من كتاب : " العولمة والاسلام السياسى " 1999

حول الاقتصاد العالمي الجديد

لم يسبق في التاريخ ، أن حدثت مثل تلك الدرجة من التمركز والتركيز ، في رأس المال اللذين نشهدهما اليوم ، ولا أن سيطرت عليه ، مثل تلك القلة من الدول والافراد التي تسيطر عليها اليوم.

دراسة الاستثمارات الرأسمالية في المجالات المختلفة ، تؤدي الى الاسراع بتوسيع الهوة التي تفصل بين الاغنياء وبين الفقراء ، العاجزين عن اللحاق بركب المعرفه . وهذه الظاهره يمكن لأي مسافر الى البلاد الصناعية الكبرى أن يلتقطها بسهوله في جميع المجالات ، ليدرك ما الذي فعله الاستعمار القديم والجديد ، بحياة أغلبية سكان الارض.

وخلال ال 20 سنة الماضية ، ابتكرت وسائل تكنولوجية ، أدت الى تخفيض كميات اغلب المواد الخام الضروريه للانتاج بمقدار الثلث . كانت الصناعة اليابانية هي الرائدة في هذا المجال ، وترتب على ذلك حدوث انخفاض في اسعار ما يزيد عن ثلاثين ماده من المواد الخام الاساسية ، وهو انخفاض ما زال مستمرا يؤدي الى تقليل الطلب على هذه المواد . هكذا اضيف عنصر جديد ومهم الى التحكم الاحتكاري في الأسعار ، كان القطن احد ضحاياه . في الوقت نفسه ادى التقدم في اساليب الانتاج الحديثة ،  واعتمادها المتزايد على التشغيل الآلي للمصانع واستخدام العقول الالكترونية ،  الى تقليل الاحتياج الى الأيدي العاملة .  ومعنى هذا ان المميزات التي تتمتع بها بلاد الجنوب وهي ثرواتها الطبيعية ،  الى جانب وفره ايديها العامله ورخص اجورها ، تفقد قيمتها في ظل التكنولوجيا الحديثة بسبب انخفاض الطلب عليها.

ان عمليه الخصخصة التي تتم في بلادنا ، تعني انتقال السيطره الكاملة على اقتصادنا الى الشركات المتعددة  الجنسية ، التي تسعى دائما الى الاستفادة من هذا التقدم التكنولوجي بشكل مكثف ، تعني تهميش اقتصادنا وانحدار قيمتنا في ظل النظام العالمي الجديد.

ان التحكم في السوق و المضاربات والتلاعب بمقدرات الاقتصاد في البورصات ، كلها عمليات تعتمد على وسائل الاعلام الحديثة وعلى وسائل الاتصال الفضائية المتقدمة ، التي تسمح باجراء الصفقات الضخمة في لمح البصر . وهذا كله يحقق مصالح الأغنى والاقوى ، على حساب الشعوب الفقيرة التي لا تملك الا قدرا ضئيلا من الوسائل الحديثة.

وجميع هذه الامكانيات العلمية والتكنولوجية ، تسهل عمليات الدمج والاستيعاب وامتصاص للمشاريع والمؤسسات الاضعف ، وتسهل عمليات السيطرة والتحكم عن بعد ، والاداره الخاضعة لرأس المال المتمركز في العواصم العالمية .  هكذا يصبح النشاط الوطني في مجال الاقتصاد ، سواء كان خاضعا للدوله أو للقطاع العام أو خاضعة للأفراد ،  مهمشا . وتنتقل السيطرة للشركات الدولية ن  وتتم التضحية بالسوق المحلي ، وبالاغلبية الكادحة الباحثة عن قوت  يومها .

هذا هو النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، الذي يتحدثون عنه . ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد .  انه يعني تطورا مستمرا في وسائل النهب ، لصالح راس المال المتمركز في بلاد الشمال ، ومنها دوله صعدت الى المرتبة الثانية بعد امريكا ،  وان كانت تنتمي جغرافيا وثقافيا الى الشرق ، دولة اليابان.

ماذا تعني اعاده البناء الهيكلي ؟

........................................

في عصر كهذا ، لم تعد كلمات مثل القرصنة،  أو النهب ،  تتداول في المؤسسات الاقتصادية  والعلمية للعواصم الغربية ،  أو المحافل او المؤتمرات ، أو الجامعات التي تدرس وتبحث وتناقش شؤون العالم . الآن ، حلت محلها كلمات جديدة  متحضرة مهذبة ، مثل العولمة ، و القروض ، و الاستثمار ، والتجارة الحرة ،  و التنمية ، و اعاده تركيب البناء الهيكلي.

ولكن باسم هذه العمليات جميعا ، وخلال السنين الممتدة من 1987 حتى 1997 ،  كان مجموع الاموال التي انتقلت من الجنوب الى الشمال ، اثنى عشر ضعف الأموال التي استثمرتها الولايات المتحدة ، في اوروبا لتعيد بناء اقتصادها بعد الدمار الذي اصابها اثناء الحرب العالمية الثانية ،  ومن بين هذه الاموال مائتا بليون من الدولارات ، انتقلت من بلاد الجنوب الى البنوك التجارية ، في المراكز المالية الكبرى اثناء الفتره نفسها .

ان العملية التي يطلق عليها البنك الدولي اعادة هيكلة الاقتصاد ، والتي تُطبق في عدد كبير من بلاد آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ،  ليست الا تطويرا لأساليب النهب القديمة ،  وجزء من النظام العالمي الذي يستنزف امكانيات الجنوب لصالح بلاد الشمال الغنية .  انها لا تخرج عن كونها عملية إبادة اقتصادية ،  تشبه التطهير العرقى ، وتتم على نطاق اوسع بكثير ، وبوسائل تخفي حقيقه ما تؤدي اليه . دولرة  الأسعار في هذه البلاد ، اي رفعها الى المستوى السائد في بلاد الشمال الغنية ،  ركن اساسي في السياسات الاقتصادية ، التي اصر البنك الدولي على تطبيقها . هذا بينما متوسط الدخول في الجنوب ، يقل عن مثيله في الشمال سبعين مرة .  فبائع التجزئة في امريكا ، يتقاضى اجرا يساوي أربعين ضعف اجر العامل الصناعي في مصر . اجر الطبيب المبتدئ في امريكا يتراوح بين 1000 و 1200 دولار ن بينما نظيره عندنا لا يزيد مرتبه في الحكومه عما يعادل 40 او 50 دولار . وهذا يعني ان اعاده الهيكلة هذه ، ستدفع بالأغلبية الساحقة من السكان في بلادنا الى مشارف الجوع ، بسبب الاختلال الخطير بين الدخول والاسعار.

امريكا ومنطقة الجات ومنظمة التجاره العالمية  التي حلت محلها ،  ترفع شعار التجاره الحرة .  هذه ليست حرية الرأسمالية ضد الاقطاع  ، ولا تعني اطلاق الامكانيات ، كما كانت تعني في المراحل الاولى للثوره الصناعية .  وانما تعنى حرية الكبار،  في التهام كل منْ هم اصغر منهم ...  حرية الشركات المتعددة الجنسية ،  في فتح السوق العالمي امامها ، ورفع الحواجز والجمارك والدعم واشكال الحماية ، التي كانت تبقى الكثيرين على قيد الحياة ،  وتسمح لهم بمزاولة نشاطهم الانتاجي و الخدمي و التجاري . التجاره الحرة ،  تعني استغلالا بشعا للفقراء ومتوسطي الحال . فمثلا الشركة العالمية نايك في اندونيسيا ، تعتمد على تشغيل قوه عاملة نسائية ، ويصل اجر العاملة مقابل جهدها الى 12 سنتا لكل زوج من الاحذية ،  اي 12 سنتا من الثمانين او المائة وعشرين  دولارا ، التي تشكل سعر البيع في المحلات.

البن المحمص يُباع في السوق بعشرة دولارات للكيلو في اسواق البلاد المنتجة . بينما سعر البن الاخضر هو دولار واحد فقط للكيلو .  فأين تذهب الدولارات التسع ، التي هي فارق السعر بينهما ؟ . يتقاضى الفلاح الذي يزرعه من 25 الى 50 سنتا للكيلو ،  ويُقتطع مبلغ 50 الى 75 سنتا لمصاريف النقل وارباحه ولتغطية  ارباح التجار المحليين .  اما التسعه دولارات ، فهي نصيب شركات التجارة الدولية والموزعين وتجار الجملة والتجزئة في الغرب . وهذا يعني ان نصيب الفلاح المنتج ، هو جزء من أربعين جزءا من سعر البيع (10 دولارات للكيلو) وهذا الجزء يدفع منه الفلاح ايجار الارض والقروض وأجور عمال ومصاريف الزراعة الاخرى .

المقاييس نفسها تنطبق على زراعه القطن ، الذي يبيعه المزارع للمنتج بسعر 350 جنيه للقنطار سنه 1998 ، فيصل دخله من هذا القنطار ، الى ما

يقرب من 75 جنيها ، اما سعره في السوق العالمي فيتضاعف ليصل الى ما يعادل 1000 او 1500 جنيها ، وتحققق منه الشركات العالمية ووكلاؤها ارباحا طائلة.

هكذا تتحدد الاسعار والأرباح ، في ظل الاحتكار العالمي الذي يطلقون عليه اسم التجاره الحرة . وهكذا تتم عمليه النهب تحت شعارات المعونة والتنمية واعاده بناء الهيكل الاقتصادي للبلاد النامية.