رقصــــة ســـــــــرية

أغلب الظن أن مايا وصافيا وريم ورندا وليلي سوف يأتين بعد الثامنة‏,‏ أما نادية فسوف تاتي مبكرا‏,‏ هكذا اكدت علي‏.‏ اعتادت أن تأتي وتنادي فأنزل مسرعة لأفتح الباب الحديدي للعمارة‏,‏ ولابد أن تكون قد أعدت شيئا من الحلو كعادتها‏...‏طبق أرز باللبن أو بليلة أو مهلبية‏.‏ هكذا عودتني مع مرارة الأيام والتي لم ندعها ترافقنا مثل صدأ الأواني القديمة‏.‏ كنت أنزل من شقتي بالطابق الرابع وأفتح الباب الحديدي لنادية ثم أغلقه جيدا‏.‏ هكذا عودتنا تمارين الحرص والحذر منذ جئنا المدينة‏.‏ ونادية تصعد السلالم وأنا أمامها لأفتح باب شقتي في حيطة وحذر خشية أن تفر قطتي الصغيرة‏.‏ أصابها بعض الاكتئاب‏.‏ منذ جاءت المدينة لم تر قططا مثلها‏.‏ لم تكن نادية تنتظر حتي نصل الشقة فتبدأ في سرد آخر أخبار صديقاتنا صافيا مايا وريم وليلي‏.‏ وآخر أخبار المدينة‏.‏

ففي فسحتها الصباحية لابد أن تكون قد رأت امرأة جديدة وافدة برفقتها طفل أو رجل وفي جعبتها بضع حكايات عن الحب والزواج والسفر‏,‏ وأثاث جديد أو قديم أوقفته سيارة أمام احدي العمارات وشقة جديدة قد سكنت‏,‏ وأن سوبر ماركت جديدا قد فتح‏,‏ أو كوافيرا قرأت إعلانه علي ناصية طريق الأشجار كما أسميناه معا وحيث لا شجرة واحدة هناك‏.‏ لكننا نمنح أرواحنا فرصة كافية للحلم بأشجار كثيرة‏.‏ تأتيني نادية الفلسطينية كعادتها كلما رأت شيش شرفتي مفتوحا لآخره‏.‏ هذه العلامة أنني بالبيت وليس لدي أي عمل ولدي من الوقت الكافي لاستقبالها‏.‏ اقسمت لي أكثر من مرة أنني أهون عليها غربتها‏,‏ وانها تري في وجهي وجه شقيقتها المنفية في كندا وتلك المحبوسة داخل الارض المحتلة‏.‏ تقول إن أمها تردد دائما انها أنجبتهم لتوزعهم علي المنافي‏.‏ كنا نتبادل أطراف الحديث في الكثير حتي في الطبخ‏.‏ نتحدث في السياسة والفن والسينما والثقافة والحب‏.‏ حدثتني عن قصة حبها لمحمد زوجها وكيف تزوجته‏,‏ كما جاءتني بألبوم صورها لها ولأهلها هناك في الخليل‏.‏

راقتني طريقتها في تنسيق بيتها بالزهور ومفارش التل والكريشيه البيضاء والشال الفلسطيني وأقفاص العصافير التي ترغب لو تفتح لها الأبواب مرة واحدة‏.‏ راقت لي منمنمات نادية داخل شقتها وروحها‏.‏ أكثر من مرة اشكت لنا من جارتها‏.‏ قالت لها المرأة في جرأة وقحة انها جاءت لتخطف لها زوجا مصريا بينما عوانس وأرامل ومطلقات كثيرات يملأن المدينة‏.‏ يومها ابتسم زوجها الدكتور محمد في حياء وأخبرها بضرورة ألا تعبأ بكلام جارتها المخبولة‏.‏ كنت أستشعر في نظرات محمد وصوته شبه اعتذار دائم انه لم يمنحها من عينيه وطنا بديلا‏,‏ فهو دائم الترحال لطبيعة عمله كما لم يمنحها طفلا يملأ حياتها ويذيب غربتها‏.‏

يومها هدأت من روع نادية وأخبرتها أن هذا يحدث في كل بلاد الدنيا حتي في أوروبا‏,‏ فقد حكت صديقة عربية متزوجة من بريطاني شيئا مثل ذلك‏.‏ ضحكنا ودخلت ونادية في فرح بديوان شعر جديد لمحمود درويش‏.‏ كانت تقرأ وهي تحكي لي عن مدن رام الله والخليل وبيت لحم وتعدني بأن أزور معها بيت أهلها إذا ما تحررت فلسطين‏.‏ كنت في أحيان كثيرة أباغتها برغبتي في الخروج للهواء والسير في شوارع المدينة الجديدة التي نسكنها معا مثل وطن جديد بجغرافية جديدة وتاريخ جديد‏.‏

هذه الليلة لابد أن تأتي وأن نتلاقي جميعا نشرب شايا وقهوة ونأكل بليلة ساخنة وحمص الشام وتبولة وكشري وكفتة وسوف يمتد بنا الليل‏.‏ سوف تضحك نادية أن المأكولات الساخنة هذه لدواعي البرد وليست من منطلق قومي‏.‏ تأخرت صافيا ورندا وليلي علي الرغم من أنهن يسكن المربع الخلفي‏.‏ سوف يذوب جليد العام كله بين ضحكاتنا علي نكت العالم العربي من كل أطرافه هذه الليلة‏,‏ سوف تصر كل واحدة علي أن تركب حصان خيالها وتحلم‏.‏ صافيا الجزائرية تحلم دائما بالجنسية الفرنسية مثل بقية إخواتها‏.‏ أخذت العمل في المركز الثقافي الفرنسي بداية لحلم كبير ظل يناورها منذ أحبت شارل ولم يتزوجها‏.‏ ورندا التونسية تحلم بالزواج من مصري لتحقق معه أحلامها في المسلسلات التليفزيونية‏,‏ وليلي تحلم بأن تنجب من ياسر بعد زواج ابنتها الفلسطينية من يمني وسافرت معه‏.‏

ذات مرة شردت نادية قليلا وقالت اننا متشابهتان علي نحو ما‏,‏ فكلانا فارتان من الماضي للبحث عن وطن‏.‏ هي عن وطن بديل غير ذلك الذي أحتل وأنا عن وطن جديد غير ذلك الذي لفظني حين تزوجت الرجل الذي أحبه وضاع مني في الأحلام الكثيرة المحبطة‏..‏ كنت أدرك أن نادية محقة فيما قالته فأنا وهي نبحث عن وطن يتجاوز التاريخ والجغرافية ويطرح بشرا يحلمون مثلنا بالحب والحرية‏.‏ يومها رأيت نادية تجري حافية علي أرض الشارع الممتد‏,‏ أغرتها نعومة الأسفلت ونظافته ولم تكن ساقاها طويلتين بالقدر الكافي‏,‏ وكان الأسفلت ناعما بدرجة مبالغ فيها‏,‏ فقد بذلت الشركة الصينية قصاري جهدها لعمل مدينة كوكبية‏.‏ عمارات سكنية علي نسق شديد الجمال والروعة‏,‏ ومساحات مهيأة للحدائق وفراغات واسعة للأطفال واللعب‏,‏ وأماكن مخصصة للسيارات وسوق مركزي يتوسط المدينة‏.‏ الغريب أنني رأيت الكثير من العمال السودانيين يعملون في المدينة‏.‏ ذات مرة ضحكت نادية وهي تري مهندسي الشركة الصينية يتحركون في المدينة تحت القبعات الخوص الكبيرة حاملين الشاي الأخضر يتابعون العمال السودانيين وإنجازاتهم قبل التسليم‏.‏ قالت لي أن المدينة كخارطة الكون‏,‏ تتسع لبشر الدنيا‏.‏ كنت وهي نتبادل الكلام والصمت لننفض عن رؤوسنا وقلوبنا هموما كبيرة‏.‏ بعدها تؤكد نادية انه سوف يأتي يوم لن نجد له حكايات‏.‏ وكنت أجزم لها اننا دائما سوف يكون بيننا كلام في مدينة الصمت هذه‏.‏

لم اسأل نادية عن أسباب عدم إنجابها‏,‏ وهي كذلك لم تسألني متي وكيف ولماذا وصلت لتلك الصيغة الرائعة بأن كل أطفال الدنيا أطفالي‏,‏ وأنني أكتب قصصا للأطفال تعويضا عن طفولة لم تتحقق بشكل كاف‏,‏ وأن الطفلة التي بداخلي لم تأخذ حظها الوافر من اللعب والتقافز بين الأيام والأحلام والأوهام‏.‏ لن أنسي يوم كانت نزلة البرد التي أصابتني شديدة علي نحو يصر الدكتور محمد علي نادية ألا تتركني إلا حين أتماثل للشفاء‏.‏ الحق يقال انها لم تتركني‏.‏ كانت تطبخ لي وجبات شامية بالزعتر والقرفة والمكسرات وكنت أدهش لخبراتها في هذا الجانب‏.‏ رغم مرضي كنت أكابر لتفكيك الإحساس المتفاقم بالإعياء وأنهض لأعاون نادية في تشطيب المطبخ‏.‏ لم تكن صافيا وريم ومايا وليلي قد سكن المدينة بعد‏.‏ وكنا نفعل هذا ونحن نتسامر‏.‏ نتحدث عن حلمنا بمدينة بإتساع الوطن‏,‏ مدينة تحتفي بأحلامنا نحن النساء المتعبات اللائي أرهقتهن الوحدة والاحباطات المتلاحقة في زمن غريب ومتاعب كثيرة‏..‏ كنت أوصي نادية بأن تضع الدكتور محمد في عينيها وتغلقهما وأن هذا سوف يمكنها من رؤية أفضل‏.‏ كانت تضحك في مكر وهي تقول إنني أقول هذا لأنه مصري وكنت أؤكد لها أنني أقول هذا لأنه رجل جميل ويحبها بصدق‏,‏ وأن الرجال شديدي الجمال والروعة صاروا حقا في ندرة الذهب والمعادن النفيسة‏.‏ الغريب أنني كنت كلما زرتهما أستشف قدرا من التعاسة في نظراته‏,‏ ربما لإحساسها المتفاقم بالاغتراب وهي في بلده‏..‏

علقت الزينات والبالونات وهيأت الشموع الصفراء والحمراء كما هيأت الاطباق الفاخرة ونصيبي من طعام الليلة‏.‏ أكدت كل واحدة انها ستأتي بنوع من الطعام مع شريط كاسيت لأم كلثوم أو فيروز أو ناظم الغزالي أو مارسيل خليفة أو الشيخ إمام‏.‏ مازلت أؤكد لنفسي انه من المنتظر أن تأتي نادية أولا‏.‏ كانت نادية تأتي لي كل يوم بخبر جميل من أخبار المدينة والفرحة تتقافز في عينيها‏.‏ فتارة تقول إن هناك سوبر ماركت فتح عند مساكن عمال الشركة الصينية وتارة تؤكد لي انها رأت بعينيها بائعة خبز تدخل المدينة وتارة تخبرني بأنها قرأت إعلانا عن فكهاني سوف يفتح قريبا‏.‏ كانت ترسي عناصر الصبر علي المدينة حتي لاتفر مايا وصافيا ورندا للسكن في حي آخر حين رأت عناصر الضجر من صمت المدينة‏.‏ ذات مرة طالبتني صافيا وهي تضحك حتي أدمعت عيناها بأن أجعل قططي تتحرك في المدينة ليتناسلوا وينتشروا ويعمروا شوارع المدينة‏.‏ يومها ضحكت نادية ورندا ورحنا في حديث طويل عن الاتحاد الفيدرالي الذي أقمناه منذ سكنا المدينة والذي سوف تدعمه دلال اللبنانية وهدي القطرية وفاطمة الكويتية اللائي لابد أن يأتين ليسكن معنا المدينة‏.‏

أتذكر أن الحياة صارت أجمل عندما جاءت صافية ومايا ورندا إلي المدينة‏.‏ كنا نقضي وقتا طيبا نأكل ونشرب شايا وقهوة ونتحدث في الفن والسياسة وعن أشواق النساء للرجال حتي بمشاكلهم‏.‏ ظللت أعمل طوال اليوم علي تنظيف البيت وتجميله بالورود والشموع‏.‏ لقاءات الشتاء والمناسبات تدعم حياتنا بمشاعر إيجابية‏,‏ أقلها تضيف لمباهجنا المعتادة أفراحا صغيرة‏.‏

جاءت نادية سمعتها تنادي باسم أخي كعادتها‏,‏ ونزلت مسرعة بالمفتاح‏..‏ حتما سيكون الباب الحديدي مغلقا‏.‏ عدد من السكان القليلين معي في العمارة يحرصون كل الحرص علي غلقه‏.‏ لم يفتح المفتاح‏.‏ جربت المفتاح أنا تارة وهي أخري ولم يفتح الباب‏.‏ كانت نادية تحمل لي نصيبها من مأكولات الليلة أرز باللبن وبالقرفة والمكسرات وتبولة وجبنة بالزعتر وزيت الزيتون ومقلوبة وبعض الزهور وكتاب عن الحياة الاجتماعية للقطط‏.‏ فكرت انه ربما قام واحد من السكان القليلين في العمارة بتغيير كالون الباب ولم يخبرني‏.‏ تأججت في داخلي رغبة عارمة بضرورة أن نمضي ليلة جميلة دون مرارات‏,‏ فهي آخر ليلة في عام تلقينا فيه كما هائلا من الكوارث والنكبات علي مستوي العالم أجمع‏.‏ نرغب الليلة في قضاء وقت جميل‏,‏ ربما صارت الليلة رمزا للعام الجديد‏.‏ فكرت أيضا انه يجب أن تدخل نادية العمارة ونصعد لشقتي ونجلس معا ونضحك وتساعدني في إنجاز الباقي من المأكولات لحين تأتي الصديقات‏.‏

أعدت المحاولة أكثر من مرة ثم أخذت نادية مني المفتاح وهي تخبرني أن الأبواب الحديدية كثرت في الحياة‏.‏ أعادت نادية المحاولة أكثر من مرة لكن الباب الحديدي لم يفتح أيضا‏...‏ مر وقت مع محاولات تتأرجح بين اليأس والأمل ولم يفتح الباب‏.‏ بعد قليل جاءت صديقاتنا صافيا ومايا وريم وليلي ورندا وغيرهن لم أكن أعدهن في الحسبان‏.‏ كل واحدة جاءت بنصيبها في المأكولات والزهور والضحكات وعناصر البهجة ومفتاح عمارتها لتجرب معنا فتح الباب الحديدي‏.‏

مع محاولات أخري تأرجحت أيضا بين اليأس والأمل أضاءت صافيا شمعة وأضاءت ريم بطاريتها التي لاتفارقها حتي في النهار مثل مصباح ديوجين‏,‏ بعد وقت آخر جاءت كل واحدة بحجر من بقايا بناء العمارات وجلسن أمام باب العمارة ننتظر ساكنا يعود إلي شقته فيفتح لنا‏,‏ وراحت ريم اللبنانية تحكي أنهن أيام الحرب كان الليمون قد حرق علي أشجاره فكن يصنعن البهجة من رماد الأيام‏.‏ وقالت صافيا الجزائرية نكتة ولم أفهمها فنصحتها أن تعيدها بالفرنسية فضحكنا جميعا‏.‏ في تلك الليلة كنت أنا داخل حديد البيت وهن خارجه‏.‏ لكننا حقا أجهزنا علي كل المأكولات وكل الكلام وكل الضحكات‏.‏ تحدثنا في الفن والسياسة والحرب التي ربما كانت أكيدة علي الأبواب‏.‏ تحدثنا عن آخر أخبار المدينة وأن كوافيرا فتح مؤخرا رأته نادية بعينيها‏,‏ وحكينا شيئا من آخر أخبار دلال اللبنانية وفاطمة الكويتية وهدي القطرية‏.‏

في منتصف الليل أطفأنا الشموع لنستقبل عاما جديدا‏.‏ وكنا قد أزحنا قدرا هائلا من مرارة الحلق والروح والقلب وسارت كل واحدة الي عمارتها وظللت واقفة خلف الباب‏,‏ أشفق عليهن من ظلمة الطريق‏.‏