حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم

مما لاشك فيه أن الحرية هى القوة الدافعة لكل الناس والأفراد..لكنها تصبح مجالا حرجا عندما يتعلق الأمر بالدولة والسياسة والدين، فالثلاث يمثلون الحرية الفكرية وهى مساحة حساسة فى سلسلة من الجدل ترتبط بحرية الاعتقاد التى كانت موضع نقاش رئيسى فى حوار الحضارات، ولذا فالمنظور الإسلامي للأمر يعتبر من الأهمية بقدر لأنه يشكل رؤية المسلمين حول الموضوع.
نحن نعيش فى عصر يشدد فيه المجتمع الدولى على نداءات السلام بصفة مستديمة، لكن الواقع السياسى يعكس موجات من المواجهات العدائية التى تأججها الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..ولما كان المسلمون جزءا من تلك المواجهات ، كان عليهم أن يتصدوا لوصمة الإرهاب الدينى.
 البعض يعتقد أن الأمر قد حُسم بفعل الدساتير النى كفلت حرية الاعتقاد، لكن هذا أمر يخالف الواقع، فالمسألة تقع فى إطار الإيمان لا الدساتير أو القوانين، فحرية الاعتقاد تترفع على أن تكون حقا يهبه الإنسان للإنسان.
ولما فشلت الدساتير والهيئات القانونية فى حسم الأمر كان من الضرورى دراسته فى ضوء القرآن الكريم الذى يعكس رؤية المسلمين للأديان الأخرى. كان كتاب (حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم) للكاتب التونسى عبد الرحمن حللى جهدا محمودا  فى هذا المضمار.برغم صدوره عام 1989 فهو يتفرد دون غيره بوجه نظر فريدة: الجديد فى الكتاب ــ الذى قمت بكتابة عرض له منذ عدة سنوات بعد أن اخترته من بين عشرات العناوين المشابهة ــ أنه يركز بجانب التفسيرات القرآنية وأراء الفقهاء على الدراسات التى أنجزت فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.
اتسمت علاقة المسلمين بغير المسلمين بالتسامح على مر التاريخ الإسلامى.فبينما محت أوروبا كل أثر للحضور الإسلامى فيها، احتفظ العالم الإسلامى بأقليات مسيحية ويهودية و زوردشتية، لكن لم تعف تلك السياسات المتسامحة الباحثين من تناول القضية من وجهة نظر فكرية فتطرقوا لمسائل شديدة الحساسية كالجهاد والردة والجزية وغيرها مما قد يكون له أثر سلبي أو إيجابي على حرية الاعتقاد.
لقد اكتسبت القضية مزيدا من الأهمية بعدما بدأت الأمة الإسلامية تأخذ بنموذج الدولة الحديثة.شدد حللى على أن الدراسات الحالية تركز على أحقية المسلم فى أن يمارس حرية الاعتقاد...يقول الكاتب بما أنها المرة الأولى التى تناقش القضية من وجهة نظر قرآنية بحتة، كان عليه أن يواجه صعاب شتى: أولها غياب مصطلح (حرية الاعتقاد) فى مصادرالإسلام الكلاسيكية وثانيها غلبة الطابع الفلسفى على المصطلح فى حالة العثور عليه وثالثها ارتباط الموضوع بقضايا سياسية وتاريخية وفقهية.
يأتى الكاتب بست آيات قرآنية من شأنها أن تمهد لثبوت حرية الاعتقاد فى الإسلام:
الأولى : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة 256)
الثانية:  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس 99)
الثالثة: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر 15)
الرابعة: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(هود 28)
الخامسة:  لكم دينكم ولى دين (الكافرون 6)
السادسة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف 29)
فمعانى الآيات واضحة وصريحة فهى تشدد على أنه لا إكراه فى الدين، فلو شاء الله لآمن جميع من على الأرض ومهمة الرسل تقتصرعلى تبليغ الرسالة وليس على فرضها. لقد حبا الله الإنسان الإرادة فإذا ما بُلغ رسالة الرسل فإنه يختار الطريق الذى تمليه عليه إرادته لكن لا يمكنه أن يجبر غيره على اعتناق أى دين باستخدام القوة. فما ( لكم دينكم ولى دين) إلا المبدأ الذى يجب أن يفصل بين فئتين تتنازعان بشأن العقيدة.
يأتى حللى بآيات اخرى غير مباشرة تؤكد نفس النتيجة، فلا إكراه فى الدين لأن الله شاء أن يعيش الناس على الأرض كأمم وقبائل مختلفة.
 (فلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون يختلفون (هود118)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس 19)
جميعها  تشدد على أن الله شاء ألا يكون الناس أمة واحدة..فحكمته أبت إلا أن يخضع الإنسان لاختبار الاختيار و يحاسب على أساس  الحرية التى وهبه الله إياها.. فالله فى نهاية الأمر يفصل بين الناس يوم القيامة. أما مهمة الرسل فتتلخص فى حماية تلك الحرية ودعوة الناس وفق الرسالات السماوية التى تنبذ الإجبار.
ولما لام بعض الرسل أنفسهم على عناد أقوامهم فى قبول الدعوة، فإن الله أوحى إليهم بأنهم مسئولون فقط عن الجدل والإقناع فلا  يحق لهم الإكراه والإجبار..
فالله أودع فى وعى الإنسان النزعة الفطرية للحرية وشدد على جدواها فى خلق أفق من الفكر الإنسانى يسعى به الخلق إلى سبر أغوار الحقيقة واكتشافها، وبذلك تحرر فكر الإنسان من غلبة تأثير الإيمان بالمعجزات والخوارق عليه. فالعقل المتحرر من وطأة الخوارق وإملاءات الإجبار سيتمكن من الوصول إلى الإيمان عن طريق الفكر السليم.
فحرية الفكر واحدة من أعمدة الإيمان الحق..فلقد رفض الإسلام إتباع التقاليد والنماذج دون إخضاعها لسلطة العقل..فالتقليد الأعمى يتنافى ومبدأ الإختيار والمسئولية التى تترتب عليه.. فهى لا تناقض فقط الحرية ولكنه مرادف آخر للإجبار.
سبق نقاش الكاتب حول موضوع الكتاب تمييز هام بين حرية الإعتقاد والحرية الدينية.. فوفق ما يقول حللى إنه برغم من ارتباط الاثنين ببعضهما البعض، إلا أنه يجب أن نفصل المفهومين كل علن الآخر..فحرية الاعتقاد أكثر شمولية وتندرج تحتها الأفكار والمبادىء والمفاهيم، سواء كانت دينية أو غير ذلك..أما الحرية الدينية فترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من الواجبات والالتزامات.
لكن يحذر الكاتب من أن تترجم حرية الاعتقاد إلى حق شرعى للخوض فى معتقدات متنوعة..كما أنها يجب ألا تتطور إلى نوع من الجدل ضد الدين او الثورة على النظام الحاكم أو العبث بمعتقدات الآخرين وحقوقهم.  
يدور النقاش القائم فى النصف الثانى من الكتاب حول هذا التمييز..فلما وقعت الردة والعدوان على عقائد المسلمين..حُق الجهاد ضد محاولات و جهود منظمة كان هدفها إشاعة الفوضى فى الدولة الإسلامية وفرض القيود على حرياتها.
 لقد كانت حروب الردة  نوعا من حماية حق الاعتقاد..وأضحى استمرارها ضربا من ضروب ردع الأعداء لفرض عقائدهم على المسلمين. أما الجزية ففرضت فى وقت لم يعهد فيه للأقليات الدينية بالمشاركة فى الدفاع عن الوطن.ثم أصبحت بديلا للزكاة إلى أن سقطت تماما بعد تم أن إدماج تلك الأقليات فى الجيوش الإسلامية.