يقف امامه تقديرا واحتراما: توماس جورجيسيان

عن أبى أتحدث

أتدري يا أبي ماذا حدث لي؟ أتعرف أين أنا الآن؟ سؤال وأكثر من سؤال بالمعنى ذاته يتكرر همسا أو صراخا في بال الإبن أو الإبنة كلما كانت السرحة لاستعادة حضور الأب مهما يكن قريبا أو بعيدا، وسواء كان «بابا» معنا في هذه الدنيا أم كان معنا ولو من بعيد في العالم الآخر.
وهو بالتأكيد السؤال الذي لايبحث عن اجابة ما، بقدر ما يتم صياغته وطرحه أملا وتوقا الى لحظة حنين آمنة في حضور الأب وهو يطمئن على سلامة الابن أو يتأكد من «ابتعاد الشر وولاد الحرام» عن الابنة.
والحديث عن حضور الأب وغيابه أو عن توصيف الأبوة وتعريفها حديث متواصل ومستمر، وخاصة لأنه حديث القلب والذاكرة والطفولة والنضج الإنساني كما أنه حوار الأحلام وقيود المجتمع والتحرر منها والثورة عليها.. ونقاش لدروس الحياة والنصائح في معرفة البشر. وهو أيضا حديث وجدل الحماية والأمان والرضا والقلق و«الرغبة في التواصل مهما كان صعبا» والحكم القاسي وتأنيب الضمير و«محاسبة النفس» و«ان كبر ابنك خاويه» و»الغائب الحاضر» و«الحاضر الغائب» و»أكيد هيكونوا أحسن مننا ان شاء الله»،
وبالطبع تتزايد حدة الحديث وشدة النقاش مع اقتراب «يوم الأب» أو «عيد الأب» والاحتفال به أو الاحتفاء به في الولايات المتحدة ، ثالث أحد من شهر يونيو من كل عام. وكما يقال فان «يوم الأب» هو احتفاء تقديرا للآباء واحتفالا بالأبوة والروابط الأبوية وأيضا لدور الآباء ونفوذهم في المجتمع. وقد بدأت الفكرة في ١٩١٠ في سبوكاين بولاية واشنطن بالغرب الأمريكي عندما بادرت امراة اسمها سونورا سمارت دود بالاحتفال بيوم الأب. وقد طالبت به تقديرا لوالدها الذي قام بتربية سونورا وخمسة آخرين من أولاده بمفرده بعد وفاة الوالدة. فجاءت الابنة لتطلب تكريما لأبيها، وبعد سنوات طويلة وفي عام ١٩٧٢ تحديدا أصدر الرئيس ريتشارد نكسون قرارا رسميا للاحتفال بـ«يوم الأب».
نعم عن أبي أتحدث
وأنا أتذكر ماسأة وتشريد أبي مع الألاف من الأرمن خلال سنوات المذبحة والابادة الجماعية على يد الأتراك ـ وهو الذي فقد والدته وأخته في مياه الفرات وهو في الرابعة من عمره . أبي الصامت. ذلك الصمت الذي أصبح سمة مشتركة ومميزة لجيل من الأرمن عاش وكبر بلا طفولة ( لا يعرف البهجة ولا يملك اللعبة).انه الصمت حزنا أو لعدم القدرة أو عدم الرغبة في الحديث عما حدث وجرى. انه الصمت الصدمة الرهيب ـ صمت أبي ـ الذي صدمني وحيرني وعذبني. آه كم توقفت أمامه وأنا المتحدث الطليق (والبركان كلاما) لأفهمه وأتبين ما يريد قوله من خلال صمته وأعرف معنى ومغزى وقيمة هذا الصمت الآسر. ان أبي بكلامه الشحيح وصمته الغالب قال الكثير(هكذا أعتقد ويتفق معي أخواتي وأخي ) ـ ودحض بالطبع الزعم القائل بأن "السكوت علامة الرضا".
وبالتأكيد "صمت أبى" كان وما زال في حاجة الى التفاتة وتأمل واسترجاع للماضي مني ـ لبيان واظهار مكنونات أبي النفسية ومكونات نفسي أنا. تلك الأحلام التي عاشها أبي معي وأفراد أسرتي والأحلام التي عشتها لوحدي ومع الآخرين من الأرمن. وأنا أواصل رحلاتي وجولاتي في بحث وكشف كل ما في بئر صمت أبى. ولاشك أن الانسان في حاجة دائمة الي فهم أفضل لأقرب الناس اليه ليعرف نفسه أكثر.
وأسترجع هنا من كتابات جمال الغيطاني حوارا دار بينه وبين العظيم نجيب محفوظ في مقهي ريش- نوفمبر 1980: «قلت له انني لم أستوعب بعد رحيل أبي المباغت، انني لن أراه مرة أخرى أبدا، لن ألقاه مرة أخرى. قال: من يدرينا يا جمال ؟ كما أن المادة تتحول الى أشكال أخرى ربما يتبقى الوعى بشكل ما.. من أين لنا أن نقطع باستحالة اللقاء؟»
وحكاوي الأب تأخذنا الي جين فوندا ووالدها .الممثلة الشهيرة والناشطة السياسية قررت في لحظة ما أن تعيش من جديد مع والدها وأن تقترب منه أكثر لكي تعرفه أكثر. فجين فقدت والدتها وهي طفلة في الـ12 من عمرها وكان أبوها تواجد معها في البيت الا أن هنري فوندا الممثل الشهير لأنه الرجل وتحديدا في ذلك الزمان ومن وسط غرب أمريكا كان صامتا بطبعه لا يعبر عن مشاعره ولا يسعى لكي يظهر أحاسيسه تجاه ابنته. فجين فوندا كغيرها من البنات افتقدن الى حضن الأب.. وما أقساه من شعور وألم لا ينمحي عادة بمرور الأيام .الا أن الابنة جين فيما بعد وهي تعيد حساباتها وتقرأ من جديد أوراق حياتها وما فيها ومن فيها بدلا من أن تتمسك بحكمها السابق القاسي عن أبيها سعت لتعيد النظر في الحكم عليه ومحاولة فهم ما لم تفهمه من قبل. ولكي تحقق ذلك شاركت في انتاج فيلم On Golden Pond «البحيرة الذهبية» (١٩٨١) وقام والدها هنري بالدور الرئيسي مع كاترين هيبورن ومعهما جين نفسها. ومن ثم حدث التقارب والأحاديث المتبادلة والـ«فلاش باك» وتحققت اعادة النظر وبالتالي التسامح مع ما كان ماضيا مهما يكن والاحتفاء بالأب.
وهذا الفيلم يعد أخر أفلام هنري فوندا وقد فاز بجائزة أوسكار لأحسن ممثل لدوره في هذا الفيلم ومات في العام التالي لعرضه وهو في الـ٧٧ من عمره. بالمناسبة جين وهي تسعى لكي تكون في سلام مع نفسها ومع والدها وفي صراعها مع ماضيها كانت قد اقتربت من الخمسين من عمرها. وكما يقال عادة في مثل هذه الظروف: «أن يحدث هذا متأخرا خير من ألا يحدث أبدا».
ــــــــ
ونحن نتذكر الأب وغيابه أو حضوره الطاغي في حياة كل منا تأتي في بالي تلك الالتفاتة المدهشة والمبهرة التي عشتها وعايشتها ومازالت في ذاكرتي (والحمد لله) رغم مرور سنوات طويلة عليها.اذ في احدى الجنازات وبعد أن قام أحد أقرب أصدقاء الفقيد الأب وفي كلمة ألقاها بتذكير أهل الفقيد والأبناء والبنات والمعزين بمآثر المرحوم وأسهب في شرح معاني ما فعله الفقيد في حياته. وفي لحظة ما صمت للحظة ونظر الى الحاضرين ومن كانوا هناك من أهل «تعيش وتفتكر» ليقول في كلمات هامسة وموحية وسط الصمت المسيطر على المشهد. « أتعرفون ما أريد منكم أن تفعلوه في الدقائق الثلاثة القادمة.. أنني لن أتحدث عن الفقيد وسأقف صامتا.وأنتم معي في صمتنا معا عليكم أن تسترجعوا بذاكرتكم من كان الفقيد بالنسبة لكم وكيف تذكرونه الآن وما الذي تركه لكم؟ ومتى كانت الضحكة الصافية منه؟ ومتى كان الصمت المحير منه أيضا؟» هكذا تحدث الصديق وتركنا مع دقائق الصمت الثلاثة..
ترى لو طلبت منك أيتها القارئة العزيزة أن تفعلي الشئ نفسه وأنت أيها القارئ العزيز أن تلجأ للالتفاتة اياها .. نعم ثلاث دقائق لتكون مع أبيك لوحدك وأنت تتذكره كيفما تشاء .. وكيفما تراه أمامك وفي حياتك.. فهو الحاضر بدوره ونصيحته ونهيه وقلقه ونهره وغضبه وحكمته وحبه واحتضانه و«كنت فين يا بني.. قلقت عليك» و«امتى هيهدأ بالك وتعرف رأسك من رجليك.. وقيمة الحاجة اللي ربنا أعطاك» و«دايما بادعى ربنا .. وأكيد هيكون حالك أحسن مني بكتير».
ــــــــــ
وهكذا دائما وأبدا نذكر ونتذكر حضور الأب وغيابه وذكراه وبصمته وكلمته وصمته.