دراسة تحليلية للمقطع الغزلي من قصيدة الحصري القيرواني ( يا ليلُ الصبّ متى غده ) وفق نظرية الاستعارة التصوّرية

المقطع الغزلي للحصري القيرواني من قصيدته ( يا ليل الصبّ متى غده ؟ )

يا ليل الصب متى غده     أقيام الساعة موعدهُ ؟

رقد السُّمَّـــــارُ وأرّقـــــــــــهُ     أسفٌ للبيـــن يـــــــردِّدُّهُ

فبكاه النّجــــــم ورق لهُ     ممّــــا يرعـــــــاه يــــــرصدهُ

كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ     خوف الواشين يشرِّدهُ

نصبت عيناي له شركاً     في النــوم فعـــزّ تصيدهُ

وكفى عجبــاً أني قنصٌ     للسِّرب سبــــاني أغيدهُ

صنمٌ للفتـــــنةٍ منتصبٌ     أهـــــــواهُ ولا أتعبَّـــــــــــــدُهُ

صاحٍ والخمرُ جَنَى فمِهِ   سكرانُ اللحظ مُعرْبدُهُ

ينضو من مقلته سيفـــاً     وكـــأن نعــــــــــــاساً يغمدهُ

فيريق دم العشّـــــاق به   والـــــويل لمــــن يتقلَّـــــــــدهُ

كلاّ لا ذنبَ لمن قتلت   عينـــــاه ولـــــم تقتل يــدهُ

يا من جحدت عيناه دمي وعلى خدَّيــهِ تــــــــورُّدهُ

خدّاك قد اعترفا بدمي   فعلام جفونك تجحدهُ

إنّي لأعيذك مـــن قتلي     وأظنّـــك لا تتـــــعمّــــدهُ

ذهب كلّ من جورج لايكوف ومارك جونسون إلى اعتبار أنّ الاستعارة عملية ذهنية متعلّقة بجوهر عمل الفكر ، كونها المنطلق أو المحور الذي نستطيع من خلاله إدراك كلّ ما يحيط بنا من أنشطة وأعمال ملازمة لحياتنا اليومية ، وبالتالي فهي تتخطّى الإطار اللّغوي لتنقلنا إلى عالم آخر تفرضه التصوّرات المعرفية ، فالاستعارة لم تعد تقتصر على اللّغة كون النسق التصوّري العادي الذي يتحكّم في سلوكاتنا وتفكيرنا يكتسي صبغةً استعارية ، فهي آلية تستطيع من خلالها استيعاب وإدراك التصوّرات المجرّدة وخلق دلالات وحقائق جديدة في حياتنا ، ومادام أنّ نسقنا التصوّري استعاري فإنّ الاستعارة ليست زخرفة شعرية جمالية متعلّقة بانزياح اللغة ، وإنّما هي أداة رئيسية في حصول عملية الفهم ، إضافة إلى هذا فقد رأى الباحثان أنّ الاستعارات لا ترتكز على علاقة المشابهة ، فهي مجموعة ترابطات عبر مجالات معيّنة تخلق مشابهة تصوّرية يُؤخذ بها لتكون مشابهة حقيقية تحكمها ممارسات تجربة الشخص ، ومن فإنّ الاستعارات التصوّرية مبنية على ترابطات داخل تجربتنا .

شكّلت الاستعارة محوراً هاماً في النصوص الشعرية ، لاسيما أنّ البناء الذي يحكم هذا النوع من الخطابات يرتكز بالأساس عليها ، وقد فتحت الأبحاث والدراسات المعرفية أبواباً جديدة لمقاربة النصّ الشعري وضخّت دماءً جديدة في سبيل اكتشاف عوالم الكتابة ومقاصدها ، فالأدب كمنتوج ذهني لا يخرج عن النطاق الاستعاري لأنّه يُعتبر وسيلة أو أداة يستخدمها الكتّاب لنقل أفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم باستخدام الاستعارات ، وعندما نكتشف معاني هذه الاستعارات يمكن أن نلِج إلى تمثيلات مفردات القصيدة وتراكيبها عن طريق الفكر ، من هذا المنطلق سنحاول في هذا البحث دراسة نصّ شعري غزلي للحصري القيرواني _ والمتمثّل في مقطع من قصيدته ( يا ليلُ الصبّ متى غدهُ ؟ ) _ دراسة تحليلة مبنية على مقاربة الاستعارة التصوّرية من خلال التطرّق إلى أربع نماذج استعارية هي ( العشق صيد ) ( العشق عبادة ) ( العشق خمر ) ( العشق حرب ) .

يتحقّق التشاكل في استعارة ( العشق صيد ) من خلال ظهور سمة مشتركة أولية تتضمّن وجود ضحيّة أو مستهدف ، هذا لا يعني بالضرورة أن العشق هو عبارة عن صيد ، بل قد يكون العشق مجموعة أوهام لم يفلح العاشق في تحقيقها أو ملامستها ، ومنه قد نجد عديد التوافقات النسقية بين الكيانات التي تنتمي إلى حقل العشق مثل : ( افتراض وجود عاشق ، علاقته بالمعشوق ، الهدف من هذه العلاقة ... الخ ) والكيانات التي تنتمي إلى مجال الصيد ( الصيّاد ، البحر ، البرّ ، المشاكل التي تحدث في عملية الصيد ، الهدف من الصّيد ... الخ ) ، وبالتالي فإنّ العشق يتوافق في جزء كبير منه مع الصيد ، لأنّ كلاً من العاشق والصيّاد يبحث عن مصدر حياته ، فالعاشق إنّما يبحث عن إسعاد نفسه من خلال ملاقاة محبوبته ، بينما الصيّاد يسعى إلى تسلية نفسه وسدّ حاجته ، ذلك أنّ العشق مرتبط في تصوّرات الشاعر بإدراكنا لمعنى عملية الصيد وفهمها ، والدليل على ذلك في قوله ( كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ ) فهو مغرم بمحبوبته التي شبّهها بالغزال رقيق الخصر كما عادة العرب في الجاهلية عندما يشبّهون المحبوبة بهيّة الطلعة بحيوان الضبي أو الغزال ، ومنه يمكن أن نستخرج مجموعة من التصوّرات داخل هذا المقطع الغزلي كقوله ( نصبت عيناي لهُ شركاً ) فمثل ما يترصّد الصيّاد هدفه قصد الإمساك به فقد نصّب الشاعر عينه ليترصّد محبوبته ، فتصوّر العشق يُحيلنا إلى بناء تجربةٍ لأنّ القيام ببعض التجارب مثل ( النظر ، الحديث ، الشعور .. الخ ) باعتبارها تندرج في عشقٍ ما تقتضي جزئياً البنية المعطاة لتصوّر العشق من خلال استعارة ( العشق صيد ) ، وقول الشاعر ( وكفى عجباً أنّي قنص للسّرب سباني أغيده ) إنّما ليؤكد أنه بارع في الصيد لكنّه لم يستطع اصطياد محبوبته فعوضاً أن يصطادها اصطادته ، في هذا البيت تحديداً استخدم الشاعر بعض المصطلحات المتعلقة بحقل الصيد ( قنص ، السّرب ) ليريد بها التعبير عن محبوبته التي شبهها بالغزال الجميل الناعم ، لتتضح لنا علاقة الصيد بالعشق ومدى التقاء الشبكة المعرفية أو الأنساق التصورية بين المجالين .  

في استعارة ( العشق عبادة ) يمكننا بناء مجموعة من التصوّرات التي تنضوي ضمن إطار التأويل أو التفكير اللاّمتناهي ، والذي بدوره يفتح الباب أمام خلق مجموعة جديدة من الأنساق أو المجالات ، من بين هذه التصوّرات :

- بدونك سيتوقّف نبض قلبي .

- سأموت لو تتركيني .

- عندما أكون بجانبك أولد من جديد .

وعندما نعود إلى قول الشاعر في البيت الأوّل ( يا ليل الصبّ متى غده ) فإنّنا ندرك أنه ينتظر بلهفة قدوم الغدِ الذي سيرى فيه معشوقته ، وبالتالي هو متشوّق إلى هذا اليوم الذي طال انتظاره ، وقد نعطي هذا التركيب تصوّراً آخر من خلال فهمنا للنسق المضمر الذي يوحي بأنّ هذا الانسان متشوّق للقاء ربّه يوم القيامة ، فوظّف لفظة قيام الساعة للتأكيد على بعد اليوم الذي يلتقي فيه بمعشوقته ، كما يظهر وجود الاستعارة التصورية في أكثر المفاهيم المجردة ( أطيعك ، أؤمن بك ، أصلّي لك .. الخ ) فهي توحي لنا بأنّ العشق تحكمه مجموعة من البنيات ( اللّطافة ، اللغة ، المشاعر ، الانجذاب ، الإخلاص ، العاطفة ، التعلّق ، الاشتياق ، السرور .. الخ ) ، وفي قول الشاعر ( أسفٌ للبين يردّده .. ) نجده قد أردف فكرة الفراق ( البين ) ويقصد بها أنّ فراق معشوقته قد جعله قلقاً ومضطرباً ، ومنه قد نلاحظ من استعارة ( العشق عبادة ) اتّفاقاً على مستوى الترابطات والبنيات المكوّنة لها ، فالفراق الذي تحدّث عنه الشاعر يرمي في النهاية إلى علاقته بمحبوبته ، وعلى هذا الأساس فإنّ العشق يجري مجرى العبادة لأنّ الإنسان إذا لم يُطِع خالقه فإنّ صلته به قد تنقطع ، أمّا التصوّر الآخر الذي يعكس أفكارنا أنّ العشق يحكمه طرفان ، وهذان الطرفان تربطهما علاقة حبّ شديدة تتحوّل فيما بعد إلى عشق وهيام ، ونتيجة هذا العشق قد تنتهي بقبولٍ أو تصادمٍ ، ولهذا نستطيع القول أنّ الشاعر في مقطعه السابق قد استعار ألفاظ العبادة واستعملها موضوع العشق ، لأنّ الفتاة التي يعشقها قد يصبح فيما بعد عبداً مطيعاً لهــــا ، أمّــــــا عن توظيف الشــــــاعر للفظة ( الويل ) مثـــــلاً في قولــــــــه ( والويل لمن تقلّده ) إنّما هو للتعبير عن العذاب الذي يطاله حينما يترك نفسه أمام أعين معشوقته ، فهذه اللفظة إنّما هي انعكاس للحالة التي يكون عليها الانسان حينما يقترف ذنباً ما .

لطالما تغنّى الشعراء القدامى بموضوعات العشق ، بل راح بعضهم يربطه ويصوّره بحالة النشوة التي تنتاب شارب الخمر والانتقال به إلى عوالم اللذّة والمتعة ، ولا شكّ أنّ شاعرنا ( الحصري القيرواني ) هو أحد هؤلاء ، فقدّ قدّم للعشق تصوّرات عديدة اتّصلت في معظمها بالخمر ، هذا لا يعني أنّ العشق يعدّ جزءاً من الخمر لأنّ العشق شيء معنويّ نابع من الوجدان ، في حين أنّ الخمر شيء مادي يعبّر عن حالة تغييب للعقل ، فحينما قال الشاعر ( رقد السمّار فأرّقه .. ) إنّما كان يقصد بلفظة السمّار السهر آخر الليل ، هذا الأخير يعتبر في حدّ ذاته نسقاً في نظامنا التصوّري لزمن شرب الخمر ، وبهذا فقد جعل العشق في منزلة الخمر وكشف ذلك عبر عدد من التعابير التي تصادف حياتنا مثل قوله ( .. وكأن نعاساً يغمده ) حيث شبّه الشاعر النعاس بإنسان يغمد السيف ، وبذلك تلتقي صورة العين الناعسة مع شارب الخمر حينما تسيطر عليه حالة الهياج والضياع الفكري ، وبالتالي فإنّنا نتعامل مع العشق باعتباره خمر له نشوة ولذّة ومتعة وحتى آثار صحيّة ، وقد نستعمل أنساقاً وأفكاراً أخرى مختلفة للتعبير عن هذه الاستعارة إذا ما اعتبرنا أنّ العشق هو عبارة عن ( إدمان ، سمر ، نسيان ، هذيان ، آفة ، وجع .. الخ ) ، فعندما قال الشاعر ( كلاّ لا ذنب لمن قتلت .. ) إنّما ليوضّح أنّه لا وزر عليه ، فهو لم يقتل بسيفه أو بيده إنّما بعينه ، وعليه فإنّ الذنب الذي قد يقترفه العاشق يأخذنا إلى صورة موازية ومرتبطة بالذنب الذي يقترفه شارب الخمر حينها سنتقطع صلته بالله عزّ وجلّ ، وفي موضع آخر يقول الشاعر ( ما ضرّك لو داويت ضنى .. ) حيث شبّه المعشوقة بطبيب يُداويه من مرضه ، وفي هذا الصدد قد يرى شارب الخمر في الخمرة ذاتها دواءً هو بحاجةٍ إليه أيضاً لعلاج دائه ، وفي هذا نستدلّ بقول أبي نوّاس ( ... داوني بالتي كانت هي الدّاء ) .

دائماً ما حملت لفظة العشق عديد التصوّرات والمعاني التي لها ارتباط وثيق بميدان الحرب ، ولا شكّ أنّ تصوّر العشق يَفترض وجود متحابين كما هو الأمر كذلك في تصوّر الحرب عندما تفترض وجود متحاربَين ، وعليه فإنّ الفضاء الذي يُمكن لنا إدراكه من تصوّر العشق يكمن في ( المشاكل ، الجنون ، القتل ، الخيانة ، الخصومة ، الإصابة ، الجدال ، الكلمات وهي الأسلحة .. الخ ) وهي تصوّرات يتمّ إسقاطها على ميدان ( الحرب ) وفق تفكير عميق لتتناسب معه ، فنحن نستعين بتصوّر الحرب قصد فهم تجربة العشق ، هذا الأخير عادةً ما نعيشه ونجرّبه بنفس طبيعة نزاعاتنا وحروبنا ، والدليل على ذلك هو تحوّل أغلب قصص العشق إلى خيانة ومن ثمّ إلى صدامات وحالات قتلٍ ، ورغم أنّ العشق والحرب يُعتبران شيئين مختلفين إلاّ أنّه ثمة ترابطات نسقية تتّسم بها تجاربنا ، فتجربة العشق هي أقلّ وضوحاً ممّا يُمكن إنجازه بواسطة الحرب ، فحين قال الشاعر ( ينضو من مقلته سيفاً .. ) فقد شبّه نظرات المحبوبة بسيفٍ يُخرجه من عينه ليقتلها ، لنجده قد وظّف لفظة ( السيف ) وهو سلاح في مجال الحرب ليبني به تصوّرات أخرى في ميدان العشق ، والغابة من استعمال السيف هي القتل ، وبالتالي فإنّ العشق قد يقتل بشكل إرادي أو غير إرادي من طرف صاحبه ، وعلى هذا الأساس يُمكننا بناء استعارات أو أنساق جديدة للحرب مثل ( القتل ، الألم ، جراح ، فقدان الأحبّة ، عداوة ، هدنة ، صراع .. الخ ) فسلوك الطرفين المتحابّين يطابق مظاهر بنية الحرب ، معنى ذلك أنّ إدراكات الطرفين المتحابّين توافق في جزء منها إدراكات من يدخل حرباً ، وعدد كبير من التصوّرات التي تقابل فكرة المعركة تنطبق على فكرة العشق ، وفي نفس السياق قال الشاعر ( كلاّ لا ذنب لمن قتلت عيناه ولم تقتل يده ) فهو لم يقتل أحداً بيده وإنّما قتل بعينه وهذا تعبير يلامس المجاز ، والمفارقة في هذا الكلام أنّ العاشق قد يقتل بعينه أمّا المتحارب فيقتل بسلاحه ، وأضاف قائلاً ( يا من جحدت عيناه دمي وعلى خدّيه تورُّدُهُ ) فقد شبّه خدود محبوبته بإنسانٍ يعترف بجريمته ، فوظّف لفظة ( الدم ) المتعلّقة بنتاج الحرب في فضاء معنوي وهو العشق ، هذا الأخير يُتيح لنا معرفة وفهم أنساق أخرى جديدة كالحزن والعذاب وغيرها .

 

- المراجع المعتمدة في البحث :

1 – الاستعارات والخطاب الأدبي ( مقاربة معرفية معاصرة ) ، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه ، من إعداد : عمر بن دحمان ، جامعة تيزي وزو ، تاريخ المناقشة : 03 – 07 – 2012 م .

2 – الاستعارة في ظل النظرية التفاعلية ( لماذا تركت الحصان وحيداً ) لمحمود درويش ، مذكرة لنيل شهادة الماجستير ( فرع تحليل الخطاب ) ، إعداد الطالبة : جميلة كرتوس ، جامعة مولود معمري – تيزي وزو ، تاريخ المناقشة : 25 – 12 – 2011 م .

3 – دلالات الاستعارة في شعر محمد عفيفي مطر ( ملامح من الوجه الأمبيذ واقليسي أنموذجا ) ، مذكرة لنيل شهادة الماجستير ، من إعداد الطالبة : سورية لمجادي ، جامعة وهران ، 2010 – 2011 م .

4 - مفهوم الاستعارة عند جورج لايكوف ومارك جونسون من خلال كتابهما " الاستعارات التي نحيا بها " أنموذجا ، مذكرة لنيل شهادة الماستر ، دراسات لغوية ، من إعداد : سعيدة زكراوي ، بهية بوثلجة ، جامعة البويرة ، 2014 – 2015 .

5 – ملف إلكتروني ( PDF ) بعنوان : ( البنية الاستعارية في النصّ الأدبي – مقاربة عرفانية ) ، من إعداد : أ. جعفري عواطف و د. فطومة لحمادي ، جامعة تبسّة .

6 – مقال إلكتروني بعنوان ( هل الجدال حرب ؟ محاولة في تصويب مقاصد التجادل وتحسين وسائله ) ، الكاتب : سليمان الناصر ، 2016 .

رابط المقال : http://democraticislam.org/news_details.php?lang=ar&id=227