عزمي عبدالوهاب يبدو مولعا بالكتابة بديلا عن الحياة


إبراهيم محمد حمزة
المصدر جريدة القدس


يقدم عزمى عبد الوهاب فى ديوانه الجديد " شخص جدير بالكراهية " حالة كاملة متوهجة ، تحمل خصائص شاعريته ، وامتداد مشروعه الشعرى الذى بدأ بديوانه " النوافذ لا أثر لها ، ثم " الأسماء لاتليق بالأماكن " ثم ديوانه الثالث " بأكاذيب سوداء كثيرة " ثم صدر له عن دار ميريت " بعد خروج الملاك مباشرة " وأتبعه بديوان "حارس الفنار العجوز " .. فى كل ديوان تتألق تيمة تنداح من خلال القصائد ، هذا الديوان يحتله السأم بلا منازع ، لكأن الإنسان فى قصيدة عزمى عبد الوهاب يعيش حياة لا يحبها ولا يتمناها ، بل ينفقها مضيعا ساعاتها ، خائفا قلقا نزاعا للموت ... ومن خلال هذه الحالة الرمادية تتجلى أبرز سمات قصيدة شاعرنا ..
ـ قصيدة الضفدع اللذج :
يرى الشاعر الأمريكى بيتر جونسون أن قصيدة النثر نوع مستقل – genre of poetry - ويذكر فى مقدمته لعدد من أعداد مجلة باسم " قصيدة النثر " أنه حين أهدى كتابا له عنوانه " قصيدة النثر إلى أحد النقاد ، ارتد كما لو أنه ناوله ضفدعا لزجا ، مؤكدا : أنه لا يوجد شىء اسمه قصيدة النثر .. يبدو أن اعتبار قصيدة النثر نوعا أدبيا هو حل ميسر تماما لاتهام دائم لهذه القصيدة ، حول " عوامل وجودها ومبرراته " ، ولكن نحن بإزاء ديوان تجاوز فكرة التصنيف ، إلى التماهى الوجودى العميق ، وإلى رصد حالات القلق الإنسانى بشكل مغاير وبسيط وصادق ، وقد جعل مدخله تعبير عبقرى لديستوفسكى
( الحياة فوق الأربعين أمر بالغ الحرج ) .
تكاد المرأة تطبع القصيدة بأنوثتها الغائبة أو المغيبة ، بينما مضادها الدائم – الرجل – يقضى العمر مشتاقا لرغبة مستحيلة ، هذه التيمة التى تتطور عبر قصائد عزمى عبد الوهاب بداية من قصيدة " نتنام الأشياء كما تركناها بالأمس " منشدا حالة السأم الملازمة :
( .. وأنت واقفة / هكذا / تمشطين شعر غيمة / توقفى قليلا / تحت سماء سوداء / بكت نجومها حتى النفس الأخير /انظرى ! الصورة ناقصة / فيها رجل / ابيض شعره فى الظلام ... )
هكذا تبدو المرأة الحلم ، المشتهاة ، المأمولة بلا طائل ، هى تصعد لسماواتها ، بينما هو يضيع فى الحديقة للبيت ، رجل خارج الكادر المصور ، وامرأة الحلم ، والسأم ثالث أركان الصورة ، فأخطر ما يواجهه الشاعر ( تلك هى المأساة / أن تنام الأشياء كما تركناها بالأمس ) . هكذا يمهد الشاعر لتيمته المتكررة الموجعة عبر تسع قصائد هى المكونة للديوان .
ـ غنائية مخنوقة بوح مستتر :
رغم الغنائية المنسابة عبر قصائد الديوان ، إلا أن الشاعر يلجأ فى بعض الأحيان لخنق هذه الغنائية المترقرقة ، وقصيدة " حوار لم يكتمل " تأكيد لوجود المرأة التام وانقطاعها التام أيضا ، هذا الحضور الشائه ، بين الوجود الغياب ، يمارس الشاعر هذا الخنق للبوح ولغنائية القصيدة بقصدية ذكية :
( اختبرنى يا حبيبى / اختبر المارد / هل مات فى قاع القمقم ، أم لا يزال هناك ؟ /
ـ أعترف أن دموعى تتساقط / ـ لماذا تتساقط دموعك الآن ؟ / ـ لأنك هنا / ومتى تتوقف عن الجريان ؟ / عندما ألتقى حبيبى / لكنها لا تلبث أن تنهمرحين تقبلنى / ـ ومتى تنتهى الرغبة ؟ / لن تنتهى ولن تتحقق .
المرأة فى الديوان هى تتمة عذاب الزمن الوجودى ، الذى يتسرب رغم حاجتنا لتوقفه ، يمتزج المزاج الرمادى العام الذى يقسو على الشاعر ، بآلام الشوق الجسدى غير المتحقق ، كأنها رعشة الرغبة المستحيلة ، فإن كان هناك زمن تقدم فيه " الشعرى " على " الواقعى " بتعبير كيركجارد – فإن هذا الفصل يذوب هنا ، فالشاعر يعبر عن موقفه ، بلغته لا تتعالى ، ولا تنحاز لمجاز ما ، ورغم حرص الشاعر على وأد لحظات الغنائية المتمردة عليه ، من خلال وقف التدفق السردى / الشعرى ، خاصة فى " حوار لم يكتمل " فإن القصائد التالية تنحاز للبوح البهى ، مجسدة لحالة الضعف الإنسانى بعذوبتها العامة مهما اختلف الزمان ، وفى قصيدة " حتى ترى آثار زفرتك الأخيرة " رغم شبقيتها البالغة ، فهى تمثيل لشوق الرجل للأنثى ، التى تتحول إلى حلم مستحيل لا أكثر ، بل يظل التذكار سيد الموقف ( آه من نار أشعلتِها فى صدرى / آه من أسنانك / وهى فى سبيلها للانقضاض / آه من شفتيك / وهما ترميان بقذائف اللهب / فى وجهى ... )
فهذه اللغة الرومانتيكية ، ببلاغتها التقليدية عبر التكرار واستخدام صيغ تقليدية " آه من " .. بهذه الرتابة ينتقل الشاعر إلى صدمة جديدة ، عبر استخدام لغوى جديد ، حين نكتشف أن الحبيبة فى الغياب وليست فى الحضور الشبقى المثير .. ( غيبى كما تشائين / فالسلالم التى قطعِتها / درجتين درجتين / لا تزال تحتفظ / بدقات قلبك ..، وهذا الكرسى لا يزال / يحتوى عباءة / ألقيتها على ظهره ..) ..
ـ التذويت / الفضح :
التذويت يعنى حضور الذات المبدعة بنفسها داخل نصه الإبداعى ، وهى ظاهرة قديمة قدم الشعر ذاته ، عبر تجليات لا مثيل لها فى الشعر الجاهلى ، وقدرة جادة على التعبير عما فى النفس ، لكن الذويت فى القصيدة الحديثة وفى الرواية الحديثة ، يتخذ أطرا مستقلة فى طرقها عن طرق الأقدمين بالطبع ، إنها لحظة التوهج الأسمى بالصدق التام ، ورغم أن الصدق الفنى لا علاقة له بالضرورة بالصدق الحياتى أو الأخلاقى ، فحالة التعبير عن الذات تتخذ أسمى تجلياتها عبر قصائد الجسد فى الديوان ، فصورة الأرملة المتكررة ، والتى يصل بها للزواج فى قصيدته الجميلة حبيبتى تزوجت أمس ) يؤكد على ذاتية الرؤية ، فنفس الشاعر تقوم فى النص ،كاسرة لتوهم القصيدة الناطقة بحالها ، مستبعدة مبدعها ، يقول ( وحبيبتى جميلة ووحيدة ، وأرملة / صغيرة كما وصفتها فى قصائدى الأولى / حبيبتى تزوجت / اغتصبها زوجها أمس / هذا أفضل فعلا ! )
إن الصوت فى القصيدة لا يسعى لتعاطف ، قدر ما يسعى إلى إدانة ، فهو يلوم كل من على الأرض ، لأن حبيبته تزوجت ، واستسلمت للاغتصاب الزوجى ، ثم يتلوها بقصيدة " محاولة الكتابة عن أرملة صغيرة " فنجد فاعلية الكتابة لدى الشاعر مؤكدة بروز الذات بطرق متوالية ، عبر الفعل " كتبت " أو يصل للذات مجردة ، عبر قوله " ولأننى مغرم بالاقتراحات / منذ ديوانى " بأكاذيب سوداء كثيرة " / وأفرح بدخول مفردة جديدة / إلى عالمى الصغير .... )
ثم مشهد آخر لافت يَصْدَع فيه الشاعر بآلام ذاته ، مصورا لحظات بداية العمل ، قراءاته ، صداقاته ، ليصل التذويت لأقصى طاقاته الفنية الآسرة فى قصيدة " سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية " والتى تكاد تصل لنوع من رثاء الذات ، والبكاء على حياة لا يستشعرها المرء ، ولا يتمتع بها ، هى حالة اللاجدوى كما حددها الشاعر :
(يذهب إلى عمله بشكل آلى / لا يفكر فى شىء محدد / يجلس إلى المكتب / يريح رأسه بين راحتيه للحظة / كما يليق بمحبط / يطالع أوراقا تحتفى بالرطانة / لا معنى لما يفعله / ولا طموح لديه فى الوظيفة ) .
قدر الصدق فى طرح الشاعر يجعله قادرا على تجاوز ما اعتدناه من أطر تدور حولها قصيدة النثر ، ويبدو تعمد اشاعر انتقاء مختاراته لصلاح عبد الصبور ، فبعد أن وجدنا صورة الكائن الذى يعيش رمادية الحياة ، لم يعد الشاعر لقصيدة " عبد الصبور " الشهيرة (يعترينى الزاج الرمادى ) وحين تحدث عن " السأم " مكررا اللفظ ثلاث مرات ، لم يشر لقصيدته الأكثر شهرة " موت فلاح " والتى ترصد حالة التخلص من الرطانة اللصيقة بالمقفين إلى الفلاح الذى لم يكن يستعجل الموت ، لأنه يصنع الحياة ، ولم يتوقف عن
(هذا زمان السأم / نفخ الأراجيل سأم / دبيب فخذ امرأة ما بين أليتيّ رجل ../ سأم ) لكنه يلجأ للمعانى الأكثر قسوة وتطرفا فى شعر عبد الصبور ، ثم يلخص الأمر كله فى قسوة أشد ، قسوة الحكم على الذات ( ... الموضوع بسيط للغاية / فهو إنسا سلبى / اعتاد حياة مملة على مدى أربعين عاما / لا يحب المفاجآت ، حتى لو كانت سارة ) .
ـ الجنس .. وجع التحقق :
ينداح الجنس فى الديوان بشكل يجعله تيمة أساسية من تيمات هذا العمل ، لكنه يأتى فى شكل قطيعة مع المرأة وليس التصاقا واتحادا بها ، لتظل هى المشتهى الذى لا يتحقق ، المنى الذى يظل معذبا للمرء كأنه جرحى التشهى لدينا ، وتبدو قصيدة " حتى ترِِى آثار زفرتك الأخيرة " معرضا نادرا للاشتهاء الوحشى للمرأة ليس الجسد ولكن الأنثى ، عبر تدرجات روحية بديعة بالقصيدة بمخاتلة واضحة وذكية ، فالمقاطع فى القصيدة تنجز إحالات نفسية ، يخادع فيها الشاعر القارىء ، حيث يبدأ "عزمى عبد الوهاب " قصيدته بإبراز الليبدو Libido ، تلك الطاقة الجسدية أو الجوع الشره للمرأة :
( آهِ من نار أشعلتها فى صدرى / آه من أسنانك / وهى فى سبيلها للانقضاض / آه من شفتيك ...... )
لكن القصيدة تتقدم بقارئها ، ليكتشف أن هذا الشوق ليس سوى تعديدة حزينة للتذكر الأسيان ، ثم نكتشف فى المقطع الثانى أن هذا التذكر الذى يشتهيه ، يتحول إلى ( ليلة حمراء تشبه الجنون / ..... / هى ليلة حمراء تليق بشفتيك الوحشيتين ...) لكنه قبل أن يغادر المقطع ، يهدمه على رأس سامعه بلفظ ( ألا تفهمين ) ليحيلنا إلى كون الليلة مجرد أمنية ، لا واقع بها ، ليظل جرح التشهى نازفا ، ثم ينتقل الشاعر إلى مخاطبة الحبيبة بصورة نادرة فى شعرنا العربى ( امنحينى امرأتى / التى تخبئينها فى الملابس السوداء )
وتبقى الأنثى المستحيلة بارزة بين منعطفات الديوان ، وعبر هذه القصيدة تدهشنا مفاجأة ينهى بها الشاعر قصيدته ( غيبى كما تشائين / لكن فكرى جيدا / فى ذلك الكرسى / وتلك الستارة / والممر / والجدران / كيف احتفظت بتلك الذكريات / دون أن تئن أو تنهار ) .
***
عبر هذه السطور القليلة ، لم يتسع المقام لدرس اللغة ، ومقدرة الشاعر فى تطويع اللفظ العامى للقصيدة الفصيحة بدون أن يفقد جلاله كألفاظ " العبيطة ، المكان الغلط ، إلخ
ولم نلتفت إلى المد التراثى البهى فى الديوان ، متمثلا فى صيغ لغوية قرآنية أو تراثية ، تضمخ بعطرها الجو الإنشادى الذى احتفظ به الشاعر ، وقد نأى الديوان عن أوجاع المجموع فى سبيل آلام الذات الوجودية المقبضة ، والتى تسبق الألم الجمعى ..
ديوان جديد ينضم بقوة إلى تيار صاخب هادر ، متجدد ، حتى لم يعد ينقصه سوى شىء بسيط تماما .. مجرد قارىء مخلص .