قصة قصيرة من مجموعة قطعة صغيرة من الشيكولاتة

عم آدم

لم أعد قادرًا على رفع هذا الباب المعدني أبدًا، لقد كبُرت ولم يعد ظهري يحتمل، كل يوم يرسل الله لي من يساعدني في رفع الباب وفتح دكانتي، ما بال هذا اليوم لا أحد يعبر من هذا الشارع!

كان عم آدم الحلاق أكثر فطنةً وبُعْدَ نظر، رفض أن يغير بابه الزجاجي ذا القوائم الخشبية، كان لي باب مثله، كم كنت أحمق، ولكن هناك فرق كبير بين محل لبيع الساعات القيمة وبين صالون لحلاقة الرجال، لن يجد من يحاول سرقته غير كرسي أثري مصنوع في نهاية الأربعينيات، يجلس الزبون عليه ليقص شعره، ومرآة بلجيكية الصنع ومذياع يحتاج إلى عشر دقائق حتى ينطق ولا يبث سوى إذاعة البي بي سي بلغتها العربية!

: الحمد لله، ألمح من بعيد رجلًا قادمًا، إن الوقت مازال مبكرًا حتى يبدأ المارة في العبور بهذا الشارع، أغلبهم موظفون ومعلمون وطلاب، جميعهم يعبرون أمام المحل في السابعة صباحًا.
اقترب الرجل وأصبحت قادرًا على رؤيته بوضوع، إنه عم آدم، لكن ما الذي أتى به في هذا الوقت المبكر، خمسون عامًا من الجيرة، المحل بجوار المحل، لم يغير موعد فتح صالونه أو غلقه، يأتي في التاسعة صباحًا وينصرف في التاسعة مساءً!
أصابني قدوم عم آدم على غير عادته بالقلق، إنه كالساعة في الدقة والنظام، لذلك لم أعد قادرًا على الصبر حتى يصل إليَّ، توجهت إليه وقابلته في منتصف الطريق.

: خير يا عم آدم، كفى الله الشر، فيه حاجة؟
: لا، لا يا حاج فتحي، اطمئن، أتيت فقط لرؤيتك.
: بس إنت عمرك ما عملتها!
: دعنا نكمل الطريق وسوف أخبرك حين نصل إلى المحل.

شعرت أن عم آدم مجهد، كأنه لم ينم ليلته، فأخذت يده وجعلته يتأبط ذراعي ورجعنا إلى دكانتي .

 ساعدني عم آدم في رفع بابي لأعلى وأكملت أنا رفعه بعصاةٍ أضعها خلف الباب مباشرةً، توجه هو إلى صالونه، فتحه وأدلف كي يمارس طقوسه، لم يغير من عاداته منذ استأجرنا المحلين معًا عام اثنين وخمسين، قبل ثورة يوليو بثلاثة شهور بالتمام والكمال.
جلست على مقعدي الخشبي أمام الفاترينة، تضرب قلبي الهواجس حول جاري، صديق عمري، أعمارنا واحدة وبرغم ذلك لا أقول له إلا عم آدم، فدائمًا يكسوه الوقار والهدوء منذ عرفته، كان شابًا في العشرين من عمرة، وها هو الآن يقترب مثلي من السبعين، لكنه لم يتغير ولم يفارق عاداته قط.
يفتح صالونه في التاسعة صباحًا، وأول شيء يفعله، يفتح المذياع، منذ أن اشتراه والمؤشر لم يفارق إذاعة لندن، يرتدي معطفه الأبيض النظيف فيبدو كأنه طبيب، يقوم بتلميع الموقد النحاسي بقطعة من القطن المبللة بالكحول الأحمر ثم يعيد ملء الموقد بهذا الكحول، يضع الماء على الموقد، ويبدأ في تنظيف الأمواس والمقصات، يمسح المرايا وكل أدوات الحلاقة، قبل أن يبدأ في كنس المحل، يقوم  بنثر بعض الماء على الأرض بأصابع يده كي لا يثير الأتربة، حينئذ يكون الماء قد بدأ في الغليان، يصنع كوبًا من الشاي، يضع عليه حبتين من القرنفل، ثم يحتسي الشاي وهو يستمع لنشرة أخبار التاسعة والنصف، يأتي أول زبون له في العاشرة تمامًا، إذا تأخر الزبون عن موعده ربع الساعة، ألغى الموعد، وحدد له موعدًا آخر، خمسة وأربعون دقيقة يقضيها في حلاقة شعر الزبون، بين كل ذبون وآخر نصف ساعة، يستريح فيها، ينظف أدوات الحلاقة ويعقمها!
هكذا تعلم عم آدم تلك الصنعة على يد الخواجة مكاري اليوناني الأصل، كان يعمل حلاقًا، لقد علمه النظام والوقار والابتسامة الراقية في وجه زبائنه.
زبائنه رؤساء شركات، قضاة، كبار المحامين، جميعهم ذوو مناصب كبيرة في البلد، لا يقبل زبون جديد إلا إذا رشحه أحد زبائنه، فيأتي ليتوسط له، يشترط على الجميع الالتزام بالمواعيد!
دخل عم آدم على المحل حاملًا في يديه صينية من النحاس اللامع، لها بريق كالذهب، عليها قدحان من الشاي، تفوح رائحة القرنفل منهما، قال في وداعة وابتسامته المعهودة تظهر من خلفها أسنان مستوية ناصعة البياض كأنها اللؤلؤ!
: صنعت لك كوبًا من الشاي ستظل تذكرني به طوال عمرك المديد بإذن الله.
: ياخبر أبيض، أحضرت الشاي بنفسك يا عم آدم!
: نحن إخوة وعشرة عمر، هل تفضل شرب الشاي عندك أم بالخارج أمام المحل؟

: أنت لم تجلس خارج المحل أبدًا يا عم آدم!

: ياسيدي، نكسر القواعد والنظام مرة في العمر، هيا تعال.

حملت المقعدين إلى خارج المحل وتناولت كوب الشاي من يده، جلست أنا بينما دخل هو إلى صالونه ليضع الصينية بالداخل ثم خرج مرتديًا معطفه الأبيض يحمل كوب الشاي في يده، الوجه الأبيض المشوب بالحمرة دائمًا كان اليوم باهتًا وشاحبًا!

وضع كوب الشاي على الأرض بجوار مقعده، جلس، رجع بظهره إلى الخلف، أسند رأسه على الجدار، أغمض عينيه، أخذ يمسح بكفيه على فخذيه بحركات دائرية، أطبق شفتيه بشدة، كأنه يحرص على أن يسجن الكلمات داخل فمه.
كان عم آدم طويل القامة فالتفت إليه رافعًا رأسي كي أستطيع أن أتفحص قسماته واستشف ما يشعر به، كان الحزنُ يلقي بظلاله على وجهه فسألته
: بالله عليك يا آدم  ماذا بك يا أخي؟
تحدث إليَّ وهو مازال يستند برأسه على الجدار خلفه ويغمض عينيه  

: الدكتور فخري والدكتور رفيق.

: أولادك! خير بإذن الله! هل أصابهما مكروه لا قدر الله؟ أعرف أنهم هاجروا إلى كندا منذ سنوات!

: رفيق حضر منذ أسبوعين، جاء ليصحبني معه إلى هناك، أنهى التأشيرة وإجراءات السفر، الليلة في التاسعة مساءً سترحل الطائرة بنا!

: معقولة!
اعتدل في جلسته، مسح على وجهه بكفيه، مر بهما على رأسه، يمسح شعره القصير شديد السواد قائلًا  

: كيف أخبرك بقدومه وأنا أعرف أنه لن يأتي ليسلم عليك! بل كيف أقول إنه يجبرني على السفر وأن أترك كل شيء هنا وأرحل!
: طيب، حصل إيه؟

: خيرني بين أمرين أحلاهما مر، العيش معهم هناك أو أن أموت هنا وحيدًا!

: معقول دا رفيق؟

: الدكتور رفيق! منذ هاجر والتحق بأخيه فخري، كان دائمًا ما يقول لي ليس لك شيء في مصر بعد وفاة أمنا كي تجلس من أجله!  

: لك الصالون، لك أصحابك وحبايبك وناسك!

: لي بلدي يا أخي، لي شجرة التوت هذة، غرستها بقرب باب المحل، منذ عشرين عامًا وأنا أعتني بها، أرويها كل صباح، لي كل تلك العصافير التي تزقزق على أغصانها وتطربني كل يوم!

: يا آدم عيالك عايزين يطمنوا عليك ويراعوك.

: الدكتور رفيق لا يفهم أنني مزروع بهذا الصالون، يعتقد أنني حلاق فقط، منذ أن اشتد عوده لم يأت إلى هنا، لم يحضر يومًا كي أقص له شعره!

: إنت أعظم حلاق في مصر يا عم آدم.

: أنا أصبحت من التحف النادرة، صرت طرازًا قديمًا ينتظر نقله إلى المتحف كي يطوف به الناس مشدوهين، يلتقطون بجواره الصور!

: ليه كده يا عم آدم؟ أنت بخير وقادر تشتغل، وحتسافر لعيالك وتشوف الدنيا؟

: دنيتي وجنتي ها هنا، أعرف مكان قبري،  أن أرقد بجوار زوجتي خير لي من الدنيا ومن أولادي.

بدأت عيناه تغرغر بالدموع، أشاح بوجهه بعيدًا عني، وأخرج منديلًا من جيب معطفه ليكفكف به الدمع، ثم نهض متجهًا إلى داخل الصالون، تركني في عالم آخر، يعتصرني الحزن عليه وعلى جيرته الطيبة.

لم أره يبكي إلا مرة واحدة، يوم أن توفيت زوجته، كان كطفل صغير فقد أمه، وحينها واحترامًا لمشاعره، تركته وأغلقت عليه باب صالونه، بينما خرجت أنا لا أستطيع أن أحبس الدمع من عيني، ما أشبه الليلة بالبارحة ها أنا الآن أترك مقعدي وأسير خلفه لأغلق عليه باب صالونه ليختلي بنفسه!

دخلت دكانتي، طافت عيناي وهما يدمعان بكل ركن في الدكان، كنت أسأل نفسي، على أي شيء أبكي؟

لقد فعل بي ابني مثلما فعل رفيق بآدم، لقد رفض أن أستمر في إصلاح الساعات، قال لي إنها صنعة لم تعد مطلوبة وعليَّ أن أستريح ولا أجهد عيني بهذه المهنة التي انقرضت.

أخذ يبحث عن أحد ليشتري أدوات صنعتي، تلك الأدوات التي اشتريتها بكدي وعرقي، كنت أحرص عليها من الضياع والتلف حرصي على حياة أبنائي، وحين جاء من سيشتري أدوات صنعتي، وضعها في صندوق كأنها قمامة يريد أن يتخلص منها، بكيت يومها كما لم أبك من قبل، تمامًا كما بكى آدم اليوم!
كنت أتحسر وأنا أراه يدفعني تدريجيًّا للجلوس على باب المحل، لأقبع خارجه، أهش الذباب عن وجهي وأنشغل برد السلام على المارة، أتابع حركة ظلي على الأرض، أشاهده يسير ببطء حتى يرحل، يفارق جسدي ويغرب مع شمسي التي تغرب!
لذلك أحرص على القدوم مبكرًا، لأستمتع بالجلوس على مقعدي وبين جدران دكانتي، قبل أن يأتي حاملًا معه الصمت، بعد أن يقول صباح الخير على مضض، أخلي له المكان، تأكلني خارج دكانته الوحدة ويمزقني الصمت كالعادة.
أصبحت أنا الآخر من التحف النادرة، أنتظر من يرسلني إلى المتحف ياعم آدم!

شعرت فجأة بأن رجلًا قد مر بجوار دكانتي متجها إلى صالون عم آدم، خشيت أن يدخل عليه فيراه وهو يبكي، خرجت كي استوقفه، نسيت أن أجفف عيني من دموعها، فإذا به رفيق ابنه، يدخل عليه الصالون،
دخلت خلفه، لمحت عم آدم مستلقيًا على كرسي الحلاقة، يداه تتدلى على جانبي المقعد، رأسه قد استقرت على صدره الساكن كالحجر لا يتحرك!

تمت