رائحة الدخان

ـ ماذا بك ؟
الليلة بالذات أثمن من كنوز كسرى..وأحلى من رحلة غطس فى البحر الأحمر وسط أعشابه المرجانية
ـ حدث لك مكروه ؟
الأصابع الأكثر ليونة تضم أصابعك..وبفم طفلة طيبة تمسح رعونتها..تتلمس خشونتها لترق وتنعم كالبلسم .
وأنت فى الجانب الآخر تشير إليها لتجلس.. تسحب مقعداً صغيراً لتكون بجوارك. ثم مرة أخرى تتركها إلى دخانك.. تحدق فى السقف بلا صوت، بلا كلمات !
ـ يشغلك أمر هام !
تنفث حلقاتك الزرقاء.. وتهمس :
ـ فى الظهيرة اجتمع عدد كبير من قوات الأمن والمتاريس والعربات المصفحة وأجهزة اللاسلكي.. منظرهم وطريقة اصطفافهم حول المبنى وبطول الشارع المغلق كان مخيفا ً، ومبشراً باصطدام مسلح بين قوتين كبيرتين .
- لم تعرف لماذا ؟
- ...............
صدرك يتنفس كقطار قديم يستعد لقطع رحلة انتقالية من الشمال إلى الجنوب.
لا تنسى أن خوفك كان كلمة السر لنجاحك فى دراسة إدارة الأعمال بالجامعة الامريكية ، لانضباطك فى الوظيفة المرموقة بأحد أجهزة الدولة ، ولاختيارك الدقيق جدا فى الارتباط بامرأة تنفرد باحتكارها وتذعن هى بالقبول .
من مراحل تعليمك الأساسية لديك " فوبيا " الفشل ، اللعب مع أقرانك، وعدم طاعة مدرسيك. وفى شبابك "فوبيا" دوريات الشرطة..خفافيش الليل.. الأرقام الفلكية للمعتقلين فى الزنازين..حالات انتحار الشباب المنتشرة فى المجتمع ، ولا تغفل عن قول طبيبك النفسي: أنها أوهام ، فلا تشغل بالك .
....................................................................
- فى الأيام الأولى من حياتنا كنا بطلين رائعين لقصة حب فوق الوصف..كتبها التاريخ بأدق التفاصيل فى أنصع صفحاته..لم ينس أروع السهرات..ولاأشهى اللقطات التى جمعت بيينا على مسرح الليل،يسدل القمر علينا ستاره،تباركنا السماء بالسكينة،وتفرش من حولنا النجومَ كالأطفال بملابس حفلات أعياد الميلاد وفراشة مضيئة بحجم فمك فى مقدمة عصيّهم الصغيرة.
ـ أنسيت هذه الأيام ؟
ـ أتحب أن نحتفل به هنا ، أم فى مكان آخر ؟
- ....................
ـ أتعلم أنها كانت فكرة ممتازة أن نسكن فى مكان هادئ كهذا . تكلمنا فى موضوع الهدوء كثيرا ، وكان اعتراضك بسبب غير مقنع بالمرة. عانينا من ضجيج السوق فى الشارع،من منظر البالكونات المزدحمة بالملابس الداخلية، ومن مباريات الاولاد لأوقات متأخرة من الليل. كانت أياماً بعضها لا يطاق ، والبعض كألواح "الشيكولا " عندما تنتهي نفقد لذاذتها .

كانت الحجرة يتفلتها الاكسجين، الأبيض فى السقف يموت، كوردة تتعلق بحياة ذابلة. فى القرنية المتجمدة بالصور الشتى تتكاثف الضغوط على ذات الصورة القديمة ، تتحرك العضلات الواهنة لتقبض على البصيص الواضح ، على اختصارات من النور تلوح فى المكان المخنوق بالعتمة والضباب .

= دارت بنا العربة حول المدينة.. الأشجار على الكورنيش تختفي لتظهر العمارات والمنازل ، تختفى بالتالي لتظهر المساحات الكبيرة الفارغة . ثم لم نعد نرى شيئا نحدده !
ـ أظن أنك تحتاج لتنام !
ـ أحضّر الحمام ؟
.............................................................
أرضك العطشى.. ترويها بذورك .
وطنك هي.. بحجم الوطن الأكبر .
غزوتها ألف مرة.. وتصير هي المحتلة : أجمل ألف مرة.
هى فم الشعر الذى لا تنسى نبراته :
{ " واصل تدخينك "..
تغريني وأنت " فى لحظة تدخينك "..
" هى نقطة ضعفي كامرأة..
فاستثمر ضعفي وجنوني..ما أشهى تبغك.. "
" فحين تدخن أجثو أمامك كقطتك الطيبة..وكلـّي أمان..
ألاحق مزهوة معجبة خيوط الدخان "
توزعها فى زوايا المكان : دوائر .. دوائر " }*
تتقدم منى ونصف مزاجك حلوا ..
تحملني بين ذراعيك
تهمس فى أذنيّ : هذا أول عام
تعلمني الرقص لأول مرة ،
والشوق لأول مرة ،
والحب على ريش نعام..
تناغيني، تلاغيني، تشاكسني،
تمارسني باباً تفتحه على قلبك.. فتدخلك الأحلام
تجري كالأطفال على صدري..
تلهث ، تطفئ عطشك شفتي ..
تشبع من ترياقي ..
لكنك بغتة :
يتبدل نصف مزاجك ..
تصير .. كما أنت .. فى كل مرة
تدير بظهرك ناحيتي ، وتنام !
...................................

الهاتف أصبح إنساناً يكرهها ، كطبول الحرب يرن..يرن. تصرخ فيه :
" طفلي نائم.. طفلي نائم .. اسكت "
( المرأة هى المستحيل الذى لا يمكن للرجل تحقيقه )
لكنك تحرص على اقتناء هذه التحفة النادرة ، وعدم المساس بها ، أو خدشها.
تـُنشيك بابتسامتها.. تجرب فيها العدل والظلم ، تمارس الحلم والغضب ، تـُفسد وتـُصلح ، تميت وتحيي ، لكنك أبداً ، أبداً .. لن تأت بالشمس من المغرب . جلساتك كلها عن النجاح الكامل فى العمل ، ارتقاء أعلى الدرجات ، تولـّي أرفع المناصب..ويخرج من حساباتك اللانهائية هذه : " النورس " المسكين !
....................................................................
ـ صباحاً اتصلت " منال" تطمئن على صحتك..ظلت تسألتني حتى ظننت أنها تعمل فى منظمة الصحة العالمية !
= أذكر ذاك اليوم كأنه أمس..العساكر وهى تدفعنا بلا رحمة،الضباط وهى تسبنا لنلتزم بإطاعة الأوامر.. الكلابشات وهى تعصر معاصمنا ، وألم خاص جداً يطل من أعيننا كاد يضيئ الحجرة المعتمة التى دخلناها!

قابلتَ وجوه العالم الخفي..زكمتْ أنفك الروائح الكريهة والمناظر الغريبة. خاصة ًالمرحاض المفتوح بابه بداخل الزنزانة رسب " فوبياك " نحو كل شئ تقابله من تلك اللحظة.
اعتصرتْ وسط اثنتين من الجثث المكومة.. قدماك أعلاك ، ورأسك تحتك. ثم لحظة وانتعشتَ باتزان أعصاب وأنت مثبـّت على قدم أحدهم وهو واضعاً يده اليسرى على كتفك..عيناه فى عينيك، فى جيوبك، فى فمك ، فى حذائك، ومصوبتان إلى جثتين فى إشارة يفهما منها الابتعاد. اقتنعتَ بعد نضاله معك أن الحياة فى هذه البلد ـ وقد مرت 4 أيام كما أكد لك بسؤال الحارس ـ كهذه التى تخرج من فوهة المرحاض ! وأنه يلزم للصبر عليها تقديم بعض التضحيات، من النوع المكلف للصحة والعمر والمركز الاجتماعي المهدر واسم العائلة وجلاله ، ومثل تلك الأشياء التى تـُفقد عند خسارتها بالتضحية .
....................................................................
مررتَ على منال منتصف النهار .. ابنة الـ30 ربيعاً ، زوجة الـ40 خريفاً.. وأم لولد و بنت . كنتَ فى شبابها المبكر تحفزها الاستعجال فى الارتباط بشخص يهمها أن يكون زوج المستقبل، رجل العمر، وقائد كتيبة الاولاد. تكلمت عن قيمة الطاعة والمحبة والود والتفاني ، ومثاليات من هذا القبيل. أكلت طعامك الخفيف ، أخذت مشروبك المحسوب عناصر تكوينه ، قمت للأولاد بأدوار الحمار والقط والكلب..أضحكتهم أكثر مما ضحكت أنت.. وظللت تنظر لابنتك الربيعية طيلة الوقت ، أكثر من أى وقت مضى.
بعد تخرجها من هندسة عين شمس بـ6 أشهر،قررت الارتباط بزميل لها تعرفت عليه فى إحدى ندوات الجامعة السنوية،التقت الافكار والرؤى والطموحات..تجمعت على صفيح ساخن جملة المشاعر،وانتصف بينهما شريط وثيق زادت قوته مع 9 أشهر أخرى أنجبت فى نهايتها "عمر".
وأنت لم تأمل فى غير مثل هذه الحياة:أب على مستوى راق يـُحسد عليه..كذلك جدّ فى المستوى المطلوب:حمارذكر يحمل أحفاده ويوقعهم على الأرض،قط "Tom" يموء ويقفز على الكراسي والمرتفعات رغم المحاذير بعدم الحركة الشاقة، وكلب"Spike" يربض تحت سقيفة بيت متواضع . وهلم جرا .
....................................................................
فى مساء الاثنين الموافق صباح ثلاثئه أول أيام رمضان.. استعدت شهوة الحرية ولذتها بخروجك.. ملابسك وهيئتك ستدفع "عجوز الكشك" للوي بوزه قرفاً، قبلما ترفع قدمك اليمنى عن الاسفلت ، وانت تنوى طلبك التليفون فى إجراء مكالمة عاجلة لأهلك .
ـ تسمح من فضلك ؟
ـ الحرارة مرفوعة !
إجابة فورية خرجت من سجن صغير معتم .
تشبثت بخلو الطريق من السيارات وقفزت الى الجهة المقابلة ، وفيما كانت عينك ترى الكشك وصاحبه ورجل يمسك بسماعة الهاتف، اختطف قلبك ، ما تبقى له من وصلات دموية بداخلك ، صوت سيارة إسعاف مارقة تسابق الدقائق لأقرب مستشفى .. تنهض على الأرجح بآخر أنفاس جثة هامدة لإعادتها للحياه .
وفى النهاية كبستَ على زر الحيرة والمتاهة برأسك فخرج ضوء دقيق يرسم قليلا من معالم اتجاهك فى السرداب. تذكرت زميلاً قديماً توجهت لعنوانه المحفوظ بذاكرتك المضغوطة..طرقت بابه.. فتحتْ لك شابة، رجحت أنها ابنته. قدرت بحدسك سنها من صوتها الرقيق وعينيها الوحيدتين المرئيتين من الباب الموارب بسلسلة فى أعلاه. استفسرتْ عن طلباتك وما أن انتهيت حتى أغلقته فى وجهك . ثم بعد دقيقة نـُزعت السلسلة وخرجت لك صورة صنيعك الطيب فى الرجل . احتضنك وقبلك رغم أى شئ ، رغم الدهشة وقطار طويل من الاسئلة يطقطق على قضبان واهية فى الأذهان، وسيل من النظرات تتكسر من مجاري العيون .
ـ زوجتي .. من 3 سنوات ، لا نفكر فى الانجاب .
= لم تغير عنوانك كالأخرين !
ـ أحتفظ لا زلت بضميري .

بعد يومين استراحة فى بيته ، حملك لبيتك فى سيارته المتواضعة، لم تسأله بالتالي عن سيارته الحديثة التى اشتراها عند خروجه على المعاش أين هي الآن.. لم تعط أذنيك فرصة الامساك بتنهداته أكثر من اللازم، وهو يفكر فى ردّ لتقصيك حقيقة قصة الحب التى نشأت بينه وبين ابنة رئيس مجلس الادارة . فقط ناولت نفسك قرصا مهدئاً ، وغيرت دفة الموضوع بالحديث عن لياليك السوداء فى الحبس.. وقلت أن المخزي فى الأمر أنهم قدموا اعتذاراً سخيفاً عما حدث ، وصبّوا لعناتهم على تشابه الأسماء !
= ممكن أن أخذ تعويضاً عن هذه الاهانة ؟
ـ كلف محام جيد ، وربما تنجح !
= وإذا لم تنجح ؟
ـ تفشل !
عاجلت نفسك بالقرص الثاني،ونفـَس عميق تحشرج من نهايات رئتيك..واستسلمت لتفكير يعبث بك ، فتمنيت لو أزيلت قشرة الدماغ ليـُنتزع مخك.. بتلافيفه وتوابيت تعشش فيها الرغبات والنوازع. تـُريدك مختصراً من الوعي..مفرغاً، لتعيش مادة مستوفاة من اللا شئ / مادة كثافتها الهيليوم..وضغطها الجوي = صفر!
....................................................................
ـ أنت استغرقت فى النوم على الكنبة ساعتين ، الساعة الآن الـ 12 !
حركتَ ذراعيك بكسل..نفختَ وخمك اللزج .. وتثاءبتَ كالأطفال !
حامت حولك تقاطيع غيوم لا ترى من خلالها. مسلط عليك همهمات لا تميزها ، روائح ـ لزمن بعيد ـ لم تتشممها، ولمسات على"باركيه" الصالة. أقدام بشر بالتأكيد، لا زال وقعها يدغدغ حاستك المعطوبة كاللمسات الأولى للحن سيمفوني رفيع المستوى عظيم الاداء .
ـ هيه . عيد زواج سعيد !
أرهبتك الاضاءة..الأصوات المختلطة..بهرجة الملابس..الشموع..الاطفال..وحفيدك عمر الواثب على حجرك كالقط على طعامه .
ونبرة امرأتك المتهدجة أشعرتك بالأمان من كل هذا وذاك .
انسحبتَ.. تواريت فى جحرك.. ترفض تقبل العزاء على موت سنواتك ،على السعادة وراحة البال: قتلاك بلا رائحة الدخان وطعم البارود . تلتفت لتجدك منعزلا فى منفاك ، ولا تجد ما تعضه لتفجير كبت غيظك فيه .
نظرتَ من النافذة فوجدتهم جمعياً خرجوا..
تركوا مشروباتهم وباقات الورود ، وبرقيات التهاني !
- لا يهمك .. سأكتفي بمشاهدة شريط الفيديو أو "السي دي" !
- كنت أتمنى أن تخرج من أزمتك ..
= لم يكن من المناسب كل هذا !
- أخذت المهدئ ؟
= بعد قليل سيتحسن الأمر .
- لا تستعجل .
- ربما سنتكلم فى وقت آخر .
= الوقت متأخر لنذكر أى شئ فى تاريخ زواجنا ..
= تجاوزنا الـ80 بـ10 دقائق !

أحد شهور شتاء 1999