سامية محرز عاشقة القاهرة أم المُدن

لفترة تقترب من القرن ظلت مدينة القاهرة هى السحر الذى يجذب الأدباء على اختلاف أجيالهم، وتلك ليست الحقيقة كاملة بل أنها جزء من الحقيقة التى أظهرها كل من جمال حمدان فى كتابه الأشهر – على نطاق ديمغرافى- "شخصية مصر" وكذا فعلت سامية محرز أستاذ الأدب العربي ودراسات الترجمة المخلصة لهما لثلاثة عقود متوالية ، فى كتابها " أطلس القاهرة الأدبى – مائة عام فى شوارع القاهرة" تُظهر القدرة الفائقة على اختيار النصوص المجسدة لحِقَبٍ مختلفة وأجيال متعاقبة لكل منهما رؤيته للمدينة العجوز (القاهرة) ، وبلا شك أن تلك الرؤى الأدبية مختلفة الأجيال قد أظهرت ما اعتور المدينة من أحداث أدت الى تشويه وتقهقر لجماليات مدينة القاهرة التى عُرفت فى أربعينيات القرن الماضى بـ" باريس الشرق" .
انقسم كتاب " أطلس القاهرة " إلى أربعة أقسام ؛ الأول: خطط القاهرة "مائة عام من التحوّل". القسم الثانى:" فضاءات عامة" ، القسم الثالث:" فضاءات حميمة" ، القسم الرابع:" أن تنتقل فى القاهرة ".
ولأن الأطلس قائما على اقتطاع النصوص التى تجسد مظاهر الحياة والبشر فى القاهرة فإن الجغرافيا "جغرافيا المكان " من الأهمية الكبرى التى تصف نطاق النصوص الأدبية المُختارة؛ لذلك فالجغرافيا تستوعب االتاريخ الثقافى وتعد قوة فاعلة فيه،  فالأساس ينبغ إظهار الصلة بين الجغرافيا والأدب والجغرافيبا الأدبية هى الطريقة التى يمكن بها قراءة الأدب وهى ايضا الطريقة التى برزت فيها هذه الروايات الى الوجود ، ولأن الكتابة أساسا ترتبط بمكان محدّد بتاريخ المكان وماضيه وروحه وتهتم بالزمان حيث المكان والزمان وجهان لعملة واحدة فالمكان يحوى الزمان عندما يُذكر حدث معيّن فى تاريخ محدد . ولهذا السبب فإن العلاقة بين الكاتب والمكان هى علاقة ذات أهمية كبيرة وخاصة لأن المكان ينطوى على الزمان والتاريخ والمجتمع والعلاقات الإنسانية .
لقد وصف رولاب بارت (الناقد الفرنسى الكبير) المدينة بأنها "خطاب وهذا الخطاب هو فى الحقيقة لغة فالمدينة تخاطب ساكنيها ونحن نخاطب مدينتنا حيث نكون بمجرد أن نعيش فيها ونتجول وننظر".
فى الجزء الأول من " أطلس القاهرة" يجد القارىء نفسه فى رحابة المدينة وكأنه فى زيارة الى القاهرة –عبر النص الأدبى- على مدار قرن كامل فالاختبيار الأول رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ حيث الزقاق يبدو فى الظاهر خالداً وتقليديا بشكله المعمارى ونظامه الاجتماعى وأعراف المدينة التى تتسم بالفوضى وحس الجماعة الذى يفتتح النص يتهدده عالم خارجى أبعد من حدود الزقاق التقليدية . وفى رواية رضوى عاشور "قطعة من أوربا" نجد القاهرة بطرازها المعمارى الكولونيالى وأحيانا القاهرة الجديدة الحديثة وشوارعها المحفوفة بالأشجار وقصورها المترفة لنجد فى هذا الجزء نفسه أننا ننزل الى "قاع المدينة "  ليوسف إدريس حيث يغدو ترييف الفضاء المدينى وغياب التخطيط السمة المميزة للحاضر فنشهد انزياح المركز من المدينة القديمة بمرتكزاتها الروحية مثل الحسين – الأزهر- السيدة زينب- مقارنة بالأحياء الهجين الجديدة مثل الزمالك – المنيل- هوليوبوليس- جاردن سيتى . وننتقل من ناطحات السحاب الخالية من الروح فى المعادى التى تؤوى محدثى النعمة والمقيمين من أغنياء البترودولار الجدد الى العشوائيات ومدن الصفيح التى يدفع نموها الموسرين الى تجمعات مغلقة أو "يوتوبيات " حيث يسعون إلى حماية أنفسهم من الآخرين الذين "يحسبون أنهما أحياء" وحيث تصبع اللغة الدالة عليهم هى السرعة وأصوات وحروف تتصاعد من حناجر شديدة البروز. وفى نصوص "أن تكون عباس العبد للكاتب أحمد العايدى / فاصل للدهشة للكاتب محمد الفخرانى / و وقوف متكرر للكاتب صلاح العزب و ما لا يعرفه أمين للكاتب مصطفى ذكرى و كيرياليسون للكاتب هانى عبد المريد و "انهاردة حدلع نفسى" للكاتبة منى برنس و "ايثاكا " للكاتب رؤوف مسعد خير مثال على القاهرة العشوائية .
إن اختيار النصوص الدالة التى تسعها دفتى الكتاب وبأقلام كُتّاب يعيدون اختراع تلك المدينة المألوفة لسكانها تارخياً وجغرافيا ، وهو ما يحسم الاختيارات العبقرية للنصوص الأدبية بحقبها المختلفة ليست قاهرة محفوظ القديمة فحسب ولا قاهرة اسماعيل ولى الدين فى حمام الملاطيلى ولا قاهرة إحسان عبد القدوس فى "أنا حرة" ولا صورة القاهرة المتشظية التى يقدمها الكُتّاب حيث معالم المدينة المألوفة فإن معالم المدينة المعالم المادية الفعلية ذاتها تكسب أو تخسر دلالاتها تبعاً للزمن الذى جرت فيه كتابة المكان والفضاء الروائى .
لقد شهدت مدينة القاهرة خلال القرن العشرين وخصوصا منذ ستينياته نمطا متسارعا من التوسع المادى أبعد من أحيائها الإسلامية التاريخية وأبعد من أحيائها الكولونيالية الحديثة وعليه اجتمعت عوامل متعددة كى تُنتج القاهرة " المتشظية" هذه ؛ فالقطاع الاشتراكى العام والمخطط مركزيا الذى حكم اقتصاد الدولة  جرى التخلى عنه لصالح اقتصاد الانفتاح (1971-1981) الذى شجّع القطاع الخاص والاستثمار العربى والعالمى وقد أدّى ذلك مع الهجرة من الريف الى المدينة الى ظهور المساكن العشوائية فى ثمانينيات القرن العشرين فضلا عن ترييف المناطق المدينية وتدهور شروط المعيشة والبنية التحتية فى مدينة القاهرة العتيقة وتزايد الفوارق الطبقية التى تسع التعايش المزعج بين ناطحات السحاب المراكز التجارية بتكلفة ملايين الدولارات بجانب مدن الصفيح والعشوائيات( وكالة البلح نموذجا) وكذا (وكالة عطية ) للكاتب خيرى شلبى .
لقد بذلت الرائدة سامية محرز فى تقديم أطلس القاهرة الأدبى لطوبوغرافيا أدبية متضافرة لتاريخ مدينة القاهرة الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والمدينى من خلال نماذج لحوالى مائة نص أدبى لكُتّاب مصريين وعرب يمثلون أجيالا عِدّة من الأدباء و الأديبات والمسلمين والأقباط واليهود من مواطنى هذه المدينة  المٌعولمة الذين كتبوا عنها –عشقاً حتى وإن كان انتقادياً- وهم ليسوا رحّالة أو من المقيمين فيها الذين يقومون باعادة بناء جغرافيتها الأدبية بما يتوازى مع تجربتهم فى مواقعها وأماكنها المختلفة التى تظهر القاهرة متعددة الثقافات فضلا عن استخدام اللغة الكلاسيكية البلاغية فى النصوص القديمة حسب الحقبة الزمنية المكتوبة فيها ، فضلا عن الاستخدامات المفرطة للعامية ورطانة الشارع اليومى بجميع أشكالها فى نصوص الكُتّاب منذ تسعينات القرن المنصرم . بهذا سيظل " أطلس القاهرة الأدبى- مائة عام فى شوراع القاهرة" للأستاذة الدكتورة سامية محرز مرجعاً لكل باحث وقارىء وكاتب يبحثون فى جذور التشظى الاجتماعى المصرى وكذا فيما اعتور الشخصية المصرية نفسها من تردٍ متناسب مع التردى والتدهور المدينى نفسه التى لاقتها القاهرة العتيقة بصبرٍ وقَبول .