طريق العشق

رغم أن والدي كان من عاشقي فلسفة "ديكارت" الذي قال "افكر إذن أنا موجود" فأنا شخصياً أميل إلى فلسفة "أنا أعشق إذن أنا موجود". فيبدولي أن عشق الحياة هي غايتها. وصحيح أن تعاليمنا الدينية تحرضنا على ترك الدنيا لأهلها والاعتناء بالحياة الآخرة لكننا نستطيع أن نقول أن حتى الحياة الدينية تحرضنا في الواقع على عشق الآخرة. فالمسألة كلها عشق من أولها لآخرها.

وهل يستطيع الإنسان أن يعشق الدنيا والآخرة معاً؟ من اخترق حجب الزائل سيرى الباقي. فإن رأى الإنسان ما وراء الزائل في الزائل فقد رأى الباقي. ونحن دائماً ما نعشق الباقي عبر الزائل - أو نعشق المحرك عبر المتحرك. فإن كرهنا المتحرك كيف إذن نحب المحرك؟ ألا تحجبنا كراهية المتحرك عن رؤية المحرك؟ كما قال الشيخ النابلسي:

تجلى وجه محبوبي

وهذا كل مطلوبي

فيا نار العدى ذوبي

بعيد عنك مشروبي

وكما قال إبن العربي الأندلسي الملقب بالشيخ الأكبر:

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه ، فالحب ديني وإيماني

وقد سمى المتصوفة المحبوب "نَفَس الأنفاس". وما الحكمة في هذه التسمية؟

بعد شيئ من التمعن في البحث عن المعاني اكتشفت أنني لا أستطيع أن أحب الموجودات بدون أن أفهمها - فحتى الكلب الذي يحب سيده عليه أن يفهم أولاً أن سيده هو الذي يطعمه - إلا عجز عن محبته. فالكلب يرى أن من يطعمه سيده ويكاد يعبد سيده لأنه يطعمه. فلا يستطيع الكلب أن يحب سيده إلا إذا أطعمه. والمحبة عند الإنسان ولحسن الحظ قد بلغت درجة أسمى من الارتقاء. لكنها مع ذلك مرتبطة بالفهم - فالعاشق لا بد أن يفهم أن من يعشقها قد تعشقه حتى في السر وإن لم تظهر ذلك في المظهر. وإن اكتشف أنها تعشق غيره فسيصرف النظر عنها إلا إن كان لديه أمل أنها ستعشقه وتصرف النظر عن حبيبها. أي أن عشقه مرتبط بفهمه أنه لديه فرصة في نيل محبتها. وقد يكون الفهم خاطئ وعندما "يفهم" خطأه في التقدير سيصرف النظر وبسرعة. أما الفهم الغير وهمي أو الإدراك الصحيح فهو مصدر المحبة.

وعندما ننظر إلى مصدر الفهم سنجد أن مصدر الفهم هو الوعي. إن الوعي بالشيئ أو بالشخص هو الذي يؤدي إلى فهم هذا الشيء أو هذا الشخص.

وعندما ننظر إلى مصدر الوعي فسنجد أننا نستطيع أن "نفصص" الوعي الإنساني إلى وعي يتغير من لحظة إلى لحظة. فنحن عندما نمشي في الشارع مثلاً قد نكاد نكون على غير وعي بأننا نمشي في الشارع لاستغراقنا مثلاً في الفكر - لكن الواقع يصدمنا - فقد يعارض أحداً طريقنا عن غير قصد فحينذاك سينقطع حبل الفكر لضرورة وعينا باللحظة. فوعينا بعملية الفكر نفسها تحتاج ظروف معينة.

ووجدت أن التنفس الواعي يعمق قدرتنا على الوعي بكل لحظة.

وما هو التنفس الواعي؟

إن التنفس الواعي هو أن لا يسمح الإنسان لنفسه أن يستغرق كل قواه في الوعي بمحيطه - فيسعى دائماً لأن يكون على وعي بنفسه. وحسن السبل لتعميق الوعي بالنفس بل بالمحيط أيضاً هو أن نمارس ممارسة التنفس الواعي - أو أن نحاول على الدوام خلال النهار كله والليل كله أن نكون على وعي بعملية التنفس - حتى لا يتم بدون شعور منا بها وحتى نكون على دراية أعمق بما يدور في ذاتنا وفي محيطنا ما بين اللحظة والأخرى.

وهذه الممارسة ليست سهلة - لأننا قد اعتدنا على الاستغراق فيما نفعله ما بين اللحظة والأخرى ولم يدربنا أحد على ممارسة التنفس الواعي. فعندما تزداد قدرتنا على الوعي عبر التنفس الواعي سرعان ما يسيطر الخوف علينا لأننا سرعان ما نرى أشياء وندرك أشياء ونشعر بأشياء غير مألوفة لم نكن ندركها ولم نكن نشعر بها قبل ممارستنا للتنفس الواعي - وقد يسيطر الخوف علينا بحيث نتوقف عن الممارسة.

فالممارسة المستمرة تحتاج إلى قناعة - تحتاج إلى قناعة منا أن التنفس الواعي هو حقاً طريق جميل لتعميق الوعي بالذات وبالمحيط ما بين اللحظة والأخرى وقناعة منا أيضاً أن كلما تعمقنا في الوعي كلم تعمقنا في قدرتنا على الفهم وأننا كلما تعمقنا في قدرتنا على الفهم تعمقنا في قدرتنا على محبة الأشياء والأشخاص التي مرت في طريقنا والتي فهمناها بعمق أكثر