عربة البوعزيزي ومصر البهية

 دمشق: 30-1-2011

في تونس.. صفق عصفور بجناحيه مغادرا قلب كل تونسي وتونسية، باحثا عن ملجأ.. عن أرض تؤويه قبل أن تصيده بنادق السلطة في واحدة من حفلات تنظمها على غرار حفلات صيد الخنازير البرية.. فوق جناحي ذلك العصفور هرب التونسيون خلاصة روحهم، فأمنوا على لون أعينهم وعلى زغردة أطفال أحفاد لهم سيولدون لاحقا من الانقراض.

في كل عام تعود الطيور المهاجرة إلى مواطنها الأصلية؛ لكن ذلك المهاجر التونسي بقي في المنفى، يضنيه الحنين.. وكطفل يتيم تنهمر دموعه كلما ذكر أحدهم ولو عرضا اسم أبيه وأمه.. تونس الوطن. يتم لم يعرفه قاموس الطبيعة أنتجه الطغيان ومزق قلوب الشباب. مستقر كان هو وضع الوطن العربي.. مستقر على جرح مفتوح لآفات مزمنة، وعلى ثبات للرسمي العربي يحاكي سبات الديناصورات. قاتل الله اليأس..

فإلى وقت قريب كان ممكنا الرهان أن حال ذلك السائد عصي على التغيير، لا يستجيب لمد أو جزر خوفا من أن يستغل إبليس اللعين لحظة التحرك ويسرق الكرسي. مرت السنون وهو مشغوف بلعبة شفط الثروة وتطوير صناعة الخوف والدونية. فقدت نفوس الناس نضارتها وانسكب ظل لجناحي عنقاء سوداوين فوق شغاف القلوب. انقرضت مهرجانات الفرح الشعبي، وحل مكانها حفلات يحييها مصاصو المحبة والفرح في قصورهم. لم تخبر العرافات الزعماء العرب عن ما ستفعله "عربة البو عزيزي".. عن أنها ستكون السبب في عودة ذلك العصفور!!

لو فعلت.. لكانوا حذفوا من الواقع كل ما يشبه العربة، أو يمت لها بصلة. ربما أثمن ما أنتجته الثورة التونسية العفوية هو عودة ذلك المهاجر. عودة الحب إلى قلوب أضناها الخوف والقهر والترهيب والتعذيب والإذلال، وسكنت وجوه أصحابها سحنة تقول أن صاحبها وضيع وذليل. سحنة تعاقب السلطة المستبدة كل من لا يحملها محياه. مع رحيل الطاغية بن علي عاد الحب المهاجر.. فاضت الوجوه كينابيع جادها الغيث بعد طول جفاف؛ بالاعتزاز والفخر بما أنجزته سواعد الشباب، وبما تعمل على تثبيته أقدامهم الراسخة، وذلك هو بن جدو يحلق من بيروت في الخمسينيات عمرا ليهبط في شوارع تونس طفلا يتجمع حوله الأصدقاء في الحي والمدرسة.. في محياه ومحياهم، في عينيه وعيونهم فيضا من طفولة عذبة سجنها عذبها ونفاها الطغيان، وحررتها سواعد الشباب.

في شوارع مصر يكتشف المصريون أنفسهم من جديد.. كم هم جميلون وكم يستحقون الحياة، وكم هم قادرون على انتزاع لون جباههم من قبضة الطاغية التي يصنع منها صبغة لشعره ولعجزه الإنساني. إلى ميدان التحرير حمل مصري طفله، تدفعه رغبة جامحة عمرت صدره؛ يجب أن يرى الطفل وجه مصر الحقيقي. إلى شارع آخر هرعت أم خلف ابنها الوحيد لتسحبه إلى البيت خوفا من أن يقتل.. محمولا على الأكتاف كان.. يهتف بصدره: "يا مصر قومي وشدي الحيل.. كل اللي تتمنيه عندي". أحست الأم بطعم يغزو حلقها لم تعرفه من قبل، ستدرك بعد لحظات.. بعد أن هدر صوتها هي:" مصر يما يا بهية .. يام طرحة وجلابية".

ستدرك أنها هي مصر ، وأنه كان طعم الكرامة. كل يوم يحرر شباب تونس فضائها من غربان الطغيان والكراهية، وفي مصر اكتشف القبطي والمسلم من جديد الرابطة التي آخت بينهما، وتذكرا كيف وكتفا إلى جانب كتف وقلبا شد آزر قلب.. صنعا هزيمة الصليبيين، وفي لبنان بلد الجسارة والنصر هزم نظراء لهما غربانا صديقة للعنقاء.