حضارة السؤال وحضارة الجواب

حضارة السؤال وحضارة الجواب

دراسة لعلي محمد تعليقا على كتاب أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي للباحث العراقي علاء الدين الأعرجي " كل ما فعلته هو أنني طرحت بعض الأسئلة" أينشتاين ----- 1 ----- ورث الإنسان من الطبيعة غريزة التركيب(اللعب)، ومحركها السؤال، وغريزة التثبيت مفتاح التملك (حيازة الجواب)، ولم يكن ذلك استثناء تفرد به على محيطه، فقد عرفت الفيلة والضواري السؤال والجواب وطورت الطيور والحشرات أدواتها البيولوجية(جوابها) من أجل البقاء. خلال حقبة عيشه كصياد ارتهن بقاءه كنوع باستخدامه لأدوات خارجية نابت عن أدوات طبيعية غير متوافرة لديه. وهو وحده من نزع تطوره إلى اختيار دعم مهاراته كصانع لأدوات خارجية تقوم بدور تلك البيولوجية اللازمة للصيد، ووحده من ازداد ارتهان بقائه مع مرور الزمن بتوافر تلك الأداة، ووحده من ستنقطع طرق عودته إلى الوراء. فتميزه كان الاغتراب عن أصوله وفي الاغتراب سيبحر وشراعه سؤال. على العكس من ذلك تطورت بعض الحشرات. فردا على الموت القادم من الخارج جاء الجواب درعا بيولوجيا للحماية، جوابا لكل زمان ومكان 00بيتا ستولد تحت سقفه حضارة هي الأسبق إلى ممارسة الاستعباد، و بين الدرع وبين الاغتراب سيتأرجح نواس الحضارات. انقضت بضعة ملايين من السنين قبل أن تظهر أفضلية الإنسان كصياد، لكن ما أن ظهرت حتى راحت تتطور بإيقاع يتسارع. صار القاتل الأول. لكنه رغب وأراد ما هو أكثر من ذلك؛ ربما أن لا يكون طريدة بعد اليوم، أن لا يجوع وأن لا يبرد في المستقبل، وربما أن لا يموت. بزغت نزعته لاحتواء ما حوله وبدأ لعبته الجديدة؛ رسم صور الحيوان على جدران الكهوف مجسدا عوز الأكل، وتوقه لاحتواء ذلك العوز. ارتقت اللعبة مع الزمن، فوشمت الغاية الواقع وغدت حضارته صدى لها، وتحول الصدى إلى سجن. كان الاغتراب هو التربة التي استنبت فيها حضارته، وكانت فكرة عوز طاقة البقاء(الأكل والشرب والمسكن 00الخ) ونقيضها: فكرة سد العوز، كانتا معول تلك الحضارة. قاده اللّعب (طرح الأسئلة) إلى اكتشاف إجابات: حولها إلى ثوابت في معرفته ومعاشه، وكان امتثاله لها في البدء اختيارا. فقد شارك الكل في صياغتها أو أنها نبتت من حياة الكل. هكذا استمر الحوار بين السؤال والجواب؛ فما أنبتته المواجهة في حقبة الصيد هو غيره في الرعي و غيره في الزراعة. القوانين الناظمة لحياته كنباتي* لم تعد كلها تتناغم مع نظم حقبة الصياد، فاكتشف ثوابت جديدة حل بعضها مكان تلك القديمة، وحلت لحظة الانعطاف الرئيسة الثانية في التاريخ البشري: تنوع الوظائف الاجتماعية ولكل منها ناظمها، وللتنسيق فيما بينها ناظم، وأبدا ما عادت كل النظم تنبت من حياة الكل، وما عاد الخضوع لها اختيارا أو تكيفا يهذبه الزمن بل صار توافقيا وقسريا، وأصبح الإنسان منافسا للطبيعة كمصدر للخطر الذي يهدد الإنسان، ووسم القسر والإكراه الحياة. نضجت خميرة العوز وولدت حضارة المدينة 00 حضارة المركز. لألاف من السنين كان هم تلك الحضارة دفع مواصفات منتجها الرئيس الذي هو ذاتها، لتشكل مركزا مطلق القوة، وفردا ومحيطا يؤمنان بأن القوة تتواجد في ذلك المركز حصرا، ومنه(من المركز) ستستجدى الرحمة والعطاء لاحقا. بداية قام ذلك على سحب القوة من الفرد ومن المحيط وحشدها ليمسك الملك وحاشيته بكل أدوات الفعل دافعين كل آخر إلى خانة الطاعة، وكان ذلك مغايرا لطبيعة الصياد والراعي، فوظف عنف هائل الضراوة لقسر تلك الطباع. اكتشف الإنسان البشاعة، وتحول الواقع إلى ثقافة ثم إلى ارث وغدت العبودية شرعية. والعبد هو التجسيد الأمثل للعوز فهو يعرف سيده حق المعرفة ويؤمن بما يعرف. أما المركز السيد أو السائد فهو التجسيد الأمثل لسد العوز. لقد صنع الإنسان من حضارته صورة لما يكره ولما يحب، ثم نقش وشمه ذلك على تلا فيف دماغه وبجوار نخاعه الشوكي القديم 00 فاكتشف الفلسفة !.

تابع وكعادته تطوير ثوابته مع تطور طريقة عيشه، كانت تلك لعبته المفضلة ، لكن بعضا من تلك الثوابت اكتسبت صفة الديمومة، وغدت قوة حاكمة للحياة، لجاما شائكا لحصان اللعب فحرض ذلك حافز البحث عن ثوابت أخرى لها نفس القوة أو أكثر 00 فنشأت حضارات على أنقاض حضارات. ربما أمكن قياس تطور الإنسان من خلال تطور ثوابته، و ربما كمن انهيار الحضارات أو انقراضها في ثبات ثوابتها ، في تحول تلك الثوابت إلى دروع تكره لسؤال على التنكر و الاختباء . إذ تتميز فترة تحلل الحضارة باجترار أجوبة سائدة ومألوفة وتحويلها إلى مقدس، وبفقدان المقدرة على التجدد*، وكلما أوغلت الحضارة في الانهيار قل اللعب (البحث) وطبعت أجوبة محددة الفكر والحياة بطابعها، وانقسم المجتمع إلى من يصنع الجواب وإلى من يأخذه جاهزا ويقدسه !؛ يتقهقر الفكر والإبداع، وتفرز القوى السيدة من صفوفها نخبة تطرح الأسئلة وتجيب عليها؛ فيكاد ينقرض السؤال وقد سحب جذره من تربة العامة التي تقيس علمها بما تحفظ من تلك الأجوبة عن ظهر قلب. هكذا يكتمل خط إنتاج صناعة الإنسان البسيط الذي يقف فاغرا فاه من الدهشة ودائما. ليست القوانين اختراعا بشريا(حمورابي أو غيره)، فرحمها البكر هو الطبيعة، و القوانين العامة الناظمة للطبيعة تعبر عن (وتكرس) نزعة الاستقلال عند كل عنصر و ميله لبناء علاقات تشاركيه مع محيطه في آن معا، كذلك بدأت قوانين البشر،لكنها تطورت في حقب لاحقة إلى حالة تعسفية كرست الحاكم على أنه هو القانون!. اكتشف الإنسان الفساد.

*- حسب مذكرة أسقف أوشر (في أوكسفورد بريطانيا) فإن عمر الإنسان هو 4004 سنة. وحسب علم تاريخ الحياة كان الإنسان نباتيا يأكل إلى جانب الثمار والجذور وجبة لحم بين شهر وآخر من صيد سهل تجود به الصدفة. وربما كانت أحواله تلك ستبقى كذلك لولا فترة قحط مديدة قبل مايزيد عن ثمانية ملايين سنة(سببتها حقبة بينية دافئة من عصر جليدي) وضعته كنباتي أمام احتمال الانقراض، فتذكر وجبة اللحم، وبدا الصيد مخرجا من صقيع الجوع، فمارسه كجماعة في محاولة منه للتعويض عن نقص أدواته الطبيعية كصياد بالمقارنة مع الضواري، لكن ذلك لم يكن كافيا، ومرت أوقات صعبة احتفظ نخاعه الشوكي بتسجيلات لها، فكثيرا ما كان ذلك الصياد الهاوي يتحول إلى فريسة بعد أن بات مكشوفا يكاد يخسر فرصته في البقاء. لكن وربما مصادفة استخدم عظم حيوان نافق وجده قرب فريسة اصطادها لتمزيق جلدها فتساعده الأداة الخارجية في مباراة البقاء تلك، وجاء وقت قرر فيه الاحتفاظ بتلك الأداة في يده يستخدمها لقتل فرائسه، وللدفاع عن نفسه ثم قرر أن يصنعها.

*- يعزى انقراض إنسان نياندرتال لفقدانه التواصل مع جواره وبالتالي الانغلاق على ما لديه لآلاف السنين بسبب حصار الجليد لمنطقة سكناه في آخر حقبة جليدية عرفتها الأرض0

حضارة الجواب وحضارة السؤال

- 2 -

لم ينقطع بحث البشرية عن أجوبة تقبض على الحقيقة كلها، وليس من شاهد على ذلك أفضل من المدافن صروح أحلام الحضارات. عندما حمل ديوجين الإغريقي قنديله في رابعة النهار باحثا عن "الحقيقة"00قالوا جن الرجل، فرسالته الساخرة والعميقة الدلالة تلك، كانت محجوبة ربما بضوء النهار وربما ببريق نفس الإنسان الذي رسم الكون كله على جدران "كهف دماغه" باحثا و بضراوة عن الخلود. في القرنين السابع عشر والثامن عشر كرس عشرات العلماء حياتهم بحثا عن المحرك المثالي وفشلوا، أما بطل القرنين معا نيوتون فقد نظر للأمر من زاوية رؤيا مختلفة. كان نيوتون مؤمنا بأن أسرار الخلق هي نواميس قام الكون بها(بذلك آمن الكندي وسيؤمن أينشتاين)، وتلك النواميس هي المحرك المثالي السماوي المنشأ. ربما لذلك اعتمد نيوتون في بحثه العلمي مرجعية مطلقة(سينفي التطور العلمي صحتها على المطلق لاحقا). نيوتون أيقن أن الإنسان قادر على امتلاك المفاتيح التي تمكنه من بسط سيادته المطلقة على الطبيعة أذا اكتشف تلك النواميس. إذا كانت الحقيقة هي معرفة، وإذا كانت المعرفة مرتبطة بالمقدرة على الوصول إلى إجابات يقينية على الأسئلة، وإذا كان هاجس البشر الذين تما هوا مع حضارة المركز هو القبض على تلك المعرفة(السلطة) فنيوتون هو بلا ريب الجواب الحداثي على ذلك القلق البشري التاريخي. وإذا كانت عقول "كنسية" وغير كنسية قد فكرت بامتلاك مفاتيح الأرض وربما السماء، فإن نيوتن قد اكتشف كيف تسقط المفاتيح وفي حضن من. وما كانت السلطة وفي أرفع مستويات حضورها التجريدي في العقل البشري لتطلب أية إضافة على تعاليم نيوتون الذي بجل وما زال كما لم يبجل عالم من قبل، فهو الأمير وبامتياز. فهو من أكد أن الإنسان قادر أن يعرف ما سيؤول إليه الحال(المستقبل)إذا عرف ما هو عليه الحال الآن(الحاضر)وبدقة تامة. ولأن نيوتن فُهمَ كذلك تم استنساخ النيوتونية في معظم ميادين النشاط المعرفي وصولا إلى النقد الأدبي حيث تم تناول الشعر كقذيفة متحركة تفهم دلالاتها بادراك إحداثياتها، فتمت النشوة، نشوة النصر بامتلاك القصيدة عبر احتوائها في سجن الجواب المطلق الدقة.

في حضارة المركز كانت السيادة دائما هي الهدف، وتطورت أشكالها(العلاقة بين المركز والمحيط) مع الزمن بتطور الجواب الحاكم: في أوروبا وقبل عصر النهضة كانت الفاعلية (السيادة) للمركز وحسب. فكل وزن كرة من الحديد هو وزن مركزها فقط، والذي حلت به قوة من السماء وليس لباقي أجزاء الكرة أي وزن (ذلك ما كانت تدرسه المدارس الكنسية في أوروبا قبل وخلال عصر النهضة). عملية حلول الوزن(القوة) تلك، تتم بإرادة الله ووفق نواميس(مفاتيح السماء الأرض)لا تعرفها ولن تعرفها العامة، فهي من اختصاص الكرادلة، ويمكن بإرادة الله (عمليا الكرادلة) سحب تلك القوة من أي مركز وفي أية لحظة (أقطاب المغناطيس مثلا)إذا عق وإعادته إلى حظيرة الخراف(مسخه). ذلك ما واجهته العلمانية ودحته، وكان السؤال أداتها: قطع مغناطيس طبيعي إلى نصفين، وطرح السؤال: كيف نتجت أربعة أقطاب عوضا عن اثنين؟. أجاب علماء الكنيسة: بأن قوة(من السماء)حلت في مراكز الأقطاب الجديدة كما حلت من قبل في الأقطاب القديمة.

تابع أحدهم القطع، ودائما نتجت عنه أقطاب جديدة؛ وكان السؤال الذي ما زال صداه يتردد حتى اليوم: - هل تتابع السماء ولحظيا أي قطع؟. أجاب علماء الكنيسة(أنذاك) بأجل، لكن بعض الناس أصبح لديهم رأي آخر*. جاءت "القشة" من نيوتون الذي بين في قانونه العام للجاذبية أن العناصر فاعلة بذاتها، وأن فاعليتها تتناسب مع كتلتها : فالتفاحة تشارك الأرض في إنتاج قوة التجاذب وكانت كذلك منذ أن خلقها الله وستبقى كذلك، فالله لا يمحو سطرا كتبه. هل دشنت تفاحة نيوتن انتصار معرفة تقوم على البحث العلمي وعلى نتائجه فقط؟، متوجة جهود مئات من علماء عصري النهضة والأنوار، علماء كان من بينهم المؤمن والملحد ، لكن علمانيتهم لم تكن مؤمنة أو ملحدة فهي تعرف بنفسها وحسب. كانت المرجعية المطلقة في أوروبا(الجواب الفصل) سماوية المنشأ، قبل أن يهبط بها ديكارت ونيوتون و00 إلى الأرض. تتميز العلمانية ( منهج إنتاج معرفة) بكون نماذجها المعرفية مفتوحة على خارجها (تشبه سيرة الإنسان) وقابلة للتطور بتطور البحث، مستقلة عن الرد على الماضي وعن التحكم بالمستقبل، محايدة يدور الصراع فيها وفق معايير واضحة ومحددة ، وقد ارتقى مرجعها مع الزمن ليصبح هو أيضا أنموذج معرفة وليصبح دوره هو ضمانة صدقية البحث العلمي والتوكيد على موثوقية نتائجه من جهة، وعلى قابليتها للتطور من جهة ثانية. الأجسام فاعلة بذاتها، و المركز والمحيط في الطبيعة يخضعان لنفس القانون واللعبة بمتناول الجميع وعلى قدم المساواة: ذلك ما قالته العلمانية وتحول القول إلى فيض غمر منابر الفكر والفن والأدب، فولدت تيارات ومدارس جديده ساهمت بتسرب ذلك الفيض إلى كل خلايا المجتمع، وانبثق سؤال بسيط صاعدا من القاع، ما لبث أن أصبح هوية للمجتمع: لدينا قوة 00لماذا لا نشارك في اللعبة؟. وجاء الجواب وعلى أرض الواقع: تحرير كم هائل من طاقة المجتمعات الأوروبية، طاقة هزمت كلا من المركزية الكنسية والإقطاع. نهضت حضارة جديدة ثم اندفعت لتغزو العالم وتسود، فالعلمانية كانت ولم تزل مولد الطاقة الجبار لحضارة الغرب الحديثة. كان مخاضا صعبا استهلك قرونا من الزمن، وملايين الأرواح، وكان السؤال هو البويضة والنطفة والقابلة إذا جاز التعبير. كم هائل من الأسئلة تناولت كل مألوف ومقدس ومجهول، ولئن كان العلماء والفنانون والأدباء رواد البحث عن السؤال؛ فإن المجتمع برمته قد عاش تلك الملحمة وتفاعل معها عبر ذلك الزمن المديد، فولدت فيه أدوات التغيير واكتشف المحرك البخاري والمواطن ومؤسسة العقد الاجتماعي والمقصلة. سيسود نموذج جديد لحضارة المركز، فكما هو مألوف تولد توليفات من القديم ومن الحديث، ويأتي من يسعى لتحويل الجواب الجديد إلى ملكية خاصة، إلى مقدس يقمع السؤال00 ذلك الجذر الطبيعي الذي احتفظ به الإنسان خلال مسيرة اغترابه الطويلة كصلة رحم مع الطبيعة الأم. وستجد تلك المحاولات بعض الخيوط لنسيج شباكها في نفس ميكانيكا نيوتون التي ساهمت باكتشاف جواب التحرر من مركزية الكنيسة.

*- ربما شكل هذا السؤال موجة ولدت موجات لم تتخامد حتى اليوم، وربما كان هو محرك حركة الاصلاح الديني في أوروبا التي كانت واحدة من بين عمد رئيسة أسس عليها عصري النهضة والأنوار. المسلمون عموما وحتى اليوم لم ينجزوا الإصلاح الديني، رغم جهود حثيثة وصادقة بذلت أحيانا وتبذل من قبل رواد للفكر. تم ويتم احتواء تلك الجهود وللأسف من قبل السلطات والسياسين الذين يخشون الطرح المباشر والعلني للسؤال لأنه قد يكون الكاشف لانتهازية سياسية تستثمر الدين، ولأدبيات كثير من الحركات تستخدمه كجسرللعبور إلى السلطة. بينما يرى أخرون أن الإيمان بالدين لا يدرك بالسلطة بل قد تدرك السلطة العادلة به وبغيره من الرسالات السماوية والفلسفات الوضعية.

حضارة السؤال وحضارة الجواب

-3 -

أشار نيوتون إلى أن مصدر قوة رد فعل جسم ما، هو إملاء من الكتلة الأرضية وبمجملها للمحافظة على التوازن العام، ناهيك عن أنه يزول تماما في لحظة زوال الفعل. أي ليس للتفاح ذاكرة !. في عام (1834) تحدث العالم الألماني لينز lenz عن رد الفعل في الدارة الكهرطيسية: " القوة المحركة الكهربائية المتحرضة نتيجة تغير الفيض المغناطيسي يكون اتجاهها دائما بحيث أن الأثر المغناطيسي للتيار الناتج عنها، يعاكس تغير الفيض المولد لها ". أي أن رد الفعل يحاول إلغاء تأثير المؤثر الخارجي الذي تسبب بزعزعة الاستقرار الآني للدارة. رد الفعل هذا هو فعل؛ فعل يسعى للحد من تسلط القوة الخارجية المؤثرة على الجسم، ويؤسس للاعتراف بذاكرة التفاح؛ و ستنمو صيغة لينز وتتطور لتغدو ما يعرف لاحقا، بقانون الكبح العكسي الذي يبين أنه: عندما تنطلق أية عملية فيزيائية، ينطلق وفي نفس اللحظة كابح لها ينمو بنموها، وستعترف الحضارة البشرية الحديثة بأن للجماد وللنبات ذاكرة، وأن أثار الفعل لا تتلاشى بانتهاء الحدث، بل أنهما معا يشكلان إضافة للزمكان. وبناء عليه وعلى غيره ستسحب الفيزياء في المستقبل اعترافها باللانهاية وبكل مرجعية مطلقة. كان نيوتون عالما طبيعيا فذا، لكن ربما أعاقه قليلا ولاء ه لحضارة المركز، فمفهوم القوة الذي صاغ به نموذجه للكون بدا وكأنه قادم من فيالق الإمبراطورية الرومانية لينصب حاكما جديدا للكون ووفق معيار بسيط : من يحوز كتلة ضخمة يتساقط في حرجه كثير من التفاح*. ربما لذلك كان نقد العالم الفرنسي لابلاس (وفي بحثه عن نموذج للكون) حادا ومباشرا لأفكار نيوتون :"كل ما فعله نيوتون هو استبدال أفكار أرسطو الظلامية بأفكار ظلامية من عنده ". ويحدد لابلاس الظلامية : "القوة التي جاء بها نيوتون هي أداة للتسلط"، و بعد قرن ونيف من لابلاس وعلى نفس الوتر سيعزف الفيلسوف الإنكليزي بيرتراند راسل في مؤلفه ألف باء النسبية : " لقد فصل نيوتون الكون على مقاس الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس؛ في المركز الشمس ـ التاج ـ وحوله تدور الكواكب ـ المستعمرات ـ ". خطاب قوي لراسل يشفع تساؤلنا: هل ساهمت أجوبة نيوتون ذات اليقينية المطلقة في نشأة نماذج جديدة لحضارة المركز؟. ما يمكن تأكيده هو أن الغرب التقط من العلمانية أهمية وضوح ودقة المفاهيم وسيادة معاييرها كشرط لعمل مولد الطاقة الجبار؛ إذ يمكن لمراقب حيادي أن يصف الصراع على السلطة في القرن العشرين؛ بأنه كان صراعا حول كيفية إدارة ذلك المولد؛ من يشرع القوانين ولمصلحة من، وبأنه تطور في منحيين رئيسين: ليبرالي وموجه، آمن كل منهما بأهمية وجود نظم حاكمة (سيادة القانون) كضرورة لإنتاج طاقة فعل لمشروعه. قد يتابع المراقب الوصف فيقول: بحثت الليبرالية بداية عن عوامل ثقة الفرد بحساباته الشخصية من أجل تطوير الفاعلية في كل الميادين وصولا إلى توطيد المواطنة، وإيداع كل ذلك في حساب النظام الديمقراطي، وبحثت الموجهة عن عوامل ثقة الفرد والجماعة بحسابات القيادات وصولا إلى تطوير فاعلية القائد في كل الميادين. وربما يقول المراقب أيضا أن كلاهما وجد في كون الأجسام فاعلة بذاتها منبعا لطاقات جبارة حجبتها القرون الوسطى التي اكتفت نظمها بما كان متوافرا لديها، والذي لم يعد كافيا بعد !. إذا كانت العلمانية هي أحدث جهد بشري للخروج من مصفوفات المركزية المطلقة السلطة، فإن احتواء المركز للعلمانية كان هو الكابح العكسي لها ففي مواقع كثيرة صارت العلمانية أداة يشغلها المركز لصالحه وفي حصان العلمانية القومي والعرقي والنخبوي صاغت النازية إجاباتها المطلقة؛ فهتلر الفوهرر(القائد) كان يمثل بشخصه الجواب الفصل على الماضي(الهزيمة) وعلى الحاضر(النصر) وعلى المستقبل (السيادة) كذلك كان موسوليني وستالين والقائمة طويلة. ما هو مشترك بين تجارب الجواب لأولئك على الرغم من اختلافهم عقائديا وأخلاقيا حتى التناحر؛ كان تأسيسها على مرجعيات مطلقة وفرض تلك المرجعات على مجتمعاتها بالإكراه. عبر العلمانية قدم الفكر الاشتراكي ( كاوتسكي – لينين ) مقولة: إن الوعي الطبقي يأتي البروليتاريا من خارجها، وأن الحل هو عبر حزب قائد يتولى الأمر!. في كتابه ( نحن والغير) يقول بوعلي ياسين معلقا على ذلك : "النظرية تبدو مقنعة في الظاهر، ومما يزيد من الاقتناع بها كونها صادرة عن مفكر وقائد عظيم مثل لينين لكنها في الحقيقة خاطئة من أساسها، لأنها تعتمد مصدرا واحدا للوعي وهو الثقافة ، وتتجاهل المصدر الأهم والأقدم ، وهو العمل 0 إن هذه النظرية غريبة عن الفكر الاشتراكي". من أين جاءت تلك التوليفة !؟،آثمة جذر لها في ميكانيكا نيوتون؟، و آخر في أقطاب المغناطيس الكنسية؟. سبق للفكر الاشتراكي أن أكد وجود الطاقة في كل تفاحة من تلك التي تشكل الطبقة العاملة، وأن التفاحات ستكون قادرة إذا اتحدت على تغيير الواقع لصالحها (يا عمال العالم اتحدوا)، لكن ولاحقا لذلك النداء،(وفي مطبخ اشتراكي)، ولدت فكرة أن قوة الطبقة العاملة بحاجة إلى تفعيل من خارجها. كان العمل على سحب فاعلية التفاحة إلى خارجها قد بدأ، وتبنته الرأسمالية كدين لها، فتم ربط الفاعلية بالقرار00 بالأمر(بالقوة) ، والأمر بيد الكتل الكبيرة فقط ، لا بأس أن يهنأ الفرد بفاعلية نفسه طالما أنهم هم يقبضون على مصير تلك النفوس بأيديهم، وهاهو الفكر الاشتراكي يعتنق الديانة نفسها !، ومن قمة هرمه سيراقب بيريا الفيزياء كما لو أنها عدو محتمل، فعلى الفيزياء كما على كل معرفة أن تتطابق مع عقيدة الحزب القائد، وكل فكرة تنبو عن ذلك تتهم بالزندقة وبالإلحاد بالحزب وبالدولة. لماذا الفيزياء تحديدا؟: لأن النظام قرر تجميد كل نمو أو تطور للعلمانية معلنا نفسه هو التجسيد الحي للعلمانية. لعقود ستتوارث أجيال ذلك النهج!. مكرسة حقيقة كونها هي من يمتلك المعرفة وفي كل ميادينها، ولدى القادة منهم (كما بعض الأولياء الصالحين)الجواب على كل سؤال . من أين أتت الشرعية لذلك ؟. جوابنا هو: من الوعي 00من وعي فن السلطة ، وليس بأية حال من وعي الطبقات المسحوقة لذاتها. إنها سلطة المركز بكل ما راكمته من حرفة وعراقة، وبكل ما سيضيفه إليها الحزب القائد من إبداعات اشتراكية، كي تنتصر "سلطة الطبقة العاملة"، أي سلطته هو على سلطة المركز الرأسمالية00 كانوا على حق؛ فكيف للطبقة العاملة أن تعي خلاصا لها في سلطة المركز؟، وخلاصها في اللامركزية؟. من أين جاءت تلك التوليفة؟. ربما الجواب المتاح هو : من كابوس العوز00 من التاريخ البشري كله. في التاسع عشر حذر أحد مؤسسي الماركسية ( أنجلز) وفي كتابه الشهير الديالكتيك من "استنساخ" النيوتونية في الكهرباء ومن اعتماد مفهوم القوة لتفسير الكمون الكهربائي، ونبه بأن ذلك خطأ ستترتب عليه إن حصل؛ أثار سلبية في الحاضر والمستقبل. تم الاستنساخ وأظهرت الأيام أن أنجلز كان على حق(على الأقل تلك المرة)، فالكمون الكهربائي لجسم ما بالمفهوم النيوتني هو(ودائما) قوة يحقنها فيه منبع قوة(مفاعل قوة) خارجي، والكمون الكهربائي كما نعرفه اليوم من الكوانتية هو: طاقة ذاتية للجسم يسعى بها إلى العودة لمستوى طاقة غير ذلك الذي دفعه إليه المؤثر الخارجي، والجسم سيفقد حالته الفيزيائية (ينهار متحولا إلى آخر) عندما يكف كمونه أن يكون طاقة ذاتية تصطف لتواجه الطاقة الخارجية. أي أن هناك ثمة هامش للعب بين الداخل(الذات) وبين الخارج(المحيط) ينتج ماهو تشاركيا بينهما(التاريخ). وتبقى التشاركية في صنع التاريخ قائمة طالما لم ينحى أحدهما لتدمير الآخر(إلغاء). فمن ذلك اللعب بين الهيدروجين والأوكسجين ينبثق الماء، لكن أحدهما لا يلغي الآخر بل تبقى الفرصة قائمة لعودة كل منهما إلى حالته الجوهرية. بينما يؤدي اللعب الخشن إلى فلق ذرة اليورانيوم وإلى انفلاق شجرة واحتراقها(موتها) وقد عجزت عن صد طاقة كهرباء الغيوم. هنا تنتهي التشاركية ويكتب التاريخ بريشة طرف واحد. المحرك في الطبيعة(السؤال)هو فرق الكمون؛ بين الجوع والشبع، بين الخوف والأمن، بين طاقة النبتة للنمو وبين حجمها، بين حاجتها للضوء والحصول عليه، بين شحنة الغيمة الكهربائية وبين الأرض، بين السخونة والبرودة. والعمل الذي تنتجه الحركة يحدث تغييرا في الواقع الموضوعي نسميه التطور، ونظرية الصراع الطبقي مؤسسة على فكرة فرق الكمون. على أن الطبقة العاملة قادرة إن هي اصطفت بشكل منتظم أن تصد حقل طاقة الرأسمال الذي يسعى دائما لمنع ذلك الاصطفاف وبالتالي المحافظة على امكانية تحكمه وتوجيه طاقة أفراد تلك الطبقة لنموه هو، محاذرا ما أمكن تدمير ا شاملا لتلك الطبقة والمحافظة على قوة كافية لانتاج الحليب لقهوته. بالطبع هناك استثناءات(هنود أمريكا الشمالية وقطعان البوفالو). الحزب القائد (الطليعة) قال بأنه هو الشرط الذي لا غنى عنه لانجاز اصطفاف الطبقة العاملة. مقدما نفسه كمفاعل قوة يستمد طاقته اللازمة لهزيمة الرأسمالية الإمبريالية من احتواء الطبقة العاملة داخل جدرانه(بإيمانها به). حيث يتولى هو تنظيم تفاعلها "بقضبان كادميوم" من بنات أفكاره. أي أنه طرح نفسه كمفاعل قوة خارجي لا بد منه لشحن أقطاب مغناطيس الطبقة العاملة بالطاقة. يبدو وكأن الماركسية عارضت مسبقا فكرة مفاعل القوة الخارجي ووعت وجود الطاقة عند كل فرد، كما وعت تواجد نزعة مركزة السلطة عند الجميع ووعت أهمية إيجاد آلية لكبحها، ولا غرابة بالتالي أنها دعت الناخب ودائما للسعي لإمتلاك المقدرة على عزل من سينتخب ممثلا له وفي أية لحظة. فالمنتخب هو دائما مشروع مركز، والمركز هو الجواب الذي يحمل دائما إمكانية التحول إلى درع، إلى مقدس، إلى متسلط أو مستبد ولا محل للائتمان في أمر كهذا، وقد عابت على الرأسمالية سقف ديمقراطيتها المنخفض وحذرت من إمبرياليتها الصاعدة ومن فاشيتها الكامنة ومن مفاعلها الجبار؛ رأس المال المالي الذي سيغدو محقن القوة ومحدد القيمة الرئيس لكل شيء في الكرة الأرضية. حذرت الماركسية لكن الأمور سارت في منحى آخر، فقد اكتشف رأس للوعي "الحزب القائد". ما حصل في الواقع هو أن محقنا جديدا للقوة وقف إلى جانب محقن الرأسمالية وتعاونا معا على حماية حضارة المركز. اليوم تحتفظ الدلالات بمعانيها إذا استعضنا عن الطبقة العاملة بالمجتمع البشري كله مستثنى منه شريحة صغيرة تمثل مفاعل القوة الحاكم والمسيطر. فلقد تطور الفساد ويتطور بتسارع كبير وسيستمر مالم تبدع المجتمعات طريقة مناسبة للاصطفاف. وربما ذلك ما تسعى إليه الحركة المناهضة للعولمة المتوحشة. الإبداع الذي أسس له في الحضارة السومرية والإغريقية وغيرهما وصولا إلى اليوم.

* - ربما ولدت فكرة الحزب القائد ، والحلم الأمريكي من رحم واحدة.

حضارة السؤال وحضارة الجواب

- 4 -

سيعرف القرن العشرين مبجلين ومنتقدين لنيوتون، وفي طليعتهم أينشتاين الذي برهن أن القوة ليست كمية فيزيائية، فاقتلعها من صالون الفيزياء ليضع مكانها الطاقة، فسقطت التفاحة على الأرض اختيارا وليس قسرا، لأنها وككل الأجسام في الطبيعة؛ لديها الميل لأن تكون في أدنى مستوى للطاقة متاح لها، فالصراع في الطبيعة يدور حول الهروب من امتلاك الطاقة وليس على التواجد في المركز(بيت الطاقة البشري). وفي إسهام آخر يحرر أينشتاين مساحة جديدة من الوعي البشري لصالح اللامركزية؛ حيث سيصف بضعة مراقبين لحدث ما، ومن مواقع رصد مختلفة له، سيصف كل منهم الحدث ببيانات تختلف عن بيانات الآخر، ولن يكون أحدهم أقرب إلى الحقيقة من سواه. لم يعد الاعتراف بالآخر وبشرعية رؤيته المختلفة ونديتها فروسية أو تفضلا أو تحضرا؛ بل احتراما للنفس وابتعادا بها عن الجهل والغرور ووعيا لحقيقة أن ارتقاء المعرفة يتأتى من تكامل المعارف. في المؤتمر الأول لعلماء الكوانتوم في كوبنهاكن عام 1927رد الاعتبار لقنديل ديوجين : "إن الطبيعة ليست كما نراها ، فما نراه مرتبط بمقدرتنا على استجوابها" ؛ لحظة انعطاف رئيسة في تاريخ المعرفة تلك التي صنعها علماء الكوانتوم، وهي بالطبع لا تكمن في استجواب الطبيعة(السؤال)؛ بل في أن كل ما لدينا من أجوبة لا يمثل الحقيقة. قفزة رائعة أخرى للعلمانية، فالدعوة الصريحة للتواضع ستؤسس لارتقاء لاحق قبل نهاية الثلاثينات، حيث سيسدد هايزنبرغ دبوسا إلى بالون الاستكبار البشري ببرهانه على عجز البشر عن الحصول على أية إجابة تامة الدقة عن أي شيء(مبدأ الريبة)، لقد أضاء من جديد قنديل ديوجين(عقل ديوجين) فقد سقطت قدسية الجواب. هكذا سحبت إمكانية استثمار القصيدة كمقدس من قبل الشاعر والناقد معا فطريق الجواب الفصل بات مسدودا؛ وهكذا بدأ هجوم لن يعرف التوقف على الفكر الجمعي الذي يهدف إلى خلق كتل بشرية تزداد طاقة فعل مالكيها أو قادتها كلما عظمت (نيوتون)؛ فالمعرفة في السؤال 00 السؤال الحر المتطور أبدا الذي لا يقبل التقديس ،السؤال هو الكمون والكمون هو القلق والقلق صفة موحدة لعناصر الطبيعة الحية والجامدة على حد سواء وما الجواب إلا محطة مؤقتة وعابرة لاسترداد النفس من أجل البحث عن أسئلة جديدة. يتسع السؤال لحضور لكل مكونات الطبيعة ويلحظ حضور كل فرد. فكل فرد هو حالة لا تماثلها حالة أخرى في الزمكا الزمكان ولن تتكرر. والسؤال لا يكرس القادة، بل ديمقراطية لا تكف عن الارتقاء، فالكون برمته يتأثر بحركة جناح فراشة.

من مرجل السؤال انطلقت دفقات الطاقة لتحرير مزيد من خيارات وفاعلية الفرد، فتمكن من رؤية نفسه والآخر بوضوح أكبر. حررت ملايين الأسئلة من معتقلات الجواب الفصل فنفس البشر بعضا من الضغط الذي كان يفتك بهم وأعتقت حياتهم اليومية من كثير من الثوابت التي كانت تكبلها. لقد ساهم السؤال في هدم محاولات الإنسان تحويل نفسه وفكره إلى مقدس (شقي)، ودفعه ليرى سعادته في التخلي عن وهم كونه مركزا للكون. وسقطت في السياق محاولات كثيرة لفصله عن الطبيعة، ولم يعد تعريفه بالعاقل مميزا له وقد كتب العشرات عن خيال وذكاء الطبيعة التي كانت توصف بالجامدة، وسقط تقسيم ديكارت للكون بلا رجعة. وانطلقت البشرية باحثة عن فلسفة موحدة جديدة(فلسفة البيئة) تسعى لتوحيد كل ما هو موجود وكائن من إنسان وحيوان ونبات وجماد. فماذا عنا؟. حضارة العرب اليوم هي حضا رة جواب مترهل، وهي كذلك منذ قرون بل يمكن القول أنها جوابية ما قبل النيوتونية، فاللعبة فيها لا تقوم على سيادة القانون بل هي بيد سادة القوانين. لم ننجح في إقامة صلة مثمرة مع مرجل الحضارة الذي فاض مرارا بما هو مفيد واكتفينا منه بالزبد، وكنا قد أهدرنا فيضنا القديم، بل شوهناه حتى بات من الصعب التعرف عليه.

في حضارة الجواب العربية00 الفرد ومهما ارتفع شأنه يظل مهددا بأن يصبح صفرا في أية لحظة، فرياضياتنا في عصور الانحاط المديدة تألفت من رقمين فقط: صفر ولانهاية، وربما هذه هي المواصفة الوحيدة المميزة لنا ومنذ قرون. في الغرب: في مشروع بناء حضارة السؤال إذا جازت التسمية (مرحلة تحول) أنجز رفع الحد الأدنى فلم يعد الصفر من نصيب المواطن بحال من الأحوال، وتم شد الحد الأعلى إلى أسفل فلم يعد المطلق من مفردات السياسة والاجتماع، وتمت حماية تلك الحدود.

محاولات النهوض بالحضارة العربية الإسلامية فشلت كلها(العلمانية والدينية)، ربما لأنها كانت جوابية الأصول والفكر والمنهج، و ربما لأنها اهتمت باستثمار تلك المواصفة أكثر من اهتمامها بتغييرها. عموما كانت كلها أو معظمها(وما تزال) محاولات للتغيير من الأعلى من الرأس، بل ومعظمها هدف لتغيير الرأس فقط والحلول مكانه. هكذا فإن من وصل إلى السلطة لم يجد بمتناول يده أدوات يسند إليها مهمة التغيير( في حال توافر الرغبة بالتغيير)، فاتكل وهو "مكره أو بطل" على أدوات أسلافه اللذين أطاح أحدهم بالآخر. ثمة قاسم مشترك بين محاولات الأمم المتخلفة للنهوض واللحاق بمن يسبقها هو السعي لحيازة الكفاءة ، ونحن تخلينا عن ذلك، استعضنا عنه بحيازة النخبة للكفاءة، ثم بحيازة أجهزة السلطة للكفاءة، والنتيجة كانت أن أحدا لم يرتق إلى المستوى اللازم من الكفاءة. بل باتت عجلة الطاحونة العربية تدور لتطحن ما يتوافر من كفاءة لدى البشر وعند الطبيعة وبتنا بلا نخبة. عقد أسلاك الكهرباء العنكبوتية في الأحياء السكنية التي نبتت كالفطر في محيط العواصم العربية وبدون ترخيص قانوني، هي من نفس زمرة دم لوحات الإعلان عن تخصص هذا الطبيب أو ذاك في الشوارع الرئيسة لتلك العواصم، فلا في التعليم ولا في المحاماة و القضاء ولا في الهندسة والطب، ولا في الدهان والبلاطة ولا في التمديدات الصحية وصيانة الآليات لدينا الحد الأدنى من الكفاءة . وليس لدينا أيضا وهذا هو الأهم معايير للكفاءة ولسبب بسيط هو أنها مؤذية، فهي تكشف عورات الجميع بدون استثناء؛ تلك هي الحالة التي نعيش والتي لا بد من الأحكام العرفية لحمايتها. رغم الشتائم التي وجهت للعمل المديد بقوانين الأحكام العرفية، فإن لتلك القوانين ما يجب الاعتراف به؛ فهي وببساطة القوانين الوحيدة النافذة، وهي التي تستر اليوم ليس عجز السلطة و المعارضة وتخلفهما فقط؛ بل وضحالة الكل. ففي حالة افتراضية تتوافر فيها معايير طبيعية وليست عرفية للقياس، ربما 00 ربما نفس النسبة التي ينالها الزعماء العرب في الانتخابات الرئاسية ستكون هي نسبة من يطرد من سلك التعليم ومن الطب والهندسة والدهان والبلاط والصحية ومن الثقافة ومن المعارضة ومن السلطة بسبب نقص الكفاءة المزمن. الأحكام العرفية (والأعراف العرفية)؛ تعبر عن خصوصية تخلفنا. خصوصية مميزة تظهر مجتمعاتنا وكأنها لا تستطيع العيش بدونها، وتطالب الغرب بالكف عن انتقاده. لكن وللأسف نحن لسنا في جزيرة معزولة كي نمتع بذلك التميز من غير إزعاج. توحيد المعايير في التجارة والإدارة والإنتاج الصناعي والزراعي بات مطلبا كونيا، بل قانونا يحكم تطور العلاقات في الكرة الأرضية، والارتقاء إلى تلك المعايير يتعارض وبشدة مع تناذر نقص الكفاءة الذي نعيش والذي لا يوجد ضابط له في حقيبة الأحكام العرفية العربية السائدة. بل يمكن القول أن السائد عموما(في السلطة وفي خلايا المجتمع)ينطلق من أن الكفاءة العرفية(المبجلة) تتراجع بتقدم كفاءة المجتمع، وهكذا تحول الزمن إلى آلة تدور لتطردنا إلى حيث لا يرغب أحد أن يتواجد.

لماذا حصل ذلك ؟. في الفرض نقول: أن المطلوب هو النهوض والتطورالإيجابي، وأنه وطوال قرون الانحطاط المحلي (الإستبداد) اضمحل كمون المجتمعات العربية وتنامى كمون المجتمعات في الشمال بتسارع حاد فبات الفرق هائلا. وما كان لحقل طاقة ذلك الشمال أن يسمح لحقل طاقة مجتمعات الجنوب بأن يعلو سقفا مرسوما له. هكذا بات على المجتمعات العربية أن تنتج ما يكفي لمواجهة حقل التخلف الداخلي وحقل استبداد القوة الخارجي. على الجبهة السياسية، وفي محاولة لإيجاد حل للمسألة؛ استنسخ اليسار العربي فكرة الحزب القائد وملحقها(القائد)، فالصيغة تتآلف مع تخلفه من جهة وتعطيه شكلا ثوريا ينتسب به إلى نادي الحداثة من جهة أخرى. سرت حمى تشكيل الأحزاب القائدة، وزخرت الشوارع بقادة يبحثون عن فرص لإنقاذ أممهم وأوطانهم جنبا إلى جنب مع أمراء الأحزاب والجماعات الدينية. عموما كان استنساخ اليسار رديئا بالمقارنة مع حزب لينين*، فغالبا ما أسفر الطلق عن رأس فقط 00رأس يعتقد أنه جسد كامل، ويصر على ذلك. هكذا ولعقود راوح الجمع في مكانه باحثا عن جواب شاف للأوجاع في تشوهات العلمانية السياسية أو في تشوهات السياسات الدينية. هذا لا يعني أن مجتمعاتنا لم تدافع عن نفسها، بل فعلت وما زالت لكن محاولات زراعة خمائر التغيير للبنية التحتية التي قدمها الفن والفكر والعفوية المجتمعية كانت تسقط في شباك السياسة قبل أن تتم عملية تلقيح التربة بها، ومع تسلسل الأيام والسلطات أنجز أو كاد عزل المجتمع. ربما أمكن القول أن الفساد الأعظم الذي نرزح تحته هو فسادنا الحضاري الذي نخبئ عورته بالتقدس، فالكل مقدس، أو نظيرا للمقدس. ليست ثقافة حقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة هي التي تشغل أدمغة غالبية المثقفين العرب. بل هي وكما يلوح في الأفق ثقافة القوة(نظير المقدس). ربما أمكن القول: أن المدخل إلى محاربة الفساد الاقتصادي، والإداري الذي يعصف بنا على اتساع رقعة الوطن العربي، والذي قد يحولنا قريبا إلى شعوب جائعة؛ ربما هو في التطور نحو حضارة تعيد للسؤال اعتباره.

أن نعبر إلى حضارة السؤال أمر يحتاج إلى معرفة الطريق، وذلك ليس بيد فرد أو جماعة هو أمر يحتاج لإدراكه فيضا من الأسئلة يشارك في اكتشافها وفي طرحها كل فرد.

علي محمد 3-10-2004

*- في كتابه نحن والغير قال بو علي ياسين : نأخذ روح البروليتاريا المفترضة ، وهي الاشتراكية العلمية، وننفخها في أجساد فئة من المثقفين المتحدين في رابطة جديدة ، هي "الحزب الثوري" لكي تقوم هذه العصبة بدور البورجوازية والبروليتاريا معا.

*- في العقدين المنصرمين حققت بعض الفصائل الإسلامية خطوات نوعية في ميدان العمل المجتمعي وفي ميدان صناعة القوة لمواجهة حقلي الاستبداد المحلي والخارجي. بينما انكفأت بعض فصائل اليسار وطرحت خدماتها على الحقل الخارجي بذريعة مواجهة الحقل الداخلي.