رؤية فنية لرواية "حذاء فيلليني "

ماذا لو قرأ بعض أهل الدين_عاشقي سوط الحجاج_الأدب؟
ولاسيما مثل أدب  "وحيد الطويلة ". كيف ستكون نظرتهم للدين الجديد الذي أتوا به بعدها؟

من المسئول أمام صرخات المخلصين لأوطانهم، وقصدهم الكاتب في الإهداء الذي يخدم العمل بشكل واضح؟

هل الشبق خدم العمل الأدبي أم تم إقحامه في النص دون داعي؟
هل الكاتب أجاد معالجة منظومتي القهر والاستبداد باستخدام أصوات سردية ورواة_شخصيات_خدموا العمل، أم مشي بمبدأ الكاتب الإله المستبد صاحب الرأي الأوحد؟!

هل الكاتب يحب الجلاد المرموز إليه بالمنظومة المستبدة، أم يكرهه؟

كل تلك الأسئلة وأهم منها؛ يمكننا الإجابة عليها من خلال التطرق إلى: "مضمون العمل "، "فنيات العمل "، "لمحة تأويلية خاصة "

لكن فلنتناول الإبداع بشكلٍ صحيح، ولنترك الكاتب الآن، ونأتي بالراوي أو بالأحرى الرواة ونحدثهم!

مضمون العمل

يمكننا تفكيك سلطة الاستبداد ومنظومة القهر، والتي بالمناسبة ليستا وليدة اللحظة، بل نراها بشكل واضح منذ نشأة المجتمعات في أرض الله؛ وحُتّم علينا بعدها أن نرى الجلاد المفوض من تلك السلطة بالحفاظ على الأوطان!

ففي رواية "حذاء فيلليني " نشاهد فن صناعة السلطة المستبدة على أيدي الرعاع الخانعين بشكل يؤلم المتلقي ويجعله يذرف بالدموع. "أنا لا أحكي عن التعذيب فمائة رواية كتبها كتاب من مختلف بقاع العالم لم تشف غليل أحد ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب ولا جعلت الجمهور الغبي يقف ضد التعذيب " هذا جاء على لسان شخصية مطاع، وسنبين حين نتطرق إلى فنيات العمل أهمية دلالة هذا الاسم.

ويتضح الأمر أكثر على نفس لسان الشخصية المصنوعة داخل العمل بالتحدث عن الجماهير الذين لايدركون أنهم بمقدورهم فقط صناعة الطاغية وبمقدورهم أيضا فقط القضاء عليه، لكن الجماهير تأبى. "ثم يعودون إلى بيوتهم يمارسون الجنس من الخوف.. جنس قذر خائف لا يقاوم الموت.. إلخ " ص 58 يفعلون هذا حين يشاهدون المقصل وهو يقطع رقاب المدافعين عن كرامتهم وحياتهم وحقوقهم المشروعة. "يتصايحون كأنهم يتفرجون على مباراة للديكة وهكذا كأنهم بدون ذاكرة سوى ذاكرة البعوض "

ويختم السارد الكلام بالحقيقة المرة لنزدادا ألما وحسرة. "مائة رواية ومائة كتاب وفيلم امتلأت بالدم وصراخ الضحايا ولا من مجيب.. إلخ "
والسلطة المستبدة هنا المتمثلة في "الجلاد " لم تكتفِ بتعذيب الضحايا في القبو، بل صنعت قبوا آخر لممارسة الجنس فيه، ومارست الجنس بعنف مع الزوجة التي عانت أشد المعاناة أيضا، فعلى ما يبدو أن الشخصية المصنوعة داخل العمل ليست شخصية اعتباطية، بل الكاتب يدرك جيدا انفعالاتها، يسرد وكأنه ذات الشخصية، ويمكننا أن نقيس على ذلك باقي الشخصيات داخل العمل. "الطبيب النفسي، والزوجة، والجلاد ووجهة نظره أيضا من أفعاله تلك. "
وفي النهاية: ماذا سيفعل المقهورون حين يأتيهم الجلاد عاجزا محمولا على التروللي؟
سينتقمون منه؟ سيثأرون؟ وإن حدث فمن الفاعل والأولى بالفعل؟
والطريف حقا في الرواية أن الجلاد لم يفقد سطوته فقط، بل فقد شبقه. أي فقد السلطة الجنسية التي على أساسها تكون مقوماته!
إذن حتى لا أطيل؛ ما أود قوله: إن هذا العمل الأدبي قام بتفكيك فكرة الرواية على أربعة أوجه:
(القاهر) المتمثل في شخصية الجلاد "المفوض من منظومة الاستبداد، المحافظ على الوطن على حد تعبيره! " وسنرى أهمية ذلك بوجهة نظر جيدة.
(المقهور) المتمثل في شخصية مطاع والزوجة. وهما الشخصيتان الرئيستان. والمتلقي_القارئ_ أيضا وهو الشخصية الأساسية.
(خطاب القهر) من خلال الأصوات السردية وسنأتي إليها.
(فضاء القهر) المتمثل في الزمان والمكان.

فنيات العمل

جاء العمل الأدبي على أكثر من صوتٍ سردي، والمدهش أننا نعرف من هو السارد من خلال الصوت السردي بدون شرح أو ذكر كلمة "قال " أي قال الضابط أو مطاوع أو الزوجة أو.. إلخ. بل المتلقي يعرف في ذات الصفحة من هو المتكلم دون تعب. ص 102، 103، 106، وصوت سردي جديد أيضا يظهر لشخصية جديدة وهي الشيطان ص 152، ص 160.. 166.. وغيره.
تلك حيلة فنية كبيرة لا يستطيع إتقانها غير الكبار.
ومن براعة الكاتب الكبير ألا يقول، ولا يشرح، بل يترك المتلقي يعيش داخل العمل في حكاية سردية محبوكة بانسيابية شديدة يتأرجح بين مطرقة السارد. وهذا واضح في "حذاء فيلليني "

قدم لنا الكاتب على لسان مطاوع، الشخصية التي حملت اسماً يحمل المفارقة للعمل. فنية الاستباق؛ للتخلص من الجلاد، وترك المتلقي يرهص بالأحداث ليكوّن المشهد ويتخيله ويتوقع بالخطأ، ثم يستنفر طاقته يحاول التكهن بكيف سينتهي؟ وهذا ما يمسك القارئ من ياقته إلى نهاية العمل.

الأمكنة التي صنعها الكاتب كانت بمثابة الدليل الواضح على تفكيك منظومة القهر، حتى عيادة الطبيب مطاوع الذي صار مطيع بعد أن دخل في قبو الضابط، نراها صارت جلية في تفكيك منظومة القهر بشكل معاكس "اليوم أنا تحت قبضتك وغدا ستكون أنت تحت قبضتي " أينعم كان حلم كبير، لكنه حدث حين اجتمعت فيه المنظومة المقهورة.

وما أدهشني أيضا،  أن بناء العمل لا يقل أهمية عن بناء قصة "ألف ليلة وليلة " و"كليلة ودمنة "، لكن بشكل معاصر مختزل يتناسب مع سرعة زمننا. فلننظر إلى قصة الضابط، قصة الطبيب (مطاوع_مطيع)، قصة الزوجة، قصة الشيطان، روعة الشبق الحيواني وهو مقرونا بمحاولة الوصول إلى شبق الإنسان المتحضر الراقي، والذي لن يأتي في يوم من الأيام من جلاد مستبد. "أن نمنح النساء الحب ليفتحن بدلال الرضا أبواب السراديب " من قرأ قصتي "ألف ليلة وليلة "، "كليلة ودمنة " سيدرك تفكيك منظومة القهر المرتبطة بهذا العمل ولو كانت بطرق مختلفة.

ولننظر إلى ثنائية الشخصيات البارعة "الضابط_مطاوع " "زوجة الضابط_جارة مطاوع " "الشيطان_النفس الساردة(التغريب السردي) لمطاوع=مطيع ".. إلخ. تكشف هذه الثنائيات أضداد ومفارقات تزيد العمل جمالا وتكسبه تأويلات عديدة يُكتب من ورائها مؤلَّفات.

نأتي لفكرة العمل البسيطة الجميلة التي صنعت مكانين مهمين؛ ليتحرك فيهما الشخوص، وتتبادل الصراعات_فعنصر الصراع هو أهم عنصر في العمل_ العيادة الخاصة بمطاع(مطيع) التي جمعت المنظومة المقهورة بما فيها المتلقي الذي دخل عنوة إلى هذه المتاهة بتقنية التغريب السردي؛ ليشارك في الأحداث! ويسأل سؤالا واضحا مباشرا للكاتب: ماذا ستفعل بي أيها الوحيد؟ أنا ماذا فعلت؟!
هل سيرد السارد؟ لا لن يرد، بل سيضغط على آلامنا تباعا لعل ضمائرنا تنتفض ذات يومٍ!

"أنت واحد من هؤلاء الرعاع، أنتم من تصنعون الجلاد، الرعاع هم مطيته ووقوده، لا يفلحون في شئ آخر بعد صناعته سوى عبادته دائما ورجمه أحيانا، ثم تطلبون منه أن يكون بشرا عاديا، يأكل ما تأكلون ويضاجع ما تضاجعون..إلخ "

ثم يتحول الراوي المتكلم_وهو صوت سردي لشخصية أخرى_ليتفاعل مع شخصياته عبر التغريب السردي الثانوي، ويخاطب المتلقي أيضا وهو المعني بالعمل منذ البداية.

"لا تقدم تنازلات مهما كان، والأهم ألا تستبدل الحرية بالأمان، لن تحصد أيهما إن فعلت "
"الحياة سلسلة من الأدوار.. لا تسجن نفسك في الماضي.. لا يمكنك اختصار الجلاد بشخص أو حفنة تشبهه " ص 270

بعد كل هذا الألم النفسي الذي تم بحرفية التغريب السردي، وفقد القارئ فيه نفسه وحياته وشعر بالتشوه الكامل من الظلم الواقع عليه ليس على مطاوع(مطيع) فقط. يتابع الكاتب بذات التقنية البارعة:
" أنت لا تريد أن تتشفى فيه ولا تتصور موته، لا تتخيل زوال أمثاله من العالم انتقاما، بل خلاصا لروحه من الهوة القذرة التي سقط فيها حتى أصبحت صخرة سوداء "
وماذا بعد كل هذا الدمار الذي اشتمل القارئ وأصابه بالبؤس الشديد؟
"هناك حياة أخرى ممكنة، لا يجب أن تتماهى مع الجلاد حتى لا تقع فريسة لروحه الشريرة.. تبقى دائما بارقة أمل.. الأمل رشوة يقبلها الجميع "

يبقى السؤال الأهم: هل سيترك الكاتب القارئ بوجه عام يسمع الصوت الأوحد؟! "الجلاد أسوأ من خلق الرب في هذا الكون الفسيح "
بوجه آخر: هل لن نسمع وجهة نظر الجلاد من خلال صوته السردي؟ بالطبع لن يقع مثل"وحيد الطويلة " في مطب كهذا.
فلننظر وجهة نظر الجلاد: "أنتما وغيركما لا تعرفون ما فعلته من أجلكم.. أنا فعلت ما فعلت من أجل الملايين الأخرى، من أجل أن تسعد كل عين وتنام هانئة، عيني هي عين من بات يحرس في سبيل الله.. إلخ. "، ص 139، 146 وغيرها.

الآن نختم بلمحة تأويلية خاصة

لماذا فعلت بنا هذا يا أديب؟

أولا: مثل هذا الأدب يتم كتابته وتأتي بعده الكتب والمؤلفات والتنظيرات لتُخرج منه تأويلات عدة.
فهذا ما لم يدركه المقللين من قيمة الإبداع ومن لا يعرفون أهميته. فالإبداع وحده من يبني الإنسان، والإبداع يُقيم الحضارات. وأرى أن أصل العمل الأدبي هو الارتقاء بالإنسان.

في رواية "حذاء فيلليني " خاطب "الطويلة " الإنسان وأراد أن يرتقي به من خلال منظومة يقوم عليها الكون.

علاقة الشبق بالجلاد بالدم بالألم هي فكرة الخليقة.
انظروا لقتل قابيل لأخيه من أجل أخته الوضيئة!

ثم انظروا إلى العمل الواقع بين أيدينا الآن. كيف أصبح الطبيب النفسي مريضا نفسيا!
"بعضهم يصحو من نومه تلحقه زوجته قبل أن يخنق أطفاله، بعضهم يكره كلمة كرامة ويتمنى لو حذفوها من اللغة.. إلخ "

لماذا تعجب الشيطان من أفعالنا نحن البشر؟!
"الشياطين تقف في صف من تم تعذيبه، تساعده على الصمود والانتقام، لتؤكد أنها شياطين للبهجة لا للحزن، للعدل لا للظلم "ص 166.. إلخ.

حتى الشبق في هذا العمل المدهش قام على دفع الحدث. وضرورية وجوده الحتمية لربطه بفكرة العمل الأساسية، يحتاج إليه العمل؛ ليقبله العقل ويصدقه الواقع.
فلن يرى القارئ كلام مرسل ولا إقحام جنسي اعتباطي بسذاجة، بل كاتب يعلم كيف يضع كل كلمة في العمل بأسلوب محكم وبليغ.

العمل يثير تساؤلات عديدة ويترك النهاية للقارئ ليتأمل دوره في تلك المنظومة الاستبدادية التي يتعجب منها الشياطين أنفسهم.
ألم تتأملوا النفسية البغيضة التي تكره نفسها كالجلاد؟
هل تظنون أن الجلاد يطيق نفسه؟
هل بعد أن صنعنا الديكتاتور سنطلب منه أن يعاملنا كبني جنسه؟
هل يا سادة يا كرام تظنون أن أغلب مدعي الفضيلة فضلاء؟
(من يزعمون أنهم من الخِلقة الملائكية سواء من رفعوا شعار الوطن أو الدين هم من يتعجب منهم الشياطين!)
وأكثر من يتعجب منهم الشياطين: عاشقي سوط الحجاج! محبي سطوته وجبروته ولا أدري أي دين يتبعه هؤلاء؟!