فى ذكرى الرحيل السادس .. شريف حتاتة .. أبى عشت عمرى معه ولم أحمل اسمه

بقلم  د. منى نوال حلمي

  فى مثل اليوم 22 مايو 2017 ، رحل " شريف حتاتة "  أبى .. نناديه كلنا فى أسرتنا باسم " شرف " .  
     اسمه " شريف " . وهو بحق شريف فى مبادئه وطباعه وأخلاقه وسلوكياته التى عرفتها وعشتها على مدى العمر . ولد فى برايتون - انجلترا .  لكنه متشبع بالروح المصرية . أو لنقل أنه أخذ أجمل ما فى المصريين ، وأجمل ما فى الانجليز . وكان كريم العطاء ، لا يخذل أحدا لجأ اليه ،  متواضعا ، يجد نفسه بين بسطاء الناس ، لا بين أصحاب الشهادات والمثقفين والنقاد والسياسيين .
       أحب الموسيقى و الأدب منذ صغره ، قرأ أغلب الأدب الكلاسيكى العالمى بلغته الأصلية، وتصور نفسه " مايسترو " يقود الفرق الموسيقية .
       والده "يوسف فتح الله حتاتة " ، مصري يدرس الاقتصاد فى لندن ، وتعرف على الانجليزية " دوريس "  التى أصبحت زوجته ، تركت بلدها وأهلها ، وجاءت الى مصر ومعها ثلاثة أطفال شريف ، ومنى ، وعادل ، وسكنوا فى الزمالك .
          كبر شرف ودخل كلية الطب قصر العينى ( جامعة القاهرة ) ونال الميدالية الذهبية لتفوقه فى كل المواد ، وكان الأول على الدفعة .
       رغم الخلفية الاقطاعية والأرستقراطية الثرية التى انحدر منها ، كان " شرف " شديد التمرد على الأنظمة الرأسمالية التى تستغل الفقراء العمال الكادحين ، تحتكر قوة عملهم وتمتلك وسائل الانتاج ، وتلقى لهم بالفتات ، وتسبب لهم الاغتراب والشعور بالضآلة والدونية . وكان من الطبيعى أن تجتذبه الأفكار الشيوعية ،  القائمة على العدالة والمساواة وبتر الاستغلال من قبل أقلية مالكة ثرية .
     ترك السياسة والمستقبل المضمون لنوابغ الطب والحياة المرفهة والأمان ، والاستقرار ، واختار الحياة الخطر وعدم الاستقرار وخضوعه للمطاردات الأمنية والمعتقل وتطويع شبابه الناضر الى قضية العدالة ، وأصبح عضوا فى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ( حدتو ) .      اُعتقل ثلاث سنوات أيام الملك فاروق ، واستطاع الهروب فى قاع سفينة الى فرنسا . ثم اعتقله عبد الناصر لمدة عشرة سنوات متتالية حتى 1964 .
     كانت الأم الانجليزية "  دوريس " ، نناديها " نوننا " لها تأثير كبير على شخصيته ، علمته الدأب ، وعدم التوقف عن شئ يؤمن به ، واتقان كل ما يفعله بالشغف  والدقة حتى فى فعل أبسط الأمور ، النفور من الكذب وكراهية المظاهر والشكليات وحب التنظيم والترتيب ،  والبساطة فى كل شئ . علمته أن تكون الرياضة البدنية جزءا من حياته اليومية . ولذلك كان فى المعتقل ،  يمارس الرياضة يوميا  ، ويحافظ على النظافة والترتيب . وكان يمارس الطب لو مرض أحد المعتقلين .
    لم يندم "  شرف " على خوض هذا الطريق الذى اختاره . وعندما خرج من المعتقل 1964 ، لم يهادن السلطة ويتبوأ المناصب الهامة التى أنعم بها النظام على منْ انحنى وقدم فروض الطاعة وقرابين الولاء . زملاء له أصبحوا رؤساء تحرير ووزراء ومستشارين فى مجالات مختلفة ، وخبراء فى مسميات ابتدعت من أجلهم ، وكتبوا فيما يسمونها كبرى وأهم المطبوعات الصحفية والأدبية .
     خرج " شرف " من السجن ليلتقى بأمى " نوال السعداوى " ، زميلته فى العمل بوزارة الصحة .
         منذ اللقاء الأول ، شئ غامض يهمس لهما ، بأن مصيرهما يبدأ فى عينى " نوال " ، وينتهى فى قلب " شريف ".  كانت أمى حينئذ كاتبة معروفة . لها قصة نشرت فى روزاليوسف اسمها " نادية لم أستطع " .  بعض زملائها لم يفهموا القصة ولا أبعادها ، وقالوا أنه جريئة أكثر مما يجب . واحد فقط قال بهدوء : " قرأتها مثلكم لكننى أعنقد أنها قصة جميلة وعميقة وجرأتها جزء من جمالها ...... ".
   مرة أخرى تصدم " نوال " ،  الجميع . المرة الأولى ،  حينما اندهشوا  لأنها بعد تخرجها ، تركت كل زملائها فى كلية الطب المعجبين بها ، وتخرجوا معها ، من أجل أبى البيولوجى " أحمد حلمى " الذى لم يزل طالبا .
     أما فى المرة الثانية ، قالوا لها باستنكار: " معقول يا دكتورة نوال ، تتجوزى واحد شيوعى لسه خارج من السجن .. انتى كده هتقضى على مستقبلك وسمعتك ".
   صديقها د . عبده سلاًم ، وكان وزيرا للصحة حينئذ ، قال لها : " خرج من السجن ، وجه خطف الجوهرة بتاعتنا ".
    كان اختطافا سلميا ، برضا وتشجيع المخطوفة ، وتخطيط عقلها الحكيم ، بعيد النظر ، نافذ البصيرة.
   ربما يكون الاختطاف الوحيد فى التاريخ ، لم يطلب " فدية " ، أو شيئا فى المقابل لاعادة المخطوفة دون اعتداء ، أو تعذيب ، أو ايذاء .
    " شرف "  ، لم يطلب الا بيتا هادئا ، تسكنه امرأة تتحدى العالم من أجله ، ومعا يشكلان جبهة متضامنة ، لاسقاط الأسس غير العادلة ، التى قام عليها العالم .
    وجاءت الهدية الكبرى من " نوال " ، و" شريف " ، أخى " عاطف " .
   كانت شقة الجيزة صغيرة ، لا تحتمل أن توفر لكل فرد غرفة خاصة . أنا ، وعاطف ، أخذنا حقنا كاملا ، بغرفة خاصة لكل منا . وارتضت " نوال " ، و " شرف " ، بغرفة واحدة لهما .
   فى هذه الشقة الصغيرة ، بدأت مسيرة حياة كبيرة . ربما الغرف ضيقة ، لكن قلوبنا وعقولنا رحبة ، وأحلامنا سقفها السماء .
     كنت أصحو قبل الفجر ، و " شرف " ، يرتدى ملابسه ، وينزل فى الظلام ، يقود سيارتنا الصغيرة لمدة ثلاث ساعات ،  من الجيزة الى قريته " القضابة " مركز بسيون ، محافظة الغربية ، حيث أنشأ عيادة لعلاج الفقراء من أهل قريته . لم يفكر فى تأسيس عيادة فاخرة فى أحد الأحياء الراقية ، حيث ينتظره المال والشهرة . يقود ثلاث ساعات ليلا ،عائدا الى بيتنا فى الجيزة . يفعل هذا ثلاث مرات أسبوعيا .
    لم يشعرنى " شرف " أننى لست ابنته البيولوجية . ولأنه نبيل الخلق ، لم يجد غضاضة أن ينفق ويرعى ويحب ويدلل طفلة ، ليست من دمه . كنت له " الفرخة بكشك " ، يحضر كل ما أحبه ، حتى دون أن أطلبه . يهتم بأدق تفاصيلى . شجعنى بدأب على ممارسة الرياضة ، حتى أصبحت أجيد التنس والسباحة . يشترى لى أجود أنواع المايوهات ومضارب التنس والبدل الرياضية ، كلما سافر الى الخارج . حكت لى أمى ، أن كل منْ أراد الزواج بها ، كان يسألها : " وهنعمل ايه فى بنتك منى ؟ ". وكان ردها أن تترك المكان فورا دون كلمة .       "شرف " الوحيد ، لم يفكر فى هذا السؤال .
      تعرضت أمى ، بسبب كتاباتها لبلاغات متتالية تُرفع ضدها الى النائب العام ،  باهانة الرسل والأنبياء ، والتطاول على الذات العليا ، وانكار المقدسات والثوابت الدينية  ، وافساد الشباب ، واثارة الفتنة ، والتحريض على الفسق والفجور والانحلال .
     من شقتنا الصغيرة فى الجيزة ، كنت أسمع من المساجد المحيطة بنا ، أصوات الشيوخ يصرخون : " اقطعوا رقبتها الكافرة  الشيوعية الزنديقة الفاسقة ". مع ان أمى لم تكن شيوعية ، ولم تدخل أى حزب طوال حياتها . ولكن لأن " شرف " شيوعى ، والمرأة تابعة لزوجها ، فلابد أن تكون شيوعية مثله . هكذا يفكرون .
     وكانت تصلنا التهديدات عن طريق الهاتف ، وخطابات البريد . أرى أمى ، صامدة ، واثقة . وكان " شرف " بجانبها ، يدعمها فى كل هذه المواقف .
    " لن نفترق " .... هذه كلمته التى أعلنها للجميع ، فى قضية الحسبة والتكفير وسحب الجنسية عنها ، والتفريق بينها وبين زوجها .
       لا رجل أو زوج ، غيره كان يستطيع مرافقة أمى ، فى مشروعها الحضارى الصادم ، ورحلة كتاباتها ، وتمردها الجذرى .
     هو مثلها ، طبيب ، ومناضل سياسى ، متمرد ، وكاتب ، ذاق قهر الأنظمة الاستبدادية منذ أيام الملكية ، وتعرض للتعتيم على رواياته ومواقفه السياسية ، ذات النزاهة النادرة .
     ومثلها دفع الثمن بكبرياء ، وشموخ ، واستغناء .
    حتى " عاطف حتاتة "  أخى ، لم يسلم من الاستبعاد والحصار ، منذ أن أخرج وكتب فيلمه الروائى الطويل " الأبواب المغلقة " ، عام 2001 ، وهو من انتاج  شركة يوسف شاهين ( أفلام مصر العالمية ) وقناة أرت سينما فرانس . رغم أنه حصل على جوائز عالمية متعددة . كما دخل قائمة أفضل عشر أفلام مصرية  ، عُرضت من 2000 - 2010 .
    والسبب ليس فقط أن فيلمه يصور أسلمة مصر ، على يد الأصولية الاسلامية والسياسية ، ولكن لأن مؤلف ومخرج الفيلم ، ابن " نوال " ، و" شريف " ، اللذان يرفضان الانحناء ، والطاعة ، والوصاية تحت أى مسمى .
     قام " شرف " بالتدريس فى بعض جامعات أمريكا الخاصة المستقلة ، مع " نوال " ، وأحيانا يقومان بالتدريس فى جامعة واحدة ، وقسم واحد ، فى تسعينات القرن الماضى . وقبل ذلك ، أرسلته وزارة الصحة كخبير للأمم المتحدة ،  للسكان والتنمية وتنظيم الأسرة ، فى الهند ، فى سبعينيات القرن الماضى .
    " شرف " له مؤلفات كثيرة متعددة . فى أدب السجون ، كتب العين ذات الجفن المعدنى ، جناحان للريح ، والهزيمة . فى أدب الرحلات ، كتب رحلة الى آسيا ، طريق الملح والحب ، يوميات روائى رَحال ، رحلة الربيع الى الجزائر . فى أدب السيرة الذاتية ، كتب النوافذ المفتوحة . وكتب روايات ، الشبكة ، كريمة ، الرئيسة ، ابنة القومندان ، قصة حب عصرية، نبض الأشياء الضائعة ، رقصة أخيرة قبل الموت ، عطر البرتقال الأخضر ، الوباء . وله مؤلفات ثقافية وعلمية ، الصحة والتنمية ، تجديد فى الفكر الماركسى ، العولمة ورأس المال،  فى الأصل كانت الذاكرة ، تجربتى فى الابداع . فى روايته " كريمة " أهدى الكتاب لى كالتالى : " الى ابنتى منى حلمى .. التى علمتنى معنى الأبوة ". والى نوال أهدى ، قصة حب عصرية قائلا : " الى نوال السعداوى .. المرأة التى جعلتنى أكتب ". تُرجمت بعض كتبه الى الروسية والانجليزية ، مثل الشبكة والسيرة الذاتية وثلاثية أدب السجون ، العين ذات الجفن المعدنى ، جناحان للريح ، والهزيمة .  أما كتابه " تجديد فى الفكر الماركسى " ، فكان نقدا للماركسية التقليدية ، وسدا للثغرات التى تعطل نموها وانتشارها ، وهذا أغضب التيار الماركسى ، ودفعه الى وضعه فى القائمة غير المرضى عنها .
   وترجم " شرف " بعض روايات وكتب أمى ، الى الانجليزية ، بحكم اجادته لهذه اللغة ، ولأنه كاتب روايات لديه الحس الفنى المبدع .  
    أتمنى أن تتحول رواياته الى أفلام سينمائية . فهى ذات مذاق مختلف عن روايات الروائيين الغارقين فى التقليدية والذكورية والحواديت المستهلكة .  وهو يكتب بعين سينمائية تهتم بأدق التفاصيل . تحمس الفنان الراحل " نور الشريف " لتحويل رواية " الشبكة " الى فيلم سينمائى ، لكن المشروع تعثر .
      أول مجموعة قصصية لى " أجمل يوم اختلفنا فيه " كتب " يوسف ادريس " تقديما لها، ووصف " شرف " أنه أصبح من كبار الروائيين العرب " ، وأمى"  نوال " بأنها " كتلة متوهجة انفصلت عن الشمس ولا يظن أنها ستعود اليها ".  
     فى أكتوبر 2021 ، دخل أبى د . شريف حتاتة 13 سبتمبر 1923 - 22 مايو  2017مشروع  " عاش هنا " . لتكريم الرواد فى المجالات المختلفة .
     والجميل أن لوحة أمى نوال ، " عاش هنا " ، بجانب لوحة شريف ، على جدار العمارة نفسها .
     العظماء يشعرون الآخرين أنهم عظماء مثلهم . و" شريف حتاتة " واحد من هؤلاء العظماء .. أبى ، عشت العمر معه ، ولم أحمل اسمه .
اليوم فى ذكراه ، سأغنى له أغنيته المفضلة : " كل دقة فى قلبى بتسلم عليك ".