ضحى عاصي ترثي الأحلام الكبرى في روايتها «القاهرة 104»

سيد محمود
المصدر: جريدة الحياة 4 أغسطس 2017

تعالج رواية «القاهرة 104» (بيت الياسمين) للكاتبة ضحى عاصي، تناقضات اجتماعية ونفسية عدة تلعب بمصائر مجموعة من النساء انطلاقاً من سردية مركزية تخص بطلتها انشراح التي تروي قصتها من العالم الآخر. وعبر برزخ بين عالم الموتى وعالم الأحياء، تهمش عاصي من أصوات أبطالها الذكور العاطلين في نصها عن الفعل حتى بالمعنى الإجتماعي، مقابل تمجيد أفعال بطلاتها في مواجهة مختلف أشكال القهر. وتستند هذه المواجهة إلى إيمان بعض هؤلاء بقوة المعتقد الشعبي والموروث وأفكار السحر، وكيف يمكن أن يستخدم في الكثير من البيئات كآلية للتحايل على الحياة أو كملجأ للمقاومة في مكان مركزي لميلاد البطلة وهو حي الدرب الأحمر القاهري العتيق. ترث انشراح منذ طفولتها مهنة جدتها نرجس البصَّارة التي تتمتع بمكانة مركزية في بيئتها، وتأخذ عنها «العهد»، وتمثل وهي التي ولدت في 1952 وماتت في 2011 رمزية كاشفة لمسيرة طبقة بشرتها ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 بالأمل، لكن مآل انتفاضة 2011 وأد أملها تماماً وقاد أحلامها إلى الموت. وتتسم الشخصية محور العمل بطاقة حياة كامنة لا تنضب، فلا يقدمها السرد كنموذج رومانسي أو كائن خير لا تمسه شائبة، إنما يشكلها من خليط هائل من القيم الإيجابية والسلبية أيضاً، فتبدو كإنسانة حقيقية من دم ولحم تبسط موجاتها النفسية والروحية على الآخرين. ومن ذلك التكوين الفريد الذي صاغته الحياة عليه، تكاد تكون شخصيات عدة انصهرت في كيان واحد، وعلى رغم عدم صدقية الكثير من مكونات وعيها وعدم انسجامٍ قد يحسه القارئ مع هذا النموذج الروائي، إلا أنه ليس مستحيل التحقق. تمثل انشراح طبقتها الشعبيه المصرية وهي في سبيلها للانسحاق والتهميش والتراجع، فهي على رغم نبوغها وكاريزميتها المفرطة اضطرت لترك التعليم بعد أن أصرَّت زوجة أخيها على أن تخدم معها في المنزل. وبسبب انعدام التكافؤ تفقد في مراهقتها حبيبها إبراهيم الذي يغادر إلى فرنسا في منحة دراسية لتتزوج من ابن شقيقته حسن، العويل العاطل من الفعل لغرقه في المخدرات والمحبوس في أسر تخوفاته من أشباح ماضي زوجته.

وتماثل البيوت التي خدمت فيها انشراح مرايا تعكس تجارب النساء التي عملت معهن، وتضفر الكاتبة ضحى عاصي التي درست المعتقدات الشعبية، عوالم بطلتها بسمات من «الفانتازيا الشعبية» التي تتماهى في وعينا المعاصر مع ما يسمى «الواقعية السحرية»، وتؤسس لعالمها الغرائبي داخل النص على ثيمة «الهاتف الليلي» التي تبدو رئيسية في بنية العمل ورسم سيرة بطلته. وفي كل بيت دخلته انشراح ولدت حكاية، ففي واحد منها ارتبطت بصداقة مع ناهد، ابنة الدكتور المرزوقي التي نمت وعيها وثقافتها لحد أن باحت لها بسر تجربة إجهاض لطفل من أب فلسطيني رفض أن يستمر معها لأنه لا يريد أن يكون «أباً بلا وطن». التقت انشراح في بيت آخر مع المايسترو أشرف الدمرداش الذي يهيم بها حباً. وفي بيت عادل هيدرا، تتعرف إلى غادة ابنة المناضل اليساري والتي خافت من الارتباط بعادل لأنه مسيحي ولا تريد أن يغير دينه من أجلها.

وفي سبيل تقصي هذه التجارب نتعرف إلى شبكة علاقات نسوية تقوم بنيتها السردية على التجاور والتركيب المتقن، عبر لغة جيَّاشة في ظل بنية نصية شبكية لافتة تحفل أحياناً بالكثير من الزوائد التي كانت في حاجة إلى تكثيف للتخفيف من أعباء النص.

وعقب وفاة شقيق انشراح تقوم زوجته بإجهاض منال زوجة طارق سيد عويضة وإقناعه بطلاقها بزعم أن الجنين لم يكن من صلبه. تتعاطف انشراح مع منال الطشطوشي التي تتحول إلى امراة ساقطة وفقاً للأعراف السائدة وتجتمع النساء الثلاث (ناهد وغادة ومنال) في منزل انشراح وبينهن وثاق الألم والاشتراك في ندوب الخسارة.

وفي لحظة احتضارها، تستقبل انشراح هاتفها الليلي ليقول لها إن سيارة دفن الموتى التي تحمل الرقم «104 القاهرة» تستعد لحمل جثمانها. وفي الجنازة تتجمع شخصيات العمل في كورس للوداع ويحمل المشهد «مجازاً» يصعب تفاديه، فهو فضاء للتطهر من آثام الأفعال التي قادت المدينة كلها إلى هذا الموت المؤجل وهو يقترب بتقنية التعدد الصوتي من معنى المحاكمة، و «مراثي» الوادع لوطن مفعم بالخسارات وشجن لحظات الانهيار. ولا يمكن النظر إلى بطلات الرواية في هذا المشهد بمعزل عن لوحات «النائحات» الشهيرة في الفن المصري القديم.

تقدم رواية «104 القاهرة»، إجمالاً، لوحة اجتماعية شديدة التشابك والكثافة تصور تحرك الحياة المصرية منذ خمسينات القرن الماضي وحتى العقد الأول من القرن الحالي، راصدة تغير كثير من القيم والمفاهيم والمواضيع الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تصنع التغيرات البطيئة والمستمرة في حياة المصريين لتصل إلى شكلها الحالي، كاشفة عن مقاومة نسائية في لحظات تحول قاسية، وتبدو في القراءة الأخيرة مرثية للأحلام الكبرى التي رافقت تلك التحولات