حصيلة الأقدار

يبدأ يومى الترفيهى من بعد العاشرة مساء.أكون قد انتهيت من حصتى اليومية من القراءة والكتابة، فأعطى لعقلى فسحة من الراحة يتوقف فيها الزمن عن الزن. فى معظم الأحيان أفتح قناة عربية محددة تذيع كل يوم وصلة غنائية كاملة لأم كلثوم يمتد زمنها الى مايقرب من الساعة أو يزيد فى بعض الأحيان. أشارك الفرقة الموسيقية العزف على عودى سماعيا بعد أن أعرف من جوجل اسم المقام الذى تعزف عليه الأغنية.متى عرفت المقام فقد عرفت مواقع العفق على قصبة العود ، ثم أتأكد من مطابقة ذلك للحن اعتمادا على أذنى العاشقة للموسيقا. أنفعل أحيانا مع اللحن ومع انفعالات أم كلثوم لدرجة البكاء. أنظر بقدسية الى محمد عبده صالح عازف القانون والى محمد القصبجى عازف العود اللذان يتفننان بإخلاص أخناتونى فى الذوبان والتناغم مع انفعالات أم كلثوم وألحان عمالقة النغم. أرى فى يقينى أنهما لايعزفان ، وإنما يصليان فى محراب خلف إمامهما الست، وهما يتابعان خلجاتها وحركاتها وسكناتها وتمايلاتها وارتعاشاتها وتشنجاتها ، بعشق يذيب كلا منهما ذوبانا كاملا فى حالة الفن الخالص الذى يعيشانه معها. لايغيب عن خاطرى لحظة أن الجميع قد ماتوا: المطربة والعازفون والجمهور المتأنق فى ملبسه وفى التعبير المتحضر عن إعجابه بغناء الست ، مدركا أن ما أراه وأسمعه هو مجرد تسجيل صوتى مرئى لماض ولى وانتهى ولن يعود ولن تعود أيامه. أشعر بالأسى وقد حل فى زمانى هذا أقزام شائهة محل رياض السنباطى وبليغ حمدى . أجاهد كثيرا حتى أتخلص من هذا الشعور وأستمتع باللحظة الحاضرة، فى غياب للجثامين الثلاثة عن خاطرى تماما.

  عقب انتهائى من العزف مع انتهاء الأغنية أو القصيدة ، أضع العود جانبا محاولا السيطرة على أنفاسى اللاهثة من حدة الانفعال، خاصة فى ختام قصيدة الأطلال التى تدق فيها ضربات الدف بقوة رهيبة تشعرنى بعنف ضربات القدر حين تقترب الأشياء من النهاية فى دنيا الزوال.

  بعد ذلك أظل أقلب فى قنوات التليفزيون باحثا عن فيلم سينمائى جيد أو حوار سياسى أو قضية اجتماعية مثارة فى أحد البرامج، أو أى عمل انسانى راق يغرى عقلى بالمتابعة ووجدانى بالانفعال. أنام بعد ذلك مباشرة ، فلا سهر مع أصدقاء ولا سفر الى بلاد الله داخل مصر أو خارجها ، ولا صعلكة فى الفنادق والملاهى الليلية بصحبة الصديقات والأصدقاء الذين لا أستطيع اليوم أن أحصيهم عددا، والذين مازالت ضحكاتهم وقهقهاتهم تجلجل فى أذنى. أصبح البقاء فى البيت هو الشىء الوحيد الممكن بعد أن رحل معظم هؤلاء الأصدقاء ، واختفى الباقون بسبب السفر أو الهجرة أو المرض أو انشغالات الحياة الأخرى. هكذا أظل أتابع ما أشاهده بدرجة اهتمام لاتتجاوز الحيادية وأحيانا اللامبالاة ، وذلك بعد أن تجرعت ملالة الأحداث والأزمنة والأمكنة والمخلوقات. لا أشعر بنفسى بعد ذلك الا عند أذان الفجر الذى يصل الى عبر ميكروفونات زاعقة صارخة من المساجد الكثيرة المحيطة بالبيت.

  عندما أصحو للصلاة لا أفكر فى أموات أو أحياء ، وإنما أفكر فى اللغز الأبدى والمعضلة الكبرى لوجودى على قيد الحياة. أما عندما لا أجد مايروقنى فى التلفزيون ، فإنى أتجه الى الراديو وأفتح محطة الأغانى أحيانا ، أو محطة القرآن الكريم أحيانا أخرى.

  كان اليوم جمعة ، ومن المعروف لجمهور الاسكندرية وعشاق إذاعتها المحلية العتيقة أنه فى تمام العاشرة والنصف من مساء كل جمعة تذاع سهرة تمثيلية درامية أو كوميدية تستمر لمدة ساعتين. أحيانا يذيعون ملخصا مضغوطا فى ساعتين لأحد المسلسلات الدرامية الشهرية التى سبق إذاعتها ولو من عشرات السنين.

  منذ عشرات الأعوام عندما كانت تذاع سهرة تمثيلية من تأليفى ، كنت أقلب الدنيا وأتصل بطوب الأرض فرحا متباهيا ، مطالبا الجميع بالاستماع وإبلاغى بالرأى بعد الانتهاء. لم تكن وسائل الاتصال الاجتماعى الحالية قد ظهرت ، وكان الهاتف الأرضى هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للاتصال. بعد انتهاء التمثيلية لاينقطع رنين جرس التليفون. الأخوة والأخوات وأبناؤهم وبناتهم ومعظم الأقارب والأصدقاء يهنئوننى على العمل ويتمنون لى دوام التوفيق والتألق والانتشار فى دنيا الإبداع. أحيانا كنت أعد قائمة مكتوبة بالأسماء قبل إذاعة التمثيلية بيوم على الأقل، وأتصل بهم على فترات زمنية متقطعة- تجنبا للملل-  لأحيطهم علما بإسم التمثيلية وموعد إذاعتها.

  اليوم وقد مضى ما يقرب من نصف قرن على بدء إذاعة أعمالى بالإذاعة، مازالوا يذيعون تمثيلياتى، لكن أحدا من العاملين بالإذاعة لايكلف خاطره ويخطرنى ولو من باب المجاملة بأنهم سيذيعون عملا من أعمالى حتى أستمتع بإبداعى وأسعد به.رغم ذلك فإنى ألتمس لهم العذر ، فكل العاملين بالإذاعة الآن شباب ذوو ثقافة محدودة لايعرفون حتى أسماء كتاب الاسكندرية المشاهير فى مصر والبلاد العربية . هم يؤدون عملهم كموظفين ولا يعبأون بشىء آخر. حتى الأجهزة التى يعملون عليها أصبحت بالية متقادمة لم تخضع حتى اليوم للتجديد أو التطوير. عموما لم يعد هذا يزعجنى كثيرا منذ أن اعتدت على أن كل شىء فى بلادى آخذ فى التدهور والانهيار.

  الوحيد من بين أصدقائى القدامى من عشاق إذاعة الاسكندرية وبصفة خاصة سهراتها الأسبوعية ، هو الفنان القدير على الجندى الحاصل على وسام الدولة للفنون. أحد المتبقين القلائل من رفاق رحلة الفن والإبداع التى عشناها معا بحلوها ومرها . كلما أذاعوا لى سهرة أو ملخصا مضغوطا لأحد مسلسلاتى الشهرية السابق إذاعتها، اتصل بى على الفور قبل العاشرة والنصف بقليل لينبهنى الى الاستماع الى عمل من هذه الأعمال التى رحل معظم مخرجيها وممثليها على مدى سنوات العمر الفائتة والتى بلغت ستة وسبعين عاما حتى اليوم، شهدت خلالها بعينى رأسى دفن الجثامين الثلاثة.

  اتصل بى اليوم ليخبرنى أنهم سيذيعون لى اليوم سهرة تمثيلية كوميدية بعنوان:"المتعوس وخايب الرجا". على الفور تذكرت فكرتها الأساسية، وإن لم تحضرنى التفاصيل لمرور ما يقرب من خمسة وأربعين عاما على كتابتها وإذاعتها. سألت نفسى على الفور:

-         بمن أتصل لأبلغه بالنبأ حتى يشاركنى متعة الاستماع؟

فكرت طويلا قبل أن أتأكد من صحة الإجابة التى لامفر منها وهى:

-         لا أحد!!

-         لماذا؟

كى أجيب لنفسى عن هذا السؤال ، كان لابد أن أبدأ بأهلى: أمى وأبى وأخوتى وأخواتى. لكنهم رحلوا جميعا عن هذا العالم المدهش، ولم يبق منهم الا شقيق واحد يعالج الآن فى أمريكا. ثم أتبعت الأهل بالأصدقاء الحميمين فوجدت أنهم ماتوا جميعا بلا استثناء. أما من بقى منهم على قيد الحياة فهم لايرقون الى مرتبة الأصدقاء. يمكن تسميتهم بأى مسمى آخر مثل"المعارف". هؤلاء المعارف لم يعد يهمنى أمرهم ، سواء استمعوا الى تمثيليتى أم لم يستمعوا، فضلا عن أن اتصالى بهم قد انقطع منذ زمن طويل ، فلم أعد أذكر أرقام هواتفهم ، كما أستبعد أن يكون لهم حساب على وسائل التواصل الاجتماعى ، فمعظمهم لايعترفون بهذه الوسائل ولم يفكروا فى اجتياز بواباتها السحرية. حقيقة الأمر أننى لم أعد أرغب فى الاتصال بهم ، رغم أنى زاملت بعضهم فى الجامعة وبعضهم فى العمل المهنى وبعضهم فى الوسط الأدبى والفنى الذى مازلت أنتسب اليه حتى اليوم، بل وأعتز بهذا الانتساب.

  أتبعت الأهل والأقارب بأقرب الأقربين الى حياتى ، وهى زوجتى العزيزة التى لم تعد تقرأ مؤلفاتى أو تستمع الى تمثيلياتى أو تحضر ندواتى. هى الآن فى غرفتها ، وبابها مغلق عليها، تتابع البرامج التلفزيونية وتجرى المكالمات الهاتفية مع أولادها. لم تعد تنام معى فى غرفة واحدة منذ زمن طويل بسبب شخيرى المزعج أثناء النوم. فكرت أن أذهب اليها لأخبرها بهذا النبأ، لكنى رأيت أن أتحاشى شعورى بالصدمة والخذلان حين تقول لى كعادتها بابتسامة ذكية محبة :

  - أنا عارفاها. سمعتها من زمان. حلوة قوى

ثم لا تتحرك من مكانها ولا تسأل عن الراديو، فأضطر للعودة الى غرفتى وإغلاق بابها على أنا الآخر. اعتدنا على ذلك منذ تزوج الأولاد ولم يبق بالبيت غيرنا ، زوجين متحابين صامتين يقاومان ملالة الزمن. ثم ان ابنى الأكبر لن يستطيع الاستماع الى التمثيلية أيضا ، فهو يعيش ويعمل فى دولة الامارات العربية، أما ابنتى الوسطى فهى تعيش مع زوجها بالقاهرة وليس لديها جهاز راديو لعدم احتياجها اليه حسبما قالت لى من قبل.

  يبقى ابنى الأصغر الذى لايهتم بغير مباريات كرة القدم العالمية وأفلام الرعب والخيال العلمى. اذن فليس هناك من دافع يدفعنى الى الاتصال بمخلوق ليشاركنى الاستماع الى عمل من إبداعى ، بذلت فيه من جهدى وطاقتى وعمرى لأقدم من خلاله للناس ما استطعت من فكر وفن.

  مقدورى أن أستمع الى إبداعى وحيدا لايشاركنى فى ذلك أحد من العالمين . من المؤكد أن سعادتى ستكون بلا طعم ولا معنى متى افتقدت المشاركة الانسانية، فالسعادة لاتعنى شيئا مالم يشارك فيها الأحبة من الأهل والأصدقاء والعشيرة. هنالك فقط يصبح للسعادة طعم ومعنى.

-         ولماذا نسيت عشيرتك من أهل القلم؟

-         لأن معظمهم ماتوا، وأما من تبقى منهم فإن الغيرة تمنعهم من مشاركتى هذه اللحظات السعيدة، فلا مبرر لأن أبلغهم بموعد السهرة فأثير أضغانهم وأحقادهم ، فضلا عن ثقتى بأنهم لن يستمعوا اليها.

-         فلماذا لم تعلن النبأ على الفيس بوك كما كنت تفعل دائما ، خاصة وأن عدد أصدقائك قد تجاوز عدة آلاف؟

عندما سألت نفسى هذا السؤال تذكرت المئات من الفقرات القصصية، التى ملأت بها صفحات حسابى على الفيس بوك بعد أن اخترتها بعناية من بين مؤلفاتى الروائية. تذكرت كلمات الإطراء والإعجاب التى تجاوزت حدود الصدق الى المبالغة، والتى تحمل قدرا كبيرا من المجاملة لسبب أو لآخر. كانت كارثة التنافس فى ذلك الوقت تحيق بى ، مثلما كانت محبة التميز تؤرقنى ، فأندفع الى إثبات الوجود والتأكيد عليه بشدة ، رغم أننى أرى اليوم ألا أهمية له على الاطلاق.

  اليوم أسأل نفسى مرة أخرى: ماذا أستفيد بعد هذا العمر من نشر هذا الخبر على صفحتى انتظارا لردود الأفعال المرتقبة والإهتمام المؤكد؟ بينما الحقيقة أننى لم أعد بحاجة الى مثل هذا الاهتمام أو الى كلمات المديح والثناء.لقد أصبحت أكثر سعادة بالاستغناء عن معظم رغباتى من الحياة، فلا الشهرة ولا المال ولا المنصب أصبح أحدهم يشكل جانبا ولو ضئيلا من دائرة اهتماماتى الانسانية...

  حدث ذلك منذ اليوم الذى أصبحت تطاردنى فيه الجثامين الثلاثة و تلازمنى ذكراهم فجر كل يوم قبل الصلاة وبعدها. أراهم ممددين أمامى ، مرصوصين فى صف واحد وأنا جالس بجوارهم فى المسجد قبل الصلاة عليهم ، رغم أنهم ماتوا فى سنوات متعاقبة مختلفة..

  ما الذى أفيده من هذه الدنيا حينما يقول الناس عنى إننى كاتب عظيم، وما الذى يمكن أن يضاف الى وجودى لو شهدت أمة خلقه بأننى كاتب متميز متفرد ، استثنائى لن يتكرر؟..طظ!!..كل هذا أصبح عندى هراء لامعنى له منذ أن التصقت الجثامين الثلاثة بذاكرتى دون أن أعرف لماذا أو كيف. سبق أن بكيت بحرقة حين رأيت جثمان أمى وهم يهيلون عليه التراب فى مقابر أبى قير وأنا غير مصدق لما أرى. كما سبق أن بكيت ولكن بحرقة أقل على العديد من الأقارب والأصدقاء المقربين الذين تعرضوا لنفس المهزلة الحتمية المؤكدة. أما هؤلاء الثلاثة الذين ارتبطوا عندى بفكرة الاستغناء والقبول بالوحدة والرضا بها ، فهم أخى الأكبر كمال وصديقى الأديب محمد الجمل وزميلى فى العمل خليل نعيم.كان كمال هو الساعد الأيمن لأمى فى تربيتى ورعايتى منذ فقدت أبى وأنا طفل فى الثانية من العمر. كان الجمل رفيقى فى طريق القلم ، سافرنا معا الى امريكا والعراق وسهرنا وأكلنا وشربنا وسكرنا وشهدنا الندوات والمؤتمرات. كل هذه الحيوات راحت وأصبحت مختصرة فى جثة داخل كفن. خليل كان المدير المالى للشركة التى عملت بها. كم أعددنا معا من دراسات الجدوى لمشاريع عديدة وناقشناها مع الخبراء الأجانب. كنا نذهب معا الى الشركة ونعود منها فى عربة واحدة ، لاتقل أحدا سوانا ، وكنا نضحك كثيرا ونتبادل النكات والقفشات والسخرية من أحوال الحياة. أرواح ثلاثة استحالت الى جثث صامتة مصمتة.

   منذ لازمت مخيلتى الأكياس القماشية الثلاثة التى احتوت على ثلاثة أجساد ساكنة ، لاتشعر ولا تحس ولا تسمع ولا ترى ولا تفكر،وأنا أتصور نفسى – فى كل فجر – ملفوفا فى الكيس الرابع القادم اليهم فى الطريق لأوضع بجوارهم فى نفس الصف وأنا أصلى عليّ ، ثم أمشى فى جنازتى. حينئذ أشعر شعورا عميقا ينخر فى أعماق القلب بأن الوحدة هى حصيلة الأقدار ونهايتها ، وأن التعايش معها أصبح أمرا محتوما لايصح أن يواجه برفض أو استنكار ، وإنما التعايش الآمن معها هو البديل الوحيد لسلام العقل انتظارا للنهاية.

  بعد انتهاء التمثيلية وجدت نفسى أتصل بعلى الجندى لأسأله ان كانت أعجبته ، مع ثقتى بأنها قد أعجبته بالفعل. قال لى انها والله تحفة أدبية رائعة ، ودعا لى بالصحة وطول العمر ، ثم سألنى بفضول:

  - ماذا تفعل الآن؟

قبل أن أفكر فى إجابته تزاحمت فى رأسى صور وأصوات لا حصر لها. الكثرة الذين رحلوا والقلة الذين تبقوا والجثامين الثلاثة وصوت ضربات الدفوف العنيفة فى نهاية قصيدة الأطلال، وأم كلثوم وهى تصرخ شادية أن كل شىء بقضاء ، وأننا لم نخلق بأيدينا تعاستنا ، وأنه لاينبغى أن نقول إننا شئنا شيئا ، فالحظ هو الذى شاء.

  استطعت بمعجزة كونية أن أخترق حصار الصور والأصوات والكلمات والألحان والجثامين وصوت أذان الفجر ، ثم أجبته قائلا:

-         لا شىء..أجلس وحيدا فى انتظار النوم!

****

سعيد سالم

ديسمبر2019