ربيــــــع بلا ورود

صحيح أن الأهالي لايعتمدون على العسل كوجبة رئيسية في غذائهم بسبب أوضاعهم المالية المتفاوتة , ولكن هذا لايعني أنهم لا يستخدمونه البتة , سواء كان ذلك كنوع من العلاج , أو في شهر رمضان , أو عندما يحل مبلغ موسمي جيد دفعة واحدة على البعض فيستغل الفرصة لشراء شيء من العسل قبل نفاذ المبلغ في المتطلبات الرئيسية , وحينها يقول لأولاده وهو يشاركهم تناول العسل الذي يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر : لنأكل العسل ولو مرة واحدة في السنة , وكم سنة سأمضيها بينكم حتى نأكل فيها العسل معا 0 رغم ذلك فإن الكلام بدأ يتسع بقوة حول ما يقول به البعض بأن ثمة رائحة كريهة بدأت تظهر فجأة من العسل , وأن طعمه اختلف تماما عن العسل المألوف 0 اعتقد هذا البعض في البدء بأن الأمر يعود إلى الغش الذي يقوم به بعض تجار العسل , بيد أن هذا الاعتقاد تزحزح عندما ذهب هؤلاء أنفسهم إلى بعض مربي النحل الموثوق بهم في القرى المجاورة , فشكا المربون ذات الشكوى للسائلين وهم يرددون العبارة ذاتها وكأنهم اتفقوا عليها مسبقا : أجل بدأنا نلاحظ هذا التغيير المفاجئ على عسلنا حتى وهو في شهده , ياجماعة لم نعد نحتمل الرائحة الكريهة التي بدأت تقتحم علينا بيوتنا خاصة في الليل عندما يهب نسيم فنفيق على الرائحة الخانقة وكأنها تسد أنفاسنا 0 عندذاك انهالت شكاوى الناس إلى مديرية التموين للتحقيق في الأمر 0 ومن الطرف الآخر فقد حضرت أفواج مربي النحل من مختلف القرى والمناطق إلى باب المحافظة طالبين التدخل الفوري من المحافظ لإجراء الكشف على النحل الذي هو مصدر رزقهم الوحيد وإيجاد أدوية شافية له إن كان به مرض 0 استقبلهم المحافظ وقال أنه كذلك منذ أكثر من شهر انحرم من الاستمتاع بتناول العسل في الصباح بسبب هذه الرائحة الكريهة التي تفوح منه , وأنه على الأغلب يتناول ملعقة صغيرة وهو يسد أنفه ويغمض عينيه , وكل يوم ينسى أن يطرح الموضوع على مجلس المحافظة بسبب الأشغال المتراكمة عليه , بيد أنه ظن أن ذلك يعود لبعض الغش في تركيبة العسل , ووعد المربين أنه سوف يتدخل في الأمر 0 قبل أن يخرج هؤلاء بلحظات من المحافظة دخل مدير التموين قائلا للمحافظ بأن مديريته تتلقى يوميا عشرات الشكاوى من المواطنين بسبب الرائحة الكريهة هذه , فقال له المحافظ أمام المربين بأن عليه أن يشكل لجنة صحية حالا لإجراء الكشف على النحل والعسل 0 فعاد المربون إلى بيوتهم مطمئنين لتلحقهم في اليوم التالي لجنة من خيرة خبراء الصحة والتموين بحضور المحافظ ومدير التموين ومدير الصحة لإجراء الكشف المباشر على خلايا النحل وتحليل هذا العسل من عدة خلايا 0 أخذ الخبراء كافة العينات اللازمة وطلبوا من المحافظ مهلة حتى يجروا التحليلات المتأنية عليها 0 دام ذلك شهرا كاملا , لكن لبث الغموض ذاته , إذ أن اللجنة كتبت في تقديرها الأخير بأن النحل هوذاته النحل المحلي المألوف , ولكن العسل بات يحتوي على عناصر غريبة يجهلون مصدرها , وأوصت اللجنة بعدم استخدام هذا العسل لأنه لايحتوي على عناصر العسل الطبيعي , وهو بالتالي فاقد لعناصر التغذية الطبيعية , كما أنه يؤذي الصحة من الناحية الطبية , وربما يسبب العمى , والطرش عندما يُستخدم بكثرة 0 هذه المعلومات ذاعت في الناس كالريح فامتنعوا عن الاقتراب من العسل مما أدى إلى توقيف المربين توقيفا نهائيا عن بيع غرام واحد من العسل خلال شهرين متتاليين , حتى أن البعض رأى بأنه سوف يحرق النحل والخلية معا مادام بات يشكل عبئا ماديا ومعنويا , أما عندما يُسأل أحد أصحاب النحل عن أحوال نحله فلايتردد من قذف الجملة الشعبية الدارجة : / خير مامنه 00 دخانه يعمينا / حيث أن بعض أولاد مربي النحل قد نُقلوا إلى المشافي بسبب الرائحة الكريهة التي تفوح من الخلايا 0 ومرة أخرى اجتمع هؤلاء وعادوا إلى المحافظين يسألونه حلا 0 لم يتردد المحافظ من مواجهتهم بالواقع قائلا بأن كل جهود اللجنة فشلت في إيجاد حل لهذه المشكلة , وعندذاك رفع سماعة الهاتف متصلا مع مدير التموين علّه توصل إلى شيء جديد ليرد به على هؤلاء 0 فقال له مدير التموين بأنه كان على وشك الحضور للمحافظة لأنه أجرى اتصالا للتو مع وزير التموين طارحا له المشكلة , ثم بنبرة منخفضة أردف : لكنه ياسيدي أوبخني قائلا : ألاتقرأ الصحف المحلية , ألم نخصص لمديريتك اشتراكا في هذه الصحف ياحضرة المدير , المسألة ليست مقتصرة على مدينتك لوحدها ، إنها عامة في كل جميع المدن 0 وعندذاك تغيّر لون المحافظ وهو ينظر من خلف نظارته إلى المربين وقد أحس أن التوبيخ ذاته موجه إليه كونه لم يطّلع على الصحف خلال الأسبوع الفائت الذي بدأت فيه بعض الصحف بطرح الموضوع في زوايا الرد على شكاوى المواطنين 0 ثم قال : ياسيدي , بعد هذا التوبيخ أخبرني الوزير بأن جميع خبراء وزارته عجزوا عن إيجاد هذا السبب الغريب الذي طرأ على العسل رغم أن النحل هو النحل المحلي ذاته , وقال بأنه سوف يطرح الأمر على رئيس الوزارة في أقرب جلسة طالبا منه التدخل , أو حتى الاستعانة بخبرة خبراء العسل في دول صديقة لأن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل 0 
أغلق المحافظ السماعة وطلب من المربين العودة إلى بيوتهم لأن السيد رئيس الوزارة سوف يتدخل في الأمر لأن المشكلة هي عامة وغير مقتصرة على مدينتهم 0 
في هذه الأثناء كان قد اختفى رجل مشهور من أبناء المدينة مع زوجته وأولاده السبعة , لمدة شهر , وعاد إلى الظهور فجأة ليخبر الناس بأنه وأولاده كانوا في مهمة للبحث عن سبب الرائحة الكريهة التي غدت تفوح من العسل , وقد عرفوا السبب 0 قال البعض : هذا كلام مجانين 0 وقال آخر : خذ الحكمة من أفواه المجانين 0 وبين هذا وذاك وصل الخبر للمحافظ الذي دعا الرجل لمقابلته , بيد أن الرجل رفض قائلا : أنا لامطلب لي لدى المحافظ , إذا كان له عندي مطلب فليأ تني هو إلى بيتي 0 عندما قيل ذلك للمحافظ ركب سيارة أخرى غير سيارته المعروفة بدون أن يصطحب السائق واتجه مع الدليل إلى بيت المذكور , فلم يجدوه في البيت , قالت زوجته بأنه موجود في السوق 0 اضطر المحافظ أن يجوب سوق المدينة شارعا شارعا بحثا عن الرجل إلى أن وجده في سوق الهال يدفع عربة بيليا صغيرة عليها حوائج رجل ليوصلها إلى منزله 0 أشار الدليل إليه , فوقف المحافظ في منتصف الطريق مناديا إياه 0 أطلق شرطي السير للسيارة الواقفة صفيرا ظانا بأنها سيارة أحد الموظفين , بيد أن المحافظ أشار للشرطي أن يمسك برقبة الرجل المجنون ويحضره إليه تاركا السيارات واقفة خلفه لأن المحافظ ذاته يقف بسيارته في مهمة 0 أوقف الشرطي عربة الرجل في منتصف الطريق وقاد الرجل المجنون إلى حيث سيارة المحافظ , فقال الرجل للمحافظ : أنا الآن في عملي ولقمة عيشي , إذا كانت لك عندي حاجة فأنا موجود في البيت ليلا 0 رفع الشرطي كفه ليصفع الرجل بيد أن المحافظ منعه من ذلك وقد التم كل من في السوق حول السيارة وتوقفت حركة السير حتى أن أحدا من السائقين لايجسر أن يطلق زمورا وهو يعلم أن سيارة المحافظ هي التي واقفة في منتصف الطريق 0 قال له المحافظ : هل تعرف سبب ما أصاب العسل أم أنك تقول كلام مجانين ؟ 0 
قال الرجل : أعرف ذلك حق المعرفة 0 
قال المحافظ : قل الذي تعرفه 0
قال الرجل : قررت أني لاأقول ذلك إلا في برنامج خاص على شاشة التلفزيون برفقة أولادي وزوجتي لأننا جميعا شركاء في المعرفة التي أمضينا فيها شهرا كاملا 0 
عندما نظهر على شاشة التلفزيون سنخبر الناس جميعا بالسر الذ ي عرفناه 0
تركه المحافظ وعاد إلى مبنى المحافظة ليجري اتصالا مباشرا مع رئيس الوزارة يخبره عن ادعاء هذا الرجل ومطلبه الغريب , رغم أنه ذهب إليه بنفسه , هذا الرجل الذي يرفض الإدلاء بمعلوماته تحت كل المغريات إلا إذا استُجيب لمطلبه بالظهور على شاشة التلفاز 0
فطلب رئيس الوزارة معلومات كافية عن هذا الرجل ليبث على ضوئها في الأمر 0 0 بعد يومين وصلته المعلومات التي تفيد بأنه رجل ولد مجنونا , وفي العشرين تزوج من امرأة مجنونة , فأنجب منها ثلاثة أولاد وأربع بنات تتراوح أعمارهم بين الخمسين والعشر سنوات دون أن يتزوج أحد منهم , وكلهم مجانين يعتمدون في التقاط رزقهم من القيام بأعمال سريعة داخل سوق المدينة كأن يلبون طلبات أصحاب الدكاكين بنقل أغراضهم , أو جلب حاجاتهم , أو غسيل الدكاكين والبيوت 0 وقيل بأن هؤلاء رفضوا بشتى الوسائل البوح بالسر إلا إذا تحقق مطلبهم بالظهور على شاشة التلفاز 0 فوجّه إلى مديرية التلفاز بتخصيص برنامج خاص لهؤلاء حتى يقولوا ما لديهم بهذا الشأن 0 وبدأت برامج التلفاز تنقطع ليُعلن عن برنامج هام في الأسبوع القادم , البرنامج الذي سوف يلقي الضوء على السبب الذي طرأ العسل وجعله يتفوّح بهذه الرائحة الكريهة 0 إنهم مجموعة من المواطنين المخلصين الذين جنّدوا أنفسهم حتى عرفوا الحقائق وسوف يجلسون إلى هذا البرنامج الخاص ليقولوا كل شيء 0 لم يكن أحد يعرف شخصية هؤلاء ولا من أي مدينة سيقدمون , لكن الناس جميعا أصبحوا في استنفار بانتظار هذا اليوم المعلوم الذي يعرفون فيه هذه الحقيقة التي عجز عن معرفتها كل خبراء العسل في البلاد 0 ذات مساء فوجئت الحارة كلها التي تُعرف بـ / حارة المجانين / بموكب المحافظ يحط في حارتهم 0 استغربوا لهذا الأمر , خرج الكل إلى الشارع , أجل إنها سيارة المحافظ المعروفة بالعلم المنصوب في مقدمتها , وهو موكب المحافظ المعروف بدراجات شرطة السير التي تتقدمه 0 وكانت ثمة سيارة بيضاء كبيرة كُتب عليها : / تلفزيون / ترافق الموكب في نهايته 0 نزلوا جميعا , تسمّر الناس في أماكنهم بانتظار أن يفعله المحافظ الذي مالبث أن تقدم إليه مدير التموين ومندوب التلفزيون ليتجهوا وسط الحشد دون أن يسلّموا على أحد , بيد أن البعض أجاب على السلام الذي لم يُلق 0 تقدم إليهم الدليل وهو يشير إلى الطريق المؤدي إلى بيت المجانين الذي يسكنون جميعا في غرفة على سطح إحدى الدكاكين 0 زادت دهشة الناس وهم يبحلقون عيونهم , ويمطون شفاههم , و الموكب بالفعل يتجه إلى ذات البيت تلحقه من بعيد قامات بعض سكان الحي 0 دخلوا جميعا بيت المجانين الذين أصروا أن يجلسوا ويشربوا الشاي حتى يجهزوا أنفسهم 0 وبعد نحو نصف ساعة خرج الموكب برفقة هؤلاء جميعا الذين غدوا يوصون الجوار ببيتهم 0 ركبوا السيارة البيضاء الكبيرة التي كُتب عليها / تلفزيون / ومضوا خلف موكب المحافظ تاركين الجوار في دهشة من أمرهم 0 وانطلقوا جميعا برفقة المحافظ ومدير التموين إلى العاصمة 0 وصلوا في الصباح الباكر إلى فندق الخمس نجوم الذي تم حجزه لهم من قبل الحكومة 0 استراحوا قليلا في غرفهم , ثم تناولوا الفطور , وبعد ذلك تم أخذهم إلى سوق المدينة من قبل رجلين جُنِّدا لهذه الغاية حسب التوجيهات , فدخلوا صالونات حلاقة , ثم إلى الحمامات , ثم إلى محلات بيع الثياب الجاهزة وعادوا إلى الفندق في الثانية ظهرا لتناول وجبة الغذاء وأخذ قسط من الراحة حتى يكونوا جاهزين لتصوير البرنامج الخاص بهم في السابعة والنصف مساء 0 خلال هذه الفترة بدأ التلفاز يذكّرمشاهديه بين وهلة وأخرى بأنه سوف يستضيف رجالا لديهم معلومات هامة عن سبب الطارئ الذي طرأ على العسل 0 بعد تناول وجبة الغذاء الدسمة برفقة المحافظ ومدير التموين ومندوبين من وزارة التموين ورئاسة الحكومة , اتجه كل واحد إلى الغرفة المخصصة له , وعندها بدأت الأحاديث الهاتفية فيما بين الأخوة والأبوَين عبر الغرف وبدأت الزيارات فيوشوشون لبعضهم إن كانوا في حلم أم في واقع , أي نعيم هذا الذي وقع عليهم فجأة , بنات كحوريات الجنة من مختلف بلدان العالم ينحنين لهم طالبات أي خدمة , رجال بدرجات علمية متقدمة يقدّمون لهم ما يريدون من طلبات بالضغط على زر صغير 0 فيهتف لهم الأب : تمتعوا بهذا النعيم يا أبنائي قبل أن تخرجوا منه , اعلموا يا أبنائي الأعزاء أننا سنُطرد كالكلاب من هذا النعيم عندما نخبرهم بالسر الذ ي عرفناه , وعندها سوف يخلعون منا حتى هذه الثياب وقد نعود سيرا على الأقدام إلى بيوتنا 00 تمتعوا يا أبنائي بالنعيم , لاتتركوا حاجة في نفوسكم إلا وتحققونها في هذه الساعات القليلة المتبقية لكم في هذا النعيم 0 مضى الوقت سريعا عليهم حتى بلغت الساعة السادسة مساء , وعندها جاءت سيارة التلفاز واصطحبتهم إلى المبنى 0 في الساعة السابعة توقفت الحركة في الشوارع , الجميع توقف أمام التلفاز ينتظر ما يقوله هؤلاء الأشخاص من معلومات ينتظرها الجميع , حتى أولئك الذين ماذاقوا طعم العسل , ولكن من باب الفضول وحتى يشاركوا الناس في أمر أصبح عاما وحديث الساعة 0 دقت الساعة السابعة والنصف فظهر مقدم البرنامج يقدم ضيوفه واحدا واحدا , ثم تحدث عن الطارئ الذي طرأ على أحوال العسل في البلاد كلها , وأن ذلك يلحق ضررا بالغا بالاقتصاد الوطني إن طال أمده 0 وقال وهو يلتفت لضيوفه مرحّبا بهم من جديد : لكن ضيوفي هؤلاء الذين قطعوا مسافات طويلة حتى وصلوا إلينا عزّ عليهم أن يبخلوا بمعلومات عرفوها بجهودهم الشخصية سوف تفيد الخبراء لمعالجة هذا الطارئ 0 عندئذ مال الأب إلى أذن المذيع وهمسه سائلا عن موقع المرحاض لأنه متضايق , فحسم المذيع الأمر وهو يبتسم قائلا للمشاهدين : أعزائي أرجو ألا تذهبوا بعيدا 00 سنعود إليكم بعد هذا الفاصل 0 دخل الرجل المرحاض , مضت دقائق خمس ولم يخرج , فراح المذيع بنفسه يطرق عليه الباب 0 قال الأب من الداخل بأنه لم ينته بعد 0
قال المذيع : يا أخي أسرع 00 البلاد كلها تنتظر خروجك 0 
جاء الصوت من الداخل : ليس ذنبي , كانوا أسخياء في إطعامنا 0 
في هذه الأثناء بدأت الهواتف تنهال على التلفاز سائلة عن سبب انقطاع هذا البرنامج الذي لم يبدأ بعد , وجاءت اتصالات من مسؤولين كبار تطالب ببدء البرنامج الذي تنتظره البلاد كلها 0
دام مكوثه نصف ساعة , وكل موظفي التلفاز قد تجمهروا حول المرحاض دون أن يخرج الرجل حتى أن أحد المعروفين بالنكتة قال بصوت مرتفع : حريق ياجماعة 00 حريق 0 ولكن الرجل لم يخرج قائلا من الداخل : الحريق الذي بداخلي أكثر حرارة علي 0 عندذاك اقتحم رجل ضخم من موظفي التلفاز الباب وجرجره من رقبته بالقوة قائلا له بلهجة حادة : ألا تفهم بأن البلاد كلها تنتظر خروجك ياحمار 0 
عندما سمع الأولاد عبارة حمار لأبيهم , لم يترددوا من التهجم على الرجل وغدت فسحة التلفاز إلى ساحة معركة صغيرة بين الموظفين وبين هؤلاء الضيوف , وتدخل رجال أمن التلفاز حتى أوقفوا المعركة , فظهر المذيع بعد ساعة من الانقطاع ليعتذر من المشاهدين ويعدهم بأن البرنامج تأجل إلى يوم الغد في نفس الموعد 0 بعد لحظات انهالت الهواتف من كافة شرائح الناس على مبنى التلفاز سائلة عن سبب هذا التأجيل , وعلى الفور تلقى المذيع قرارا بفصله من عمله جراء عدم احترامه لمشاعر الناس لأنه استهان بهم عندما قال بأنه سوف يعود بعد الفاصل , ودام ذلك ساعة ليخبرهم تأجيل البرنامج إلى الغد , وهل يعلم هذا المذيع كم خسر البلاد جراء توقف الناس ساعتين عن أعمالهم , وهل يعلم كم بلغ عدد الساعات , بل الأيام , بل السنوات إذا ما ضُرب ذلك بعدد سكان البلاد 0 من الطرف الآخر تم التوجيه بإعادة هؤلاء إلى ذات الفندق وتكريمهم حتى يوم الغد ليظهروا على البرنامج المؤجل 0 
فعادوا إلى غرفهم وإلى ماكانوا فيه من ترف في الطلبات وإحداث ضجيج في الفندق دون أن يناموا لحظة واحدة حتى أمسية اليوم التالي حيث حضر مذيع جديد برفقة المحافظ ومدير التموين ومندوب من رئاسة الوزراء كي يذهبوا إلى مبنى التلفاز لتصوير البرنامج لأن الناس جميعا تركوا أعمالهم لليوم التالي بانتظار ما يقولوه في هذا البرنامج 0 فقال الأب بأنه تراجع عن موقفه وأنه لن يبوح بكلمة واحدة استنكارا على ما جرى بحقه وبحق أولاده من إهانة ليلة البارحة , ولكن من أجل كرامة المحافظ فإنه سيقول ما يعرف له شخصيا عندما يعيدوه مع أبنائه إلى بيتهم 0 
أوصل المحافظ هذا الكلام إلى رئيس الوزارة الذي يتتبع الموضوع لحظة بلحظة , وقال بأن السبل كلها نفذت مع هؤلاء حتى يقولوا ما يعرفوه هنا بدون جدوى 0 
فوجه بأن يكونوا لينين مع هؤلاء وأن يحصلوا منهم على المعلومات المفيدة ولا بأس أن يعودوا بهم إلى مدينتهم ويخبروا المحافظ بذلك هناك 0 
بعد ثلاثة أيام عاد المحافظ خصيصا إلى رئيس الوزارة ليخبره عما علم منهم في البيت 0 
قال رئيس الوزارة : معقول هذا الهراء ياحضرة المحافظ 0
قال المحافظ : انتظرت يومين ياسيدي بعد أن قالوا لي ذلك حتى شكلّت لجنة سريعة وتأكدنا من ذلك بالكشف المباشر وملاحقة النحل 0 
قال : يعني لم يعد النحل يحط على الورد , وبدل ذلك صار يحط على الزبالة والقذارات 00 والله أمر غريب 0 
- نعم سيدي أمر غريب 00 لم يعد فرق بين النحل وبين الذباب , هذا أمر مؤسف , النحل الذي كان منظره يفرحنا وهو يطير كلؤلؤة من زهرة إلى زهرة , أصبحنا نحمله ونضعه على الزهرة , فيتركها ليحط على أقرب قذارة يراها 0 يقول الخبراء ياسيدي أن هذا هو سبب صدور الرائحة الكريهة من العسل 0 
مد ّيده إلى جهاز الخليوي وأجرى اتصالا مع زوجته قائلا وهو يسد أنفه ويكاد يتقيأ : ذاك العسل ارموه بسرعة 0 
قالت زوجته 0: هل أصبت بالزكام 00 صوتك متغير 0
قال وقد أزاح إصبعيه عن أنفه : لازكام ولامن يحزنون 00 لاتتركي ذاك العسل لحظة واحدة في البيت , اقذفيه حالا في خارج البيت 0 ثم أعاد الجهاز إلى جيبه 0 فقال له المحافظ : ماذا توجهوننا سيدي ؟ 
قال : عد إلى محافظتك وسوف ننشر خبرا بأن العسل كله مسموم ولايجوز لأحد الاقتراب منه إلى أن نجد حلا 0 
مضت سنة على ذلك دون أن يعثر أحد على حل رغم الاستعانة بخبرات دول صديقة في مجال العسل , ورأى الناس أن الربيع في هذه السنة أصبح أقل ورودا لأن النحل لم يعد يحط عليه , ولم يعد يستنشق رحيقه , باتت الورود القليلة الطالعة تُظهر ذبولا وكأنها في حداد حزنا على الورد الذي لم يعد يدنو منها إلى أن جاء الربيع القادم ولم يحمل معه وردة واحدة0 عندذاك بدأ الناس يعودون إلى استخدام العسل , وشيئا فشيئا اعتادوا عليه , وماعادت تزعجهم الروائح الكريهة التي اعتادوا عليها كما اعتادوا على مجيء الربيع بدون أن تظهر وردة واحدة , أما عندما يرون النحل يحط على القذارات فإن ذلك لم يعد يثير اشمئزازهم حتى أنهم نسوا أن هذا النحل كان وهو يطير يذكرهم بأنها كائنات أتت من الجنة لهذه المهمة وهي لاتموت كسائر الكائنات , بل تعود إلى الجنة 0 
و الربيع في السنوات الماضية كان يأتي محملا بألوان الورود, والنحل كا ن يستنشق رحيقها ليقدم لهم عسلا مطعما برائحة وكأنها أتت من الجنة 0