سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية


أربعون عاما من الحروب الصغيرة
وهو يفعل الأشياء ذاتها
يقطع الشوارع
بروح شاحبة
وكأنه علي شفا موت مجاني‏,‏
يلتقي ذات الوجوه
العائدة من معارك خاسرة‏,‏
إنه بائس
لا جديد لديه
يصحو يوميا في الظهيرة
يمسح عن وجهه
ست ساعات من النوم المتقطع
بالماء الفاتر‏,‏
ثم يبقي علي طرف السرير
مغمض العينين‏,‏
يخطو نحو المرآة
لا يري أحدا علي سطحها المصقول
ولا يثير ذلك لديه أدني اهتمام
فالمرآة لا تري
يزيل عن شعره غبار الكوابيس
محدثا نفسه‏:‏
‏(‏ كأنني أنام في الشارع
رائحة الشواء‏,‏ والدخان‏,‏ والضوضاء
في الخارج
تتسلل عبر النافذة‏,‏
وفي الداخل
يقاوم الصغار النعاس
بجلبة البحث عن كتاب ضائع
في مكان لن يصلوا إليه‏)‏
كأنه ينام في الشارع
منذ أربعين عاما‏,‏
شروده لا يغري بالاقتراب
يبدو مكتفيا بذاته
متصالحا مع نفسه‏,‏
وأن رأسه صارت عبئا علي كتفيه
لذا يتحرك بسأم نحو نهاية
يزعجه التفكير فيها
وهو في طريقه إلي المترو‏,‏
يذهب إلي عمله بشكل آلي
لا يفكر في شيء محدد‏,‏
يجلس إلي المكتب
يريح رأسه بين راحتيه للحظة
كما يليق بمحبط
يطالع أوراقا تحتفي بالرطانة
لا معني لما يفعله
ولا طموح لديه في الوظيفة‏,‏
اشتكي لصديقته إحساسه باللاجدوي
فصرخت‏:‏ إنها القصيدة‏..‏ اكتبها واسترح‏,‏
لنفترض أنه استجاب لا إراديا
لتلك الصرخة المفاجئة
طيب‏..‏ ماذا بعد ؟‏!‏
إنه يصحو وينام‏,‏ يتكلم ويصمت‏,‏
يلتقي وجوها ويودع أخري‏,‏
يتذكر وينسي‏,‏
يأكل ويشرب كواجب وظيفي
سأم‏..‏ سأم‏..‏ سأم
يدفعه إلي حافة الغثيان
تلازمه مقاطع من‏'‏ صلاح عبد الصبور‏':‏
كنا علي ظهر الطريق عصابة من أشقياء
متعذبين كآلهة
بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت‏'‏
و‏:‏
‏'‏ يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح‏'‏
أو‏:‏

'‏ كم أنت قاس موحش يا أيها الإله‏'‏
أحد أصدقائه لفت انتباهه
إلي أنه كثيرا ما يستخدم أدوات النفي
حاول البحث عن تفسير
وبالرطانة التي يمجها
تقمص هيئة شخص آخر
وقال‏:‏ يا عزيزي‏,‏ ربما يعود الأمر
إلي الرغبة في حذف الآخرين
أو الصراخ في فضاء مزدحم‏:‏ إنني وحيد
إنه يكذب
معتقدا أن الكذب يمنحه حيوية سرية
يفتقدها‏,‏
مع أن الموضوع بسيط للغاية
فهو إنسان سلبي
اعتاد حياة مملة علي مدار أربعين عاما‏,‏
لا يحب المفاجآت حتي لو كانت سارة
صديقته قالت له‏:‏
‏(‏ حارس الفنار العجوز‏,‏ أرهقه الترحال‏,‏
فارحمه‏,‏ وكافئه بامرأة ترتدي الأسود‏,‏
لكنها تري الوجود مزدحما بالألوان‏)‏
هي لا تدري أن أزمته الحقيقية في الإقامة
لا الترحال‏,‏
إيقاع حياته الرتيب
حرمه من شجاعة أن يمد إليها يديه‏,‏ حين وقعت كالذبيحة
بين أنياب الأبوة الزائفة للعم الجليل‏,‏ والأخ غير الشقيق‏,‏
وابن العم‏,‏ وصاحب البناية المتهالك‏,‏ ومدير المدرسة
المتصابي‏.‏
لابد أنها ألغت من برنامجها اليومي التفكير فيمن دعته
حارس الفنار العجوز‏,‏ فهو لا يختلف كثيرا عن هؤلاء‏,‏
فقط يستطيع أن يتحدث عن آليات الكتابة‏,‏ وحرية المحب
في أن يقبل محبوبته في ميدان عام‏,‏ حتي لو ثقب الرصاص
ظهره‏,‏ ثم يتحدث بصورة جارحة عن ثقافة آبائه‏,‏ التي
لا تنتصر لفكرة تعدد الزوجات‏.‏
إنه يستمرئ حالة الواحدية
التي عاشها عمره كله
كأنه قطار
إذا حاد عن مساره
وقعت كارثة
لقد نجت صديقته
رغم أن البدائل المتاحة أمامها
غير مقنعة
كانت ستدخل جحيمه الروتيني‏,‏
وكان سينصرف معذبا بقدرته علي ظلم نفسه
والله‏!‏
أحيانا
يراه الواحد شخصا جديرا بالرثاء
وضعوا حياته بين يديه‏,‏
وقالوا له‏:‏ كن كما تشاء
لكنه لم يكن‏,‏
واكتفي بالبكاء علي أربعين عاما تولت‏,‏
أمامه فرصة أخيرة
لو أنه يجرؤ علي إتيانها
احقيقة أنه هو نفسه يفكر فيها
من آن لآخر
فماذا يضيره لو أنه تخلص من أسماله‏,‏ ومشي عاريا‏,‏
ينام علي شاطئ بحر أو رصيف‏,‏ يمشي في صحراء‏,‏
أو يمكث تحت شجرة في حديقة عامة‏,‏ وبمرور الوقت‏,‏
يصير جزعا لها‏.‏
لكنه جبان
لا يجيد التصرف في حياته
ولذا
سيظل يبكي أربعين عاما من الحروب الصغيرة
وحبيبة ضيعها تحت ذرائع تافهة
مثل تناقضاته الخفية‏,‏
وثقافة آبائه
الذين لم يعيشوا الحياة أصلا‏!