكنه لم يعرف أن السكر احتل روحه وأكل جسده.

فعل مالم تفعله الحرب .

أخذ أطرافه قطعه . . قطعه .

في الفترة الأخيره قررت أن أكون ذاتى الخاصة .

والتى ألمسها بصدق.

وأن أكون أكثر قرباً من نفسي ، فتصير روحي شفافه ، أكثر طواعيه لي.

لا تهمنى هزائم ، ولا انتصارات ، ولا خيبة الأمال .

كل ما أطمح إليه هو أن أكون جد عنيده مع ذاتى والأخرين.

وأبعد عن القدريه بقدر ما أستطيع ، وأقترب أكثر فأكثر من مشروعى الخاص .. حياتي المفعمة بالحزن والوحده.

فصرت رهينة الألم واللذة ، أتشوق حرقة للحياه التى أريدها ، وأخطط لها كما أريد ، دون استسلام أو ضعف.

كان عمى بالنسبه لى يشبه الكائن الخرافى الذي يحط في بيتنا، فيجلس بيننا يحكي.

وأنا أجلس مشدوهّه ، مندهشه ، أسمع حكاياه.

وقال لي :

– رأيت مئات الجنود يتهون جوعاً وعطشاً في الصحراء.

وأنه كان يهلك من النابلم ، لولا أنه تمرغ في الرمل ودفن جسده كاملاً ، وأنه رأى أعداداً غفيره من الأصحاب يموتون.

وكم جمع بيده ألاء الآخرين في مقابر جماعيه .

وعاد سائراً على قدميه إلى أن وصل إلى هنا .

وكانت زمزمية الماء تكفيهم أيام طويلة.

وعندما مات قائدهم ، حمله وصار به تائهاً في الصحراء وهو يبكي.

لأنه أوصاه أن يدفن في بلدته.

ثم يوارى دموعه ويضحك.

– وأنت عامله إيه في المدرسه يا وزه ؟

أجري طائره ، وأحضر له الكراسات ، ونأخذ في عد النجوم، وكل نجمه بقرش صاغ.

تأتي أمي تضع طعام العشاء وتعنقني :

– أنتِ يا بت يا شقيه.

تعالي هنا.

أجمع القروش والنجوم ، وأجلس جوارها .

تمد يدها بالطعام وتضحك

– كُل يا قلب أختك.

ثم تأخذنى من يدي إلى المطبخ نصنع الشاي.

*

مش ناويه تعقلى.

أضحك بدلال:

*

إيه يا ماما .. مش عمو. *

لأ عيب.

يرفع صوته منادياً:

*

وحياتك يا جميل كتري السكر.

نحضر الشاي ، وأعود أتمسح فيه مثل القطط وفي يدي كراسة الرسم .

يجلسنى على حجره :

*

إيه يا شقيه.

أشير له ، وأفتح الكراسه

*

أرسم لي يا عمو.

الجنود والبحر.

يضحك ، يضحك ، كأنه لم يضحك من قبل ويشرع في تقبيلي و يرسم

*

هنا شط القنال .. وهنا الجنود .. وهنا العدو.

ينظر في ساعته ثم يقوم وافقاً

*

المره الجايه يا وزة نكمل الرسم.

يقترب من الباب ، يفتحه ، أجري نحوه رافعه ذراعى لوداعه، يحملنى ويقبلنى

*

مع السلامه ياعمو.

يخرج من الباب ، يخبط رأسه

*

مع السلامه يا وزه.

عندما وصلنا لمحت أخى أول المستقبلين ، يحمل النعش على كتفه في أول الصف وعيناه حمراوان.

كانت حيرتى أشد مما أتصور.

كيف أخرج من هذا المأزق الإنسانى المجنون.

وأنا أحاول اللحاق بهم ، وأحمل النعش على كتفى معهم، أفسح لي أخى مكاناً جواره ، حيث أسير في محاذاة كتفه.

تقدم رجل منى وقال:

*

مافيش حريم تحمل النعش.

عنك يا أستاذه.

أرادت أمه أن تدخل القبر ، وتسوى الأرض بيديها ، وتطمئن على رقدته الأخيره.

وفعلتها.

ولم يستطع أحد منعها .

ونزلتْ ، فرشت الأرض بالحناء ، ووضعت الصبار جوار رأسه ، وفكت الأربطه مع الرجال .

ثم صعدت ، وأخذت تهيل التراب على جسدها صارخه.

جاءت عمتى إلى جواري ، وتحسست يدي ، وأمسكت بها جيداً ، خشيةً أن أنهار ، أو أسقط .

وقالت في ود المجربين :

*

إيه يا بنت أخويا .

ورثتى شهامة الرجال ، عايزه تشيلي النعش ؟!

بكيت.

وحاولت أن أبعدها ، ولكنها أصرت على احتضانى.

وبكت .

*

يا بنت أخويا توب الرجال غالي.

أنهارت مخاوفى ، وفقدت أعصابى ثم جلست على الرصيف .

جاءت وجلست ، أصرت ألا تتركنى مهما تملصت منها ، وواصلت حديثها بنفس الود:

*

حلمتى بإيه يا حبيبتى ساعة أمك مماتت ؟

ثم إتكأت على كتفى بكل قوته