خطاب لن يصل

كتبت لك من قبل مرتين. لا عليك. أنا لا أتوقع منك ردا على أية حال. وأعلم أن الاتصال الهاتفى أصبح غير ذى بال. إذا أردت. إذا تمكنت، إتصل أنت. أعلم كذلك أنك لن تقرأ هذا الذى أبعثه لك الآن، لكنى أكتب على أمل أن العالم يحيا بفعل شبكة لا مرئية تنقل ما يتوجب نقله و فى الوقت المناسب تماما.
أفسح الصورة قليلا أمام الأفق وانظر ما عليك عمله.
صعب ما عليك عمله. صعب لأنه صنو الخيال. ليت الأمور كانت على نحو مختلف فكلنا نحيا العالم وكأن حياة العالم رهينة سنوات أعمارنا القصار.
أطال الله لى فى عمرك يا أحمد.
يوم حثثتك على الكتابة كان ردك: "كيف يا خاله؟ و نحن نحيا بين القصف والقصف؟"
قلتها كما لو كنت مراسل أخبار لجريدة أجنبية. ولما ترجيتك ألا تهمل اللغة الانجليزية وصفت لى كيف تبدأ الصلاة فى غرفة فتجد نفسك فجأة فى الغرفة المجاورة بفعل قوة الإنفجار وكأن القنبلة التى دوت وقعت على بيتكم وليس على بعد عدة كيلومترات.
-"أنت لا تدرين كيف الحياة هنا".
كدت أصدقك وأنا أشاهد المذابح. كدت. كدت أحثك على حمل السلاح. ثم رأيتك فى الحلم مرة تفجر نفسك معهم فعلمت فى فزعى أن حياتك عندى أغلى من الثأر ومن الأرض بل أغلى من العدل ذاته فكنت أستغفر ألف مرة وأنا أتتبع الوجوه المسجية وقلبى يرفرف من الهلع. حتى وأنا أعلم أنك بعيد عن هذا الحى أو ذاك المخيم. ولكن من ذا الذى يدرى متى يصل اليأس مداه فى الحلقوم؟ رأيتك كل يوم فى وجه كل شاب مات بالرصاص وهو يضغط فى قبضته على حجر صغير. من داوود ومن جوليات اليوم يا أحمد؟
رأيتك مئة مرة كما لو كنت أمامى يوم وقعت من الدور الرابع فى مدرستك. رأسك ملفوف برباط أبيض أشبه بعلامة الشهادة. و أمك. أمك المدهشة وجهها جامد، تقف بجانب السرير فى المستشفى لا تنبس ولا تبكى ولا تهتز، كأنك بالفعل مت أو استشهدت وهى المعتادة. أبوها فى حصار بيروت وأخوها فى "العباسية" سنة نكبة الشتات فى الرابع من يونيو. ثم أبوك. دائما يونيو للأحزان ثم انضم إليه "أيلول"، شهر "الهلال" الذى كان ترتيبه السادس فى التقويم الآشورى-البابلى.
تذكر عندما علمتنى أسماء تلك الشهور قلت:
-"أيامكم غير أيامنا يا خاله"
حزيران كان فى الأصل الثالث. كيف تبدل نفس الأشهر مكانها من السنة دون أن يلتفت أو يعلم أحد؟
ولكن مالنا و ترتيب الشهور من عدمه. والأرقام كثر. أنت الأول دائما. واتفقنا أن تظل الأول لتحمل عبء توصيل الرسالة إلى أرض الشعراء فى قارة القلوب التى وسمنا أنفسنا سفراء لها فى كل الأمصار و بنيناها سويا:
-"طوبة عدل و طوبة جمال وطوبة مساواة بين البشر والأجيال".
لكنك عدت يوم من المدرسة واتهمتنى بالكذب.
-"كذبتى على! أضحكتى على أصحابى! الحكاية ليس بها ما تقولين. الحكاية تقول أن الأمير بنى لجاريته قصر كبير "طوبة دهب وطوبة فضه".
-"نعم كذبت و تلك الحكاية التى سمعتها فى المدرسة أيضا كذب. إختر لنفسك كذب ترضاه!"
يومها وحتى تصالحنى طلبت منى أن أقرأ عليك قصيدة. تذكرها؟
"كان هناك مطار و رجل عجوز ختيار، وشاب فى مقتبل العمر و طير يلقلق من بعيد. أخرج العجوز صورة من جيب معطفه السميك الخشن، وأعطاها للشاب وأوصاه:
-هذا إبنى ذهب ليموت فى بلادك التى هى أيضا بلادى وكما الرب وكيلى فأنت سفيرى إلى جمهورية الضمير".
بعدها أصبح اسم "شيموس هينى" الأيرلندى الشمالى كلمة السر بينى و بينك كلما لمحت منك شك فى كلامى.
يومها اتفقنا انك لن تمت قبل أن تصبح سفيرا فوق العادة، لكنا لم نتفق انك لن تسقط من الدور الرابع فى مدرستك وعمرك بعد العاشرة.
-"ليش ما ارجعتى معنا يا خاله؟"
مكثت يومين فى المستشفى ثم عدت وأمك إلى بيتكم الصغير فى مصر الجديدة. كنا نظن أننا فقدناك والله وأن كل الأحلام التى نسجناها أنا و أنت ونحن نتعلم الانجليزية سويا فقدت معك. كنت أظنك توشك أن تصبح "بيتر بان" أزلى العمر لا يكبر عن العاشرة و يطير دائما فى اتجاه "الأرض التى لن تكون أبدا".
-"وين ها الأرض يا خاله؟"
لما سألتنى عرفت أننى اخترت لك قصة لا تليق بطفل مثلك.
-"حمدالله على السلامة يا حبيبى. أمك قالتلى انها مش محتاجة مساعدة
مارجعتش معاكم ليه يومها؟ مش عارفه".

أعرف فقط أننى افتقدتك كثيرا. عندما جئت لتوديعكم يوم العودة، كان يملؤنا أمل ما. بصيص من ضوء يشبه القلق. لم يطل الوقت لنعلم من أين تسلل إلى أنفسنا ذلك الخوف المبهم. يومها ظننا أنا وأمك "أن طول التضحية يجعل من القلب حجرا". لم يكن ظننا فى غير محله تماما. لكننا كنا نعلم أن تحقق الأحلام على أرض الواقع يجىء بالواقع إلى أرض الأحلام، فتريبنا ولم أقل أنا "حتوحشينى" ولم ترد هى "زورونا" كما تعودنا بعد كل زيارة. حتى هذه "اللازمة" الحزينة، صارت خطر على نحو خفى. سقطت من الحلم فعصيت على الواقع.

كتبت لى أمك مرة واحدة. ومرة واحدة أخرى سمعت صوتها فى التليفون وكنتم قد أصبحتم تحت "القصف" اليومى. لم تقل شيئا أمك. لم تقل كم تعانى، كم عانت. لم تقل كم أحبطت.
أو قالت ولكن كأنها لم تقل. نبرات صوتها تحولت تماما. قبل العودة كان صوتها يعلو و يهبط مثلما تعلو و تهبط الأصوات وهى تحاول بث الروح فى الكلام. بعد العودة فقدت تلك السمة وأصبح صوتها تقريريا محايدا. تتحدث عن أكثر الأمور مدعاة للفرحة، الافراج عن أبيك، أو الألم: موت أمها وكأنها تلقى تقريرا مفروضا عليها تحت تهديد السلاح.
-"بيتنا كبير. لدينا سيارة. غزة شارع واحد وسيارات فخمة كثيرة. آخر موديلات. لا يطيقوننا. لا أزور أحد. نحن أيضا ضحينا. صمدنا. لم تكن الأمورسهلة. والله اشتقت كتير للقاهرة."
وبالفعل عدتم فى أول عطلة دراسية.
وجئت إليكم و سألتك: "لماذا لا تكتب لى يا أحمد؟" وكان ردك عجيبا:
-"بيتنا فى غزه زغير جدا يا خاله".
وابتسمت. ظننتها زلة لسان تبرر بها نسيانك لى والوعد.
-"أنت تفضل العيش فى غزة لأن بيتكم هنا ضيق وبيتكم فى غزة جميل وواسع جدا وأنساك القاهرة".
لكنى استوعبت نظرة أمك. نظرة أمك كانت متحجرة على دمعة لامعة برقت لها مقلتيها لحظة ثم اختفى البريق كأنه لم يكن. مثل الوعود الكاذبة، مثل سحابة داكنة تعد بالغيث ولاتمطر.
ولم أرحمها. صرخت فيها:
-إبك يا مره! أبكى مرة واحدة فى حياتك! إنت إيه مش بنى آدم؟!
ولم تعلق أمك. وضعت سكين فى الجرح ولويته بلا رحمة و لم تنبس أمك.

لم أرك بعدها إلا فى طريق العودة الثالثة. كم عودة عدت حتى الآن يا أحمد؟
عدت إلى فلسطين ثم عدت إلى مصر ثم إلى فلسطين ومن قبل عدت مرة إلى يوغوسلافيا ومرتين إلى تونس ومرة عدت إلى الهند واليوم ترحل لأول مرة كما قالت لى أمك منذ برهة بصوتها الذى فقد صداه فى الروح:
-"أه رايح عا انجلتره. شو فيه يسوى هون؟ فكرك أتركه يطلع مع الشباب يضيع عمره برمى لحجاره؟! مش بيكفى واحد؟ بدك التانى كمان يروح؟"

*********
اليوم أوصيك فلا تنسى:
قلب أمك. وجه أخيك. بيت جدك فى "بيت دراس". المرمرية فى القهوة و "جمهورية الضمير". أذكر ولا تنسى أبدا. أن كذب الصادقين يشبه صدق الكاذبين. فاصنع صدقك بنفسك. وقبل كل هذا وبعده تذكر لماذا تركت وإن أنت عدت بماذا تعود.

مارس 2003