رحلة إبراهيم عيسى

عبد الناصر سلامة المصري اليوم 03-12-2016 

بدعوة كريمة من الأستاذ إبراهيم عيسى، كنت أحد الحضور فى احتفاله بصدور الطبعة الثالثة من رواية (رحلة الدم)، والتى يتناول فيها تاريخ الصراعات فى دولة الخلافة الإسلامية فيما بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومقتل الخليفة الإمام على بن أبى طالب، ومن قبله الخليفة عثمان بن عفان، رضى الله عنهما.

ورغم تحفظى على هذا النوع من البحث فى الماضى المضطرب، الذى يشوب تأريخ معظمه، المنقول منه وعنه، الكثير من التحريف والتجريف والتأليف، إلا أننى أجد أن الباحثين يلجأون إليه دائماً وأبداً، بزعم اقتحام الممنوع وكشف المستور، وما شابه ذلك، لكن ما ليس منطقياً أبداً هو تجاهل ذلك المد الإسلامى الكبير دون إراقة دماء تُذكر خلال نفس سنوات الاضطراب التى يبحث فيها الكثير من المؤرخين والكُتَّاب، أو حتى الروائيين، على مدى الخمسين عاماً فيما بعد الرسول، ففيما يتعلق بمصر تحديداً، تكفى الإشارة إلى أن الفتح الإسلامى جاء سِلماً، خلال حقبة سيدنا عمر، ثم انتشر واسعاً خلال حقبة الإمام على، رغم أن الحقبتين محفوفتان فى كتب التاريخ والاستشراق بالمخاطر الجمة.

لا أجد أبدا الكثير من الباحثين يتوقفون أمام انتشار الإسلام فى آسيا الصغرى والكبرى وأوساطها وأطرافها، بدءاً من باكستان وأفغانستان حتى الصين، ودول الاتحاد السوفيتى السابق، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا، والهند، إلى شمال أفريقيا فى الجزائر وموريتانيا والمغرب، التى انطلق منها إلى أوروبا، وإلى الداخل الأفريقى فى تشاد ومالاوى ونيجيريا والسودان وكينيا وجيبوتى، وكل الدول الأفريقية تقريباً، بفعل الفتوحات السلمية والقوافل التجارية والمعاملة والقدوة الحسنة فى معظم الأحوال.

لا أجد الكثير من المؤرخين والباحثين يتوقفون أمام الإسلام كأكثر الديانات انتشاراً الآن فى العالم، فى كل القارات بلا استثناء، من أمريكا إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا، على الرغم من الحروب التى يتعرض لها فى كل مكان، وعلى الرغم من الإساءة إليه فى أقطار إسلامية عديدة من خلال متطرفين هم فى الأصل صناعة أعدائه وليسوا صناعة محلية أبداً، وهو ما لم يعد سراً.

المهم أننا إذا توقفنا أمام إنتاج إبراهيم عيسى، المتمثل فى هذا الكتاب التاريخى تحديداً، والذى يُحب هو اعتباره من فصيل الرواية، سوف نجد أننا أمام إنتاج حقق هدف صاحبه تماماً، وهو الوصول فى النهاية إلى أننا جميعاً بَشَر فيما بعد الأنبياء من صحابة وتابعين، وتابعى التابعين، ليس هناك من بينهم ذلك المعصوم، الذى يرقى لمرتبة النبى، صلى الله عليه وسلم، وبالتالى فإن كل ابن آدم خطّاء، وهذا أعتقد أن أحداً لا يختلف عليه، حتى وإن كان بين الصحابة من بشّرهم الرسول بالجنة، وفى مقدمتهم الخلفاء الراشدون الأربعة.

دون مبالغة، أجد أن ذلك الإنتاج الروائى والتاريخى الضخم المتمثل فى رحلة الدم يؤكد تميُّز واختلاف إبراهيم عيسى كثيراً بين أقرانه ممن يبحثون فى الشأن التاريخى الإسلامى، ذلك أن هناك جهداً كبيراً، سواء اتفقنا مع مضمونه أو اختلفنا، هناك مؤلف بارع، ومثقف حقيقى، لا يستطيع أحد أن يتهمه بازدراء أو تحريف أو إهانة مقدسات، أو ما شابه ذلك، لذا لم يتعرض أحد لإبراهيم عيسى بأى نوع من القضايا أو الانتقادات أو ما شابه، كغيره من السطحيين الذين اعتادوا الازدراء الحقيقى، نتيجة الجهل بما يتحدثون فيه، ومن ثم فقد أعيب على عيسى وضع نفسه فى سلة واحدة مع هؤلاء بأى شكل من الأشكال، حتى وإن حاولوا هم ذلك طوال الوقت، ذلك أن الهدف لا يمكن أن يكون مشتركاً.

بالفعل، الفارق كبير جداً، إبراهيم عيسى نجح صحفياً بعد أن قدم تجارب عديدة جيدة، نجح تليفزيونياً أيضاً نتيجة ثقافاته الغزيرة، وجرأته الواضحة، بين هذه وتلك نجح روائياً وباحثاً، وهى أمور فى مجملها يفتقدها أىٌّ من مدعى المرحلة، الذين كل مؤهلاتهم هى الازدراء والسب والقذف، أو حتى الأحكام الصادرة بحقهم بالإدانة أو قضاء عقوبة بالسجن أو الحصول على عفو، أو ما شابه ذلك، وهو الأمر الذى كان يجب أن يفطن له عيسى مبكراً، وإلا فمن حق القارئ أو المشاهد أن يفهم أو يفسّر أو يصنف ما يجرى بطريقته الخاصة.

فى خِضم المناقشات حول الرواية، تذكرت عبقريات الراحل الكبير عباس محمود العقاد، وكيف أن الرجل العظيم تعامل مع نصف الكوب الإيجابى فى ذلك التاريخ، والذى كنت ومازلت أود من إبراهيم عيسى أن يتعامل معه مستقبلاً، ذلك أن التطرف والتشدد، بل الإرهاب، موجود فى كل الأديان وفى كل الأوطان، إلا أننا لم نحسب أبداً أن قتل مليون مسلم فى العراق بأيدى الأمريكيين إرهاباً، أو له علاقة بالصراع الدينى، لأنهم أرادوا لنا ذلك، كما لم نحسبه كذلك حين قتلوا مليوناً آخرين فى أفغانستان، كما لم نحسبه إرهاباً حين اقتتل الغرب، كل الغرب، فقتلوا من بعضهم البعض ما يزيد على ٥٠ مليون نسمة فى الحربين العالميتين، إلى غير ذلك من تاريخ طويل من الإجرام والإرهاب مستمر حتى الآن.

الأكثر من ذلك أنهم جعلونا لا نتعامل مع القتل اليهودى الإسرائيلى اليومى للفلسطينيين على أنه إرهاب، أيضاً لأنهم أرادوا لنا ذلك، فقط حاصرونا فى ركن صغير، وكالوا لنا الاتهامات، فأصبحنا فى موقف المدافعين طوال الوقت، بدأنا نجلد الذات، ثم نندب حظنا العاثر، ثم نعيب أنفسنا والسلف الصالح فينا، دون منحنا الفرصة للحظة تفكير نكتشف خلالها أننا نعيش فى خديعة كبرى، ذلك أننا الطرف المسالم طوال الوقت، وأننا دين السلام، شاء البعض أم أبى، وأننا المعتدى علينا عبر التاريخ، منذ أن كان الاحتلال الأجنبى لأوطاننا يسمى استعماراً، أما الآن فقد تطور فى صور أخرى، ومن ثم أسماء أخرى أيضاً، وهذه هى رحلة الدم الحقيقية لمن يريد الإنصاف.