فؤاد التكرلي متواضع وشامخ

من أرومة مرموقة، مثقفة، ومنصب راقٍ، أطل التكرلي من علٍ على العراق ليجعله مختبره الشخصي، متحصلاً على أدوات تشريح مثالية.

ولد التكرلي في بغداد سنة 1927، في عائلة ارستقراطية وصل سدة الإفتاء والقضاء غير واحد منها، كان آخرهم فؤاد نفسه، إذ تخرج في كلية الحقوق سنة 1949.

أصدر التكرلي مجموعة قصصية (العيون الخضر) في بداية الخمسينات، ذلك العقد الذي شهد تألق وبروز ثلة من العراقيين شعراء وكتاب: السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك، بلند الحيدري، وعبد الملك نوري، غائب طعمة فرمان، وليختار من هذه الثلة صديقين أثيرين يلازمهما: عبد الملك نوري الذي كان يعتبر رائد القصة القصيرة الواقعية، وعبد الوهاب البياتي، الذي حفر اسمه ألقاً في سماء الشعر الحر، أما رابعهم فنهاد شقيق فؤاد، ولم يكن أقل منهم شأناً، لكنه أضاع طريقه في الترجمة والتنظير.

. ظل التكرلي يعمل قاضياً حتى سنة 1981، وأحيل بعدئذ إلى التقاعد، ثم عاد بعد قليل إلى العمل كمستشار ثقافي في السفارة العراقية بتونس، حتى عام 2002، حيث اختاره رئيس العراق (تحت الاحتلال) جلال الطالباني مستشاراً للثقافة والآداب.

نشر التكرلي رواية الرجع البعيد في وقت يكاد أن يكون خالياً من المنافسة، فأصبح أهم روائي في العراق، وكان من الممكن أن تثير (الرجع البعيد) غضب السلطات لأنها تتكلم عن حزبي مستهتر (عدنان) ينحدر في تصرفاته إلى حد انتهاك المحارم، لكن هدوء التكرلي، وبعده عن التحزب المناهض للسلطة، مكنته من تجاوز المشكلة، فبقي آمناً مطمئناً حتى نهاية حكم البعث.

صور التكرلي في الرجع البعيد وبفن أخاذ البيئة البغدادية، بمشكلاتها، وتلاطمها، وخيرها، وشرها، وأحداثها، تصويراً ممتازاً، ولعل عراقة أسرته، وثقافته، وسعة اطلاعه، وبعده عن الانحياز الحزبي الذي جرف الكثير من المبدعين، مكّنه من النظر إلى المجتمع العراقي بشفافية، واعتدال ليصور، مخلوقاته بصدق، في نظرتها إلى الحياة، كما يجب أن تعاش (كما هي) وبحيادية، مما اضطر بعض النقاد إلى التهجم على سلبية بعض تلك المخلوقات والنيل منها، والحط من عدم فعالية البعض الآخر، أي بما يوسم بالهامشية في الأدب. وهذا في رأيي نوع من التعسف الشديد، فعلى الإنسان أن يعيش الحياة كما هي، بالطريقة التي يراها تسعده لا كما يريدها الفلاسفة، الذين أرهقوا أنفسهم وأرهقوا التاريخ أيضاً، أي أن يعيش حياته.

يأخذ بعض اليساريين على التكرلي أنه كان من أوائل الوجوديين في العراق، وأنه ابتعد عن هموم لشارع العراقي، لكن نتاجه الحي اللاصق بالشخصيات العراقية الأصيلة يدحض ذلك.

ولابد أن عمله كقاضٍ، أفاده كقاص كثيراً، ففي القضاء يطلّع المرء على حوادث الحياة المختلفة والمتشابكة، لغير طبقة من الناس، فشريط الحوادث لا يعرض مشاكل الفقراء والمدقعين حسب بل مشاكل الطبقتين الوسطى والغنية.

توقف التكرلي بعد الرجع البعيد، ثم أصدر خاتم الرمل، وهي رواية متواضعة جداً في مستواها، ليعود مرة أخرى إلى التصدر في رواية المسرات والأوجاع.

أسلوب الرواية مشوق واقعي دافئ، وتكاد أن تكون سيرة عائلة مجهولة الأصل، وللكنتها غير العربية تم الربط بينها وبين الهند. فرأس العائلة عبد المولى: {كان قصيرا طويل الذراعين بأنف أفطس وعينين واسعتين جاحظتين؛ وكان فمه مشقوقا بغير براعة، بحيث تبرز أسنانه الكبيرة الصفراء عند أول محاولة منه لتحريك شفتيه، لذلك كان صموتا؛ وكان أبناؤه من بعده وأبناء أبنائه صورا مشوهة} أما مكان الرواية ففي مدينة صغيرة على الحدود مع إيران، "خانقين"، في أحد أزقتها "دربونة الشوادي" أي زقاق القرود.

تتصاعد الأحداث المحيطة بالعائلة التي اشتهرت بالجد، ويتصاعد معها ثراؤها، فتنتقل إلى العاصمة بغداد، وبالرغم من أن جميع الأبناء كانوا يشبهون والدهم المشوه، إلا أن أصغرهم (توفيق) كان وسيماً، وهو وحده الذي أنهى دراسته ليصبح فيما بعد قاضياً، بينما ظل الآخرون في مهنتهم حتى بعد أن أصبحوا أثرياء، ولا يتناقض توفيق عن عائلته في الوسامة والذكاء حسب بل حتى في الحظ، فهو الوحيد الذي ينتهي مشرداً.

والرواية تسير بتوازن جيد أخاذ لولا نهايتها الملبسة، فالبطل الذي عاش صلباً، وحراً، ومتحرراً، والذي ينتقم منه الزمن فيحيل حياته إلى بؤس وتضيق به الحياة، ويضيق بها فتضمحل قدراته المادية حتى لا تكاد تسد رمقه، هذا الرجل اليائس من الحياة تنهال على رأسه فجأة، ثروة لم يكن يحلم بها، فقد ورث خمسين ألف دينار من جندي قتل في المعركة. مقابلاً لمعروف صغير أسداه توفيق (بطل الرواية) للجندي عندما كان طالباً، إذ أوصله بضع مرات إلى المدرسة في سيارته {وهو في طريقه إلى الدوام}. فحفظ له الشاب الذي لم يكن منسجماً مع زوج أمه صنيعه وكافأه بها.

يصرح التكرلي للكاتب حسب الله يحي في مقابلة أجريت معه، عما يدفعه للكتابة: {بودي أن يتمتع القارئ أولا، وان يعي عن طريق المتعة إن أمكن- بعض الأمور التي اعتبرُها جوهرية في الحياة } وهو إذ يدعو إلى المتعة ويعتبرها مفتاح كشف جوهر الحياة، لكنه لا يفعل ذلك باستهتار، وبتكبر فقد عاش أشبه بصوفي أنيق في قمة التواضع، تلك القمة التي يتقاسمها شيء آخر عند التكرلي هو شموخه، وربما كان سلوك توفيق في المسرات والأوجاع شبيه لسلوكه.

تجاوزت المقالات التي كتبت عن التكرلي بعد وفاته الأربعين إلى حد الآن، لكن القليل منها أعطاه

حقه، وهي لهبوطها لا تليق به مطلقاً، فقد أظهرت مقالة حيرة كاتبها في اسمه وعائلته، بينما أبرز كاتب آخر قوة عضلاته في الدفاع عن التكرلي، وطبق ثالث نظريات علم النفس تطبيقاً حرفياً ومن دون مراعاة للبيئة والظروف، وهناك غير واحد تكلموا بسطحية مقرفة عن لقاءاتهم بالتكرلي، بينما اكتفى نقاد مرموقون ببضعة اسطر لا تسمن ولا تغني من معرفة، على أن أفضل من كتب عن التكرلي اثنان، تناولا أعماله في حياته: المرحوم، علي جواد الطاهر[1]. والمرحوم عبد الإله أحمد، فقد شخّص الأول تركيزه على غرابة شخصيات منتقاة لدى التكرلي، وكانت نقطة يستوجب التوقف عندها وتحليلها، بينما ركز الثاني على ظاهرة العلاقات غير الشرعية في الجنس عند أبطاله، وهي نقطة شديدة الأهمية أيضاً. فتحليل هاتين النقطتين ودراسة دوافعهما، ومجريات أمور ما كتبه المرحوم التكرلي تساعد على كشف ثيمة التكرلي لا في الكتابة حسب، بل ربما في الحياة أيضاً، وترفع الحجب عن محن الإنسان العراقي والتي أحالته إلى سلسلة من العقد والتناقض.[2]

. ملاحظة: أهم جائزة حصل عليها التكرلي هي جائزة سلطان العويس، للرواية سنة 1999.


**********
- كلفني المرحوم جواد الطاهر بإيصال ترشيح التكرلي إلى جائزة العويس.[1]

2- مما لفت انتباهي أن كلمة القاضي ترددت غير مرة في بعض مقالات من كتب عن التكرلي، فانشغلت بها كثيراً، عندئذ تذكرت أن جميع رسائله التي أرسلها إلي كانت مكتوبة بحبر أزرق فيروزي (أزرق فاتح يميل إلى الاخضرار)، ثم تذكرت ثانية أن الموظفين الكبار في العراق، ملزمون باستعمال أحبار تختلف عن عامة الناس، فلرئيس الجمهورية حبره الخاص، ولرئيس الوزراء حبر ذو لون آخر، وللقضاة لون ثالث. ولعل التركيز على كلمة القاضي علقت في الأذهان صدى لتاريخ التكرلي المهني، وما تمسكه بلون الحبر بعد تركه للوظيفة، إلا نوع من الاحتفاظ بمجد رفرف فوق صرح عائلة ارستقراطية، ثم تهافت وذرته الرياح.