في الحرب والعتمة نسمع ونرى

الحرب ألبستني صفات لم أكن أعلم معناها.... 
تردد المذيعة ذات الصوت الرائق: "وهذه الأغنية مهداه إلى أبطالنا الشجعان على الجبهة". ولأنني ضمن أفراد جبهة السويس, فهي تخاطبني حتما .. إنها الشجاعة إذن!
يأمرنا الضابط الشاب العفى بأن نهيل الرمال نسد بها عين الشمس, أعنى تلك الحفر المنتشرة في صحراء الوحدة. يعود ويأمرنا بإعادتها وتجريف الحفر نفسها ثانية, فتحاصرنا هياكل لا تعد من الأهرامات الرملية. يسعد لفعلتنا الغامضة, يخبرنا في عزة واعتزاز: "فتوة, وقوة .. يا شباب". يبدو أنه يصفنا بالأقوياء!
الشاويش "عيسى" يبعثرنا على أرض الطابور صائحا: "انتشروا..". يعود ويصرخ فجأة: "انتباه.. اصطفاف". لحظات ويتابع: "سرية.. عد". نبدأ, تلتوي أعناق ألفاظ الأرقام, جيلا بعد جيل ينطقونها هكذا: "حد.. تنين.. تلات .....". يردد فرحا:"سرية منضبطة منظمة". أنتشي بدوري لكوني منظما! 

في السنة التالية سرحوني من الجندية. استلمت عملي بإحدى القرى..قتلت رئيسي في العمل. لم أعترف بجريمتي. أقسمت أن ما تم وكان..محض صدفة. صوبت نحوه مسدسا قديما, وجدناه عفوا تحت ظل شجرة عجفاء عجوز شامخة. كان ملقى بإهمال, كسته الأعشاب الذابلة , والطحالب, فبدا وكأنه جذر متمرد من جذور الشجرة.
لأنني المحنك في معرفة هيئات الأسلحة, التقطته عيني, بحلقت صامتا, دهشا أشرت بسبابتي. الملعون رئيسي هذا , اندفع قبلي, كعادته!
أؤكد ..أنا الذي تعرف على المسدس المطمور في الطين, وهو الذي أمسك به سعيدا, كطفل استلم لعبته على التو.

ولأنني الخبير في مواجهة المواقف المفاجئة, لم أتململ قدر أنملة وهو يصوب مسدسه..مسدسي, إلى صدري. بفرح يقول: "قف, سوف أضربك بالنار".
ضحكت على جهله بقواعد "التثبيت". أخبرته بالسر..أن يقول: "قف من أنت.. ", ثم أطلب منه أن ينطق كلمة السر. إن عرفها, أسأله أن يتقدم حتى أتعرف عليه, إن لم يعرفها..حتى ولو كان رفيق الملجأ أو الخيمة, لن أرحمه. زاحفا أدفعه أمامي حتى مقر الضابط النوبتجى. طوال الطريق أزجره, أنهره, أسبه, أنغزه , وأزيد من عصبيتي , ليس لشكوكي لكونه من الأعداء, كي أثبت للقائد أنني ..شجاعا, قويا, ومنظما.

الآن أؤكد أن تجربتي الطويلة هناك, كشفت لي أننا قد نعيش أخطر المواقف دون أن ندريها في حينها. وهو بالضبط ما انتابني مع رئيسي ..ذاك الربعة القصير المحتقن الوجه. رأيته يستبدل صراخه بالصمت, ظنا منه أنه يعلن عناده وأنه حزم أمره, غير مبال. وإلا كيف تبرر سر قدرتي على البقاء ليلا - في الظلمة – أنفذ العمليات الحربية, واحدة تلو الأخرى.
يموت بسببها من يموت, لكنها تحمل تقدير النجاح عندي, فقط لأنني عدت من جديد إلى مرقدي في الملجأ أتنفس بانتظام .. حتى وان وجدت المرقد جواري خاويا , سويعات ويحتله جسد آخر.
الحق كنت أحزن, وسرعان ما أنسى. أي شيطان هذا الذي تلبسني , فأبكى بحرارة على فقد رفيقي, ثم أعانق بحرارة رفيقا آخر.. لا أعرفه.

ربما أهم ما خبرتني به الأيام ولا يبرح رأسي منذ تلك الفترة الماضية ..أن الضرورات أولى بالرعاية. لا أدرى لماذا استفزتني تسريحة شعر رأس رئيسي. للمرة الأولى أنتبه إليه .. شعر رأسه الأسود الطويل الناعم, وسوالفه الغزيرة الطويلة.. حتى خلته جنديا من أهل الإغريق.
ولأنني أمضيت سنوات شبابي مع الحرب, حبا في أهلي, وكرها في كل معتد أثيم. تفحصته مليا, أراه على هيئة لا أحبها, كأنه من كوكب آخر . يرتدى البنطلون المحزق , والقميص المشجر, والحذاء الذي أعجبني. قلت في نفسي..إذا كان الحذاء إيطالي الصنع , فلا تسأل عن بقية التفاصيل .

على كل حال , أثناء العمليات الحربية, وأثناء التدريبات العسكرية.. لم نكن نضحك, ولا نبكى. أما لماذا ضحكت وبكيت في لحظة واحدة في مواجهة هذا الرجل . لأنه عندما ضغط على زناد المسدس, انزلق إصبعه من فرط اللزوجة , بفعل الرطوبة والطين والطحالب . ومع ذلك أدار وجهه بعيدا ثم أغمض عينيه بشدة , كأنه سيطلق قنبلة ذرية . لم يطلق رصاصة , ولا حتى أطلق صوتا .. فضحكت. 
وما كان منى إلا أن تلقفت المسدس الذي انفرط من كفه, وقبل أن يصل إلى الأرض اللزجة حملته بين راحتي. لا أدرى كم من الوقت انقضى عندما مسحته جيدا بمنديلي, ثم حشرت منديلا آخر في فوهته . وإن منعتني غبشة المغربية من بيان إذا ما كانت الخزينة فارغة أم لا؟ا وقد أفرجتها خارج جسم المسدس ومسحتها جيدا.. أحسنت تنظيفها.
ثم.....
ثم سمعت صوتا يشبه خروج طلقة رصاص. أتذكر أنني ضغطت على الزناد أكثر من مرة... وفى كل مرة أضحك..ضحك هو نفسه لضحكاتي الهستيرية . ظل يقهقه حتى عجز , عجز عن الضحك لأنه سقط على الأرض مدرجا في دمائه.
فبكيت لأنني تأكدت من أن الصوت الذي سمعته تخلله صوت انطلاق طلقة حية أو حقيقية , لم تفسدها الرطوبة ولا الأتربة!!

لأن الحرب علمتني الشجاعة.. ارتميت نحو صدره, أتسمع نبضات قلبه الهامد.. وعلمتني القوة, فحملته بذراعي وحدي حتى باب منزله .. وعلمتني النظام, فاتصلت بشرطة النجدة , رويت على مسامع الضابط الشاب العفى بكل التفاصيل, رويتها كلها, ثم أقسمت له أنني لم أقتله, وأن هذا كل ما حدث!!